ضربة علي يوم الخندق -تأملات في التاريخ والعقيدة-
د . الشيخ عماد الكاظمي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . الشيخ عماد الكاظمي

في محاولة موجزة لبيان مناقب أمير المؤمنين علي بن أبي طالب "عليه السلام" الذي قال فيه النبي محمد صلى الله عليه وآله وسلم: (أنَّ لأخي علي بن أبي طالب فضائل لا تحصى، فمن ذكر فضيلة من فضائله ..) يحاول هذا القلم أنْ يكتب بسطور ذلك؛ لإحياء أمرهم صلوات الله عليهم، وبيان جزء من مقامهم في الأمة، وأهمية ووجوب الاعتقاد بهم، والتمسك بمنهجهم عقيدةً وولاءً، وسيكون ذلك في محاور بعد مقدمة.
مقدمة📖:
إنَّ الحديث عن فضائل الإمام علي "عليه السلام" يعني الحديث عن تاريخ الإسلام الخاص بعصر التشريع منذ نزول الوحي إلى رحيل النبي الأكرم "صلى الله عليه وآله وسلم" حيث كان معاصرًا لتلك الأحداث في نشر دين الله تعالى على مدى ٢٣ عامًا بأيامها ولياليها وساعاتها مع النبي في سرَّائها وضرَّائها بما لم يتحقق لبشر آخر غيره، بل تحمَّل في سبيل الحفاظ على الشريعة المقدسة بعد رحيل النبي مدى ٣٠ عامًا ما لم يتحمله أحد من المسلمين مطلقًا أبدًا، وقد حفظ الله له تلك التضحيات العظيمة المخلصة ظاهرة وباطنة فبيَّن للأمة مقامه ومنزلته حيث جعله وصي النبي وإمام الأمة بعدها بنصوص القرآن الكريم، وتم تأكيدها من قبل رسول الله في مواطن كثيرة، ومن أعظمها يوم الأحزاب أو معركة الأحزاب العصيبة.
أولًا: الوصف القرآني الموجز ليوم الأحزاب العصيب📖
لقد كان يوم الأحزاب وواقعته من أصعب أيام المسلمين بل من أيام الإسلام في التاريخ، ويمكننا معرفة ذلك من خلال الصورة المهمة التي يذكرها القرآن الكريم في مجموعة معينة من آياته، إذ قال تعالى: ((يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّـهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَجُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَكانَ اللَّـهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً* إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّـهِ الظُّنُونَا * وَإِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّـهُ وَرَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً)).
فلنتأمل في بعض ما يتعلق بتلك الأجواء العامة للمسلمين:
١- كثرة جنود العدو وأحزابهم للقضاء على الإسلام.
٢- العناية الإلهية في نصر الدين حيث إرساله الريح وجنودًا من الملائكة.
٣- بيان مدى تجمُّع المشركين واليهود حيث من فوقكم.
٤- ومن أسفل منكم كناية على مدى كثرتهم واستعدادهم.
٥- الصدمة التي أصابت المسلمين حيث زاغت أبصارهم عندما رأوا كل ذلك برغم وجود النبي معهم.
٦- مدى الخوف الشديد للمسلمين حيث بلغت القلوب الحناجر كناية عن الهلع الذي أصابهم برغم وجود النبي معهم.
٧- مدى الشك وضعف العقيدة عند المسلمين حيث الظن بالله بما لا يليق به، وهي حالة غير ملائمة لهم أبدًا.
٨- الاختبار الشديد والمحنة التي كان يعاني منها المسلمون آنذاك عندما كانوا ينظرون إلى تلك الجموع الكبيرة للعدو برغم وجود النبي معهم.
٩- كشف الله تعالى حقيقة عقيدة بعض المسلمين أو أكثرهم حيث كانوا من المنافقين، وليسوا من المؤمنين الراسخين من أجل الدين.
١٠- إبراز واقع بعضهم وما حقيقة قلوبهم المنحرفة ومرضها العَقدي إذ يتهمون الله ورسوله بأنه قد أغراهم بالنصر.
فهذه عشرة صور بإيجاز وهي أكثر لواقع المسلمين آنذاك.
وهي تحتاج إلى نقاش وتحليل ومحاكمة ولكن لا يسع المجال بيانه.
ثانيًا: تاريخ معركة الأحزاب📖
مما تم ذكره في الوقائع التاريخية أنها كانت في السنة (٥ هج) الخامسة للهجرة النبوية فضلًا عن الاختلاف في شهرها.
يعني أنها وقعت بعد بعثة النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" (١٧) بسبعة عشر سنة، وهذا يعني أنَّ المسلمين الذين كانوا معه يُفترض أنْ يكونوا على مستوًى عالٍ من العقيدة والمعرفة والإيمان في الثبات والرسوخ والتضحية من أجل الدفاع عن الإسلام.
ولكن الوصف العام للآيات القرآنية المتقدمة وغيرها لا يظهر ذلك من جهة، وما سيتم بيانه كذلك من جهة أخرى.
وهذه الحالة للمسلمين الأوائل، ووجود المنافقين والذين في قلوبهم مرض تؤكد مدى معاناة النبي وإيذائه وهو يحاول بناء الدولة الإسلامية العظيمة القائمة أساسًا على العقيدة والتضحية بكل شيء من أجلها، ولكن للأسف لم يكن واقعهم كذلك، وهذه مقدمات لمعرفة مدى انحرافهم بعد رحيله!!!
ثالثًا: المقاتلون يوم الأحزاب عددهم وعقيدتهم📖
مما ورد في الأخبار إجمالًا أنَّ المشركين كانوا ١٠ آلاف، وأنَّ المسلمين كانوا ٣ آلاف.
وإنَّ المشركين بقيادة أبي سفيان ومن معه، واليهود والمتحالفون جميعهم كانوا في حالة شراسة تامة في الدفاع من أجل عقيدتهم في قتل النبي والقضاء على نور الإسلام، وهي معركة محورية وكبيرة بالنسبة لهم.
والمسلمون كانت للأسف عقيدتهم متفاوتة، بل ضعيفة عند بعضهم، أو غير راسخة عند آخرين، بل لعل أكثرهم كانوا على هذه الحالة، وقد بيَّن القرآن ذلك كما تقدم، وكما في آيات أخرى حيث يستأذنون النبي للرجوع من المعركة.
ولقد كان لوجود فارس المشركين الكبير "عمرو بن ود العامري" الذي يعدُّ بمثابة ١٠٠٠ فارس كما هو معروف له أثر آخر في إدخال الرعب على المسلمين، فاسمه كان يغني عن رسمه، فكيف اليوم وهو واقف أمامهم يتفاخر باسمه ورسمه!!
وسيفه وفرسه!!
ويستهزئ بعقيدتهم!!
ويناديهم بكل صلافة وغرور بعد أنْ عبر الخندق مَنْ يبارز؟!!! ولا أحد يجيبه!! أو يفكِّر بإجابته فضلًا عن استجابة دعوته!! وهم على هذا العمر التاريخي لإسلامهم، والنبي واقف بينهم وبجوارهم!!
فلم يكن ملبِّيًا استجابة ذلك المشرك العنيد إلا واحد من المسلمين، بل أوحدهم على الإطلاق في إيمانه وعقيدته وتفانيه وتضحيته من أجل دين الله ونصرته وهو علي بن أبي طالب، لأنه صاحب تلك الشهادة الإلهية بحقه في القرآن الكريم (رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه).
رابعًا: مشهد المواجهة بين علي وعَمْرٍو📖
إنه من أعظم مشاهد التاريخ العقدي في الإسلام وتاريخ المسلمين، حيث الأجواء واضحة بعد بيان ما تقدم.
وقبل بيان ذلك من المهم أنْ نعرف "عمرو بن ود العامري" ذلك القائد المشرك الكبير الذي أعده اليوم أبو سفيان لهذه المواجهة في القضاء على الإسلام كان:
-يعد بموازاة ١٠٠٠ فارس كما تقدم.
-وذو بدن عظيم مدجج بالحديد.
-ويبلغ من العمر ٨٠ عامًا تقريبًا، خاض في حياته الحروب، وقتل الأبطال.
-وكله ثقة بنفسه وغرور أنه لا يبارزه أحد، والأمر محسوم اليوم بحسامه!!
وأما الذي أعدَّه الله ورسوله لمواجهة ذلك المشرك وما هو عليه من خيلاء فهو "علي بن أبي طالب" الذي كان:
-يملك عقيدة لا يعلمها إلا الله ورسوله؛ لأنه رجل يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ويكفيه ذلك الحب أنْ يقف أمام فرسان الدنيا كلها.
-ويبلغ من العمر ٢٨ عامًا تقريبًا، ولم يشترك في معارك كثيرة.
-وكانت عقيدته راسخة في نصر الله تعالى لنبيه لا يشك بها قيد أنملة، وأنَّ النصر حليفه ولو كان جيش الأحزاب كلهم مثل عمرو بن ود العامري، فهو لا يبالي.
خامسًا: المواجهة التاريخية بين علي وعَمْرٍو📖
نزل عمر بن ود ينادي مَنْ يبارز؟!
فلم يقم من ذلك الجمع من المسلمين البالغ ٣٠٠٠ مقاتل، إلا علي بن أبي طالب فيقول لمعلمه ومربِّيه وسيده: أنا له يا نبي الله.
فيقول النبي: إنه عمرو اجلس!!
ويكرر ابن ود دعوته مستهترًا ثانية؟
ويتصدى ابن أبي طالب لدعوته!
والنبي يعيد الإجابة عليه ثانية: إنه عمرو اجلس!!
ويكرر ابن ود دعوته مستهزئًا بالمسلمين وعقيدتهم ثالثة، وهو يرتجز ويقول:
(ولقد بححتُ من النداءِ بجمعِكم هل مِنْ مبارز؟)!!
ويتصدى له ابن أبي طالب ثالثة فيأذن له النبي بعد عرف أنه لا يوجد من جيشه أحد يتصدى لذلك أبدًا إلا هذا الفتى العلوي الذي يحامي عنه منذ ٢٠ عامًا تقريبًا ولسان حاله (نفسي لنفسك الفداء)، وه. ابن ذلك الشيخ الأبطحي "أبي طالب" الذي حامى عنه مدى ٤٢ عامًا إلى وفاته وهو ينادي في الملأ كلهم (واللهِ لن يصلوا إليكَ بزعمهم حتى أُوَسَّدَ في الترابِ دفينا).
نعم .. فهؤلاء هم أولى بالدفاع عن الله ودينه وشرائعه، وشيعتهم على نهجهم إلى يومنا هذا بل آخر الدهر، ويشهد لهم الكافر والمشرك، والناصبي والصهيوني!!
خرج علي لعمٍر وهو يرتجز ويقول:
(لا تعجلنَّ فقد أتاكَ مجيبُ صوتِكَ غيرُ عاجز)!!
وقفت الملائكة لدهشة المنازلة بين هذا الفتى الإلهي وذاك الشيخ الشيطاني!!
ووقف جنود إبليس من الإنس بعقيدتهم الراسخة ليرووا بأعينهم كيف يصرع شيطانهم نفس محمد فيقضي عليه وعلى إسلامه!!
ووقف جيش المسلمين بعقيدتهم المتزلزلة الخائفة المنهزمة لينظروا إلى أي قتلة سيقتل بها اليوم علي فيفرح بها الذين يتربصون!!
ووقف التاريخ ليسجل كل لحظة من الزمن!! ويسجل كل همسة ونظرة!! وكل حرف!! بل كل تفكير في السر!!
ولكن .. نعم ولكن .. وقف محمد نبي الله ورسوله بصلابة العقيدة الراسخة بنصر الله وهو يودِّع نفسه، وربيبه، وصهره، وابن عمه نحو خندق فيه يتوعَّده عمرو بن ود العامري!!!
سادسًا: بداية المواجهة بين علي وعَمْرٍو وختامها📖
وعندما صدرت موافقة النبي بأنْ يتصدى الإمام علي عليه السلام لعمرو بن ود العامري حيث لم يتصدَّ أحد، أو يرغب أحد بذلك، حيث زاغت الأبصار وبلغت قلوبهم الحناجر، وقف النبي "صلى الله عليه وآله وسلم" وألبس عليًّا عمامة وقال كلمته العظيمة التاريخية، والتي يجب أنْ تحفظها الأجيال:
(خرجَ الإيمانُ كُلُّهُ إلى الشركِ كُلِّهِ)
حيث علي هو الإيمان كله، ولا أحد سواه!! وقد تبيَّن لنا مما تقدم لماذا أنَّ عليًّا هو الإيمان كله!!
وبعد دقائق عاد علي إلى نبي الله برأس عمرو بن ود العامري الذي هو ١٠٠٠ فارس وهو يكبِّر الله تعالى بأعلى صوته؛ ليزيل زيغ تلك الأبصار .. ويرجع القلب إلى مكانه بعد فزعه إلى الحناجر .. ولعله يعيد لهم عقيدة الإيمان بعد الظن والشك والاتهام!!
رجع فاستقبله النبي بعد هذه المنازلة التاريخية العظيمة ليصدح بأعلى صوته عبر الأجيال إلى آخر الدهر:
(لَضربةُ عليٍّ يوم الخندق تعدل عبادة الثقلين إلى يوم القيامة).
فهذه واحدة من مناقب علي التي لا تحصى!!
وهذه رشحة من سيرته الوضَّاءة التي لا تُمحى!!
تقبَّلها سيدي من مولًى لمولاه .. في يوم من أيام الله .. والسلام
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat