كلما أدخل واقعة الطف يستحضرني سؤال: ـ هل من الممكن دراسة الحسين عليه السلام كقائد عسكري حسب مفاهيم الكلية العسكرية الحديثة؟
سأرفض مثل هذه الدراسة على أساسين مهمين
الأساس الأول
ـــــــــــ
إن للعصمة قوانينها وضوابطها ولا يمكن أن تتفق أمور العصمة مع التقنين الحربي، العصمة تسقي الأعداء ماءً، والعصمة لا تستثمر الضربة الاستباقية، ولا تبحث عن الضربة القاصمة لآنها لا تبتدئ الحرب، وهذا يعني أنها تترك للأعداء فسحة التحضير والاستعداد والتكامل والمواجهة، ولها ساعة الانطلاق كما تريد ومثلما تختار.
الأساس الثاني
ـــــــــــ
أن الظروف التي أحاطت بالنهضة الحسينية وخروج الحسين عليه السلام من مكة إلى العراق كانت لا تناسب انتصاره عسكريا، ولا أقول أنها كانت تقتضي مزيدا من الاحتياط والتهيؤ، ولو من أجل العائلة المخدرة، وهذا محور شهادة من نصحه، وذكروا لتوجيه آرائهم أمور كثيرة لا تخفى على كثير من الناس فضلا عنه صلوات الله عليه.
إقدامه على نهضة كربلاء وما خلفه من تضحيات جسام ومعانٍ قاسية لا بد أن يكون لهدف آخر غير الانتصار العسكري.
لا بد آن تنتابني الحيرة من الأمر، مثلا لنأخذ ابن عباس وهو يحاوره ليثنيه عن الذهاب إلى الكوفة، نعم إلى الكوفة، لم يكن لكربلاء ذكرا ولم تكن لطفها أي دلالة ومجرد فكرة، يقول ابن عباس المحاور مع الحسين عليه السلام، كنا لا نشك وأهل البيت متواترون أن الحسين بن علي عليهما السلام سيقتل بالطف، قال ابن عباس: قد أرجف الناس أنك سائر إلى العراق بيّن لي ما أنت صانع؟
فقال صلوات الله عليه أجمعت السير، أجمعت المسير فحذره ابن عباس وأدى وجهة خوفه حتى قال الإمام عليه السلام: إني استخير الله وأنظر ما يكون.
ويرجع له ابن عباس ليقول له: إني أتصبر ولا أصبر، وليعيد عليه وجهة نظره عن الهلاك وأهل العراق واختيار البقاء في مكة والرحيل إلى اليمن؟ أجابه الحسين عليه السلام يا ابن عم أجمعت على المسير، القضية الصعبة ومكمن الصعوبة أنها تحتاج إلى إيمان، إيمان يفهم معنى الحسين عليه السلام، إيمان يعرف لغة التضحيات، لذلك برر الخروج بدعوة أهل الكوفة، تصميم الحسين عليه السلام، وتصميم العصمة من يفهمها ليفهمها، ومن لم يفهمها ربما سيفهمها بعد جيل.
الحسين عليه السلام محرج أن يقول لهم أسباب هذا التصميم التضحوي والرسالي تارة يريد أن يقنع الناس أنه خرج من مكة خشية أن تهتك به حرمتها، وحرمة الحرم، وفي حديث له مع جماعة فيهم عبد الله بن الزبير، لأن أقتل خارجا عنها بشبر أحب إلي أن أقتل فيها، وتارة يكتفي ببيان تصميمه على الخروج، ويتجاهل حسابات الناصحين، سوف أستغفر الله تعالى ويطيب خاطرهم بالشكر، وكان المعنى واضحا في قوله ليس يخفى عليه الرأي، لكن الله لا يغلب على أمره، وتكمن صعوبة التحليل بالنسبة لي على الأقل هو أن أترك رؤياه للنبي صلى الله عليه آله وسلم، هل هو مجرد حذر من الأعداء، فهو عليه السلام اعتذر بأنه رأى رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم في المنام، سألوه عن الرؤيا قال ما حدثت بها أحدا وما أنا محدث بها أحدا حتى القى ربي.
قلت أن مثل هذه الأمور تحتاج إلى إيمان مطلق بالعصمة، أما عن سر الرؤية فقال لمحمد بن الحنفية أتاني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بعدما فارقتك فقال يا حسين أخرج فإن الله قد شاء أن يراك قتيلا، فقال ابن الحنفية إنا لله وإنا إليه راجعون، فما معنى حملك هؤلاء النسوة معك وأنت تخرج على مثل هذه الحال، فقال شاء الله أن يراهن سبايا.
أنا أرهقتني مسالة مهمة، قول الحسين لأهل العراق لا تعجلوا حتى أعضكم ما هو حق لكم علي وحتى أعتذر إليكم من مقدمي عليكم، ما هو وجه الاعتذار، والحسين صامد على موقفه، انطلق يدافع بدافع إلهي لا تراجع ولا اعتذار عن حركة الإصلاح، يرى سماحة السيد منير الخباز أن الاعتذار هو موقع الحركة، خيار المنطلق المكاني هناك مدينة (مكة × المدينة × عراق × يمن) الحسين سلام الله عليه اعتبر المدينة ومكة منطقتان غير مناسبتين للحركة، باعتبار أنهما آمنتان، لا يريد أن تراق دماء ذرية رسول الله صلى الله عليه وآله فيها، أما أن يختار اليمن أو العراق، ليس المقصود أن يرجع عن الحركة، ولو لم تحدث في الكوفة لحدث في اليمن، وإلا كان يمكن أن تنتهي القصة بكلمة على قول مروان، (كلمة ما البيعة إلا كلمة)، وعند قيس بن الأشعث: ـ انزل على حكم ابن عمك، لم يكن الاعتذار أصل الحركة.
وأنا بصفتي أحمل هوية التلقي، المرسل إليه، أرى أن الموضوع أعمق بكثير مما ذكره سماحه السيد منير الخباز، كتأملنا في قول المبرد (ضحى بني أمية بالدين يوم كربلاء) ويسأل يحيى بن الحكم أخو مروان ما صنعتم حجبتم عن محمد يوم القيامة، لن أجامعكم على أمر أبد ثم قام فانصرف، وعبد الملك بن مروان يقول أني رأيت بني حرب سلبوا ملكهم لما قتلوا الحسين بن علي عليه السلام.
زهير بن القين وصل إلى قلب الحكمة، إلى معناها وعقلها، عندما خطب قال لهم: إن
الله ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد صلى الله عليه وسلم لينظر ما نحن وانتم عاملون.
وفي خطبة فاطمة بنت الحسين عليه السلام ابتلانا الله بكم وابتلاكم بنا فجعل بلاءنا حسنا ورأيتم قتالنا حلالا وأموال لنا نهبا كأننا أولاد ترك أو كابل، كما قتلتم جدنا بالأمس، تبا لكم فانظر اللعنة والعذاب.
معنى الاعتذار، هو أننا كنا سبب ذهاب دينكم ابتليتم بنا فأسأتم الامتحان، وابتلينا بكم فصبرنا، هذا الابتلاء هو امتحان.
المجالس والمؤتمرات والبحوث تناقش اليوم قضية النهضة حسب مفاهيم موضوعة، والوضع يعني قياسات كل مدرسة ومذهب وقوم، يروي ابن عساكر بأسانيد متعددة إلى يحيى بن يمان قال أخبرني أمام مسجد بني سليم قال غز أشياخ لنا الروم فوجدوا في كنيسة من كنائسهم مكتوب على جدار المعبد (كيف ترجو أمة قتلت حسينا ... شفاعة جده يوم الحساب)
سألهم منذ كم وجدتم هذا الكتاب في الكنيسة قالوا قبل أن يخرج نبيكم بـ 60 عام، وروي بأساليب أخرى بنفس المعنى، بمعنى أن الحدث مهم وقد أطلع الله عليه أنبيائه كما أطلعهم على رسالة النبي صلى الله عليه وآله وسلم، الخاتمة للرسالات وهذا الحدث نفسه من الأحداث المهمة المتعلقة به، رسالة الحسين عليه السلام بجملة واحده اختصرت الواقعة كلها وأسبابها وأهدافها ومرجعيتها، (أما بعد، من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat