على ضفاف الانتظار (40)
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي

عملٌ في دولةِ الظلم
يؤكِّدُ التاريخُ أنَّ الدولةَ العباسيةَ كانتْ تترصّدُ بدقةٍ كُلَّ التفاصيل التي من المُمكنِ أنْ توصلَهم إلى شخصِ المهدي الموعود (عجل الله فرجه) للقضاءِ عليه قبلَ أنْ يُزيلَ ملكهم، الأمر الذي دعاهم إلى المُراقبةِ الدائمة للإمامِ العسكري (عليه السلام) وبيته، بل ونسائه (عليه السلام)، فضلًا عن المُداهماتِ المُفاجئة التي كانَ يقومُ بها أجنادُ العباسيين أثناءَ وبعدَ حياةِ الإمامِ العسكري (عليه السلام).
وهُنا طرحَ البعضُ شُبهةً حولَ عملِ السفراءِ لفترةِ تقرُبُ من سبعين سنة في تلك الدولةِ الظالمة والمُتتبِّعةِ لأيّ خيطٍ يوصِلُ إلى المهدي (عجل الله فرجه)، فكيفَ أمكنَهم العمل وأداء مهمتهم الرسالية، والتواصل مع الشيعة من جهةٍ، ومع الإمامِ المهدي (عجل الله تعالى فرجه) من جهةٍ أخرى؟
أ فهل يُمكِنُ أنْ نتعقّلَ ذلك؟
وللجوابِ عن هذه الشُبهة نُبيّنُ النقاطَ التالية:
النقطة الأولى: أنَّ طرحَ مثلِ هذه الشُبَه لا شكَّ أنّه لا يُرادُ منها إقامةُ الحقّ أو الدفاعُ عن المذهب، خصوصًا إذا طُرِحَتْ من دونِ جوابٍ مناسب، أو إذا طُرِحَتْ بأسلوبٍ تهكُّمي أو بأسلوبٍ يوحي بأنّه لا جوابَ عنها.
لذلك يلزمُ على المؤمنِ أنْ يتحرّى الطرقَ المُناسبةَ لطرحِ الشُبَه لو كانتْ عنده شبهة، بأنْ يطرحَها على المُتخصِّصين في المجال الذي طرأتْ عليه الشُبهة، وأنْ لا يُطبِّلَ لشبهةٍ بائسةٍ ويصوِّرَها على أنَّها شُبهةٌ عويصةٌ لا حلَّ لها، والحُرُّ تكفيه إشارة.
النقطة الثانية: من المُفترضِ أنَّ المؤمنَ يعتقدُ بأنَّ اللهَ (تعالى) كانَ ولا زالَ مُنبسطَ اليدِ في التصرُّفِ بالكونِ في كُلِّ مفرداته، فلم تكُنْ يدُه مغلولةً كما قالتِ اليهود غُلّتْ أيديهم، وهو (عز وجل) كان قد وعدَ بأنّه سيتولى الدفاعَ عن المؤمن بنفسه، قال (تعالى): (إِنَّ اللهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ).
وقد أثبتتِ القدرةُ الإلهيةُ حكمتَها المُطلقةَ في الحفاظِ على أولياءِ اللهِ (تعالى) بطريقةٍ وبأخرى، فقد تعملُ اليدُ الإلهيةُ على أنْ يتربّى الرسولُ في بيتِ عدوه، أو أنْ يُخفيَ عظمتَه إلى أنْ يحينَ الوقتُ المناسب، أو أنْ يشغلَ الظالمين بعضهم بالبعض الآخر ليكونَ الولي في مأمنٍ من كيدهم، أو أنْ يُخفيَ حملَ أُمِّه به حتى لا يقعَ ولا تقعَ في أيدي السُلُطاتِ الظالمة، وغيرها كثير.
ومعه، فليس من المنطقي أنْ يُشكِّكَ من يدّعي الإيمانَ بإمكانِ أنْ تراعيَ يدُ الغيبِ الإلهية أولئك السفراء ليؤدوا مهامهم على أحسنِ ما يُمكِنُ، ولو في داخلِ رحمِ دولةٍ ظالمةٍ مُستبدة.
النقطة الثالثة: إنَّ التاريخَ حفظَ لنا وثائقَ عديدةً عن العديدِ من أتباعِ الإمامِ المعصوم ممن كانوا يعملون في البلاط الظالم، وكانَ بعضُهم مكشوفَ الأوراقِ أمامَ السلطانِ لكن من دون دليلٍ ملموس، أيّ إنَّ السلطانَ كانَ يعتقدُ في داخله بأنّ هذا الشخصَ هو (رافضي) باصطلاحه، ولكنّه لم يستطِعْ في العادةِ أنْ يحصلَ على وثيقةٍ تُدينه، وقد لا يعلمُ بأنّه من أتباعِ أهلِ البيت (عليهم السلام)، وأشهر أولئك هو عليٌ بن يقطين صاحبُ الإمامِ الكاظم (عليه السلام) الذي كانَ من وزراءِ هارون العباسي، والذي حاولَ الوشاةُ أنْ يوقعوا به أكثرِ من مرة، ولكنَّ الإمامَ الكاظمَ (عليه السلام) كانَ يوجِّهُه بطرقٍ مناسبةٍ ليتخلّصَ من كيدِ الفَسَقَة.
فلِمَ نستبعدُ حصولَ مثل هذا الأمرِ مع السفراءِ خصوصًا وأنَّ مهمتهم أخطرُ وأهمُّ ممّا كانَ عليه علي بن يقطين.
خصوصًا وأنَّ التاريخَ قد حفظَ لنا أنَّ عليًا بن يقطين قد سُدّدَ ونجا من السلطةِ الظالمة رغمَ أنّه كانَ على احتكاكٍ دائمٍ ومباشرٍ مع الخليفةِ الظالم، وكانَ يعملُ بشكلٍ مُستمرٍ تحتَ نظره، وأمّا السفراءُ فقد كانوا بعيدين نسبيًا عن مُباشرةِ الاحتكاكِ بالظالم، فلِمَ نستبعدُ نجاتَهم؟!
النقطة الرابعة: على أنَّ السفراءَ (رضوان الله عليهم) كانوا يعملون وفقَ تخطيطٍ مُحكم، بحيث كانوا يُبعدون أنظارَ السلطانِ عنهم، بل كانوا من الحنكةِ بحيث إنّهم أخفوا عملَهم إلا عن الثُلةِ المُخلصةِ ومن يطمئنون بصدقِ ولائه، والشواهدُ على ذلك كثيرةٌ، نذكرُ منها التالي:
أولًا: أنَّ السفراءَ نقلوا عملَهم من سامراء (التي هي عاصمة العباسيين آنذاك) إلى بغداد، والمسافةُ الفاصلةُ بين بغداد وسامراء كانتْ كافيةً في ذلك الوقت لإبعادِ أنظارِ السلطانِ عنهم، أو على الأقلِ زيادة الصعوبةِ على السلطان في مُراقبتهم ونقلِ الأخبارِ المباشرة عنهم.
ثانيًا: كانَ السفراءُ لا يُعلنون بأنّهم سفراءُ للإمام (عجل الله (تعالى) فرجه) وإنّما كانوا يُخفون ذلك تحت بعضِ العناوين الأخرى، ولذا فإنَّ السفيرَ الأولَ كانَ قد عُرِفَ بأنّه سمّان، أيّ إنّه يعملُ بتجارةِ السمنِ تغطيةً على أمره.
ثالثًا: كان السفراء يعملون بالتقية المكثّفة، خصوصاً إذا اشتدّ الأمر عليهم، وهذا ما عُرف عن السفير الثالث الحسين بن روح (رضوان الله (تعالى) عليه)، فقد رويَ عن أبي نصر هبة الله بن محمد قال: حدّثني أبو الحسن بن كبرياء النوبختي قال: بلغَ الشيخَ أبا القاسم (رضي الله عنه) أنَّ بوابًا كانَ له على البابِ الأول قد لعنَ معاويةَ وشتمه، فأمرَ بطرده وصرفه عن خدمته، فبقيَ مدةً طويلةً يسألُ في أمره فلا واللهِ ما ردّه إلى خدمته، وأخذه بعضُ الأهلِ فشغّله معه، كُلّ ذلك للتقية.
وروى أبو نصر هبة الله بن محمد، قال: (حدّثني أبو عبد الله بن غالب حمو أبي الحسن بن أبي الطيب قال: ما رأيتُ من هو أعقلُ من الشيخِ أبي القاسم الحسين بن روح، ولعهدي به يومًا في دارِ ابن يسار، وكانَ له محلٌّ عند السيد والمُقتدر عظيم، وكانتِ العامةُ أيضًا تُعظِّمُه، وكانَ أبو القاسم يحضرُ تقيةً وخوفًا.
وعهدي به وقد تناظرَ اثنان، فزعمَ واحدٌ أنَّ أبا بكر أفضلُ الناسِ بعدَ رسولِ الله (صلى الله عليه وآله) ثم عمر ثم علي، وقال الآخر: بل عليٌ أفضلُ من عمر، فزادَ الكلامُ بينهما.
فقال أبو القاسم (رضي الله عنه): الذي اجتمعتِ الصحابةُ عليه هو تقديمُ الصدّيقِ، ثم بعده الفاروق، ثم بعده عثمان ذو النورين، ثم علي الوصي، وأصحاب الحديث على ذلك، وهو الصحيح عندنا.
فبقي من حضرَ المجلسَ مُتعجِّبًا من هذا القول، وكانَ العامةُ الحضورُ يرفعونه على رؤوسهم وكثُرَ الدعاءُ له والطعنُ على مَنْ يرميه بالرفض.
فوقعَ عليّ الضحك فلم أزلْ أتصبّرُ وأمنعُ نفسي وأدسُّ كُمّي في فمي، فخشيتُ أنْ أفتضح، فوثبتُ عن المجلسِ ونظرَ إليّ ففطن بي، فلمّا حصلتُ في منزلي فإذا بالبابِ يطرق، فخرجتُ مُبادرًا فإذا بأبي القاسم الحسين بن روح (رضي الله عنه) راكبًا بغلته قد وافاني من المجلسِ قبلَ مضيه إلى داره.
فقال لي: يا أبا عبدِ الله أيّدك اللهُ لِمَ ضحكتَ؟ فأردتَ أنْ تهتفَ بي كأنّ الذي قلتُه عندك ليس بحق؟
فقلت: كذاك هو عندي.
فقال لي: اتقِ اللهَ أيُّها الشيخ، فإنّي لا أجعلك في حِلّ، تستعظمُ هذا القولَ مني، فقلت: يا سيّدي رجلٌ يرى بأنّه صاحبُ الإمام (عجّل الله فرجه) ووكيله يقولُ ذلك القول لا يتعجّبُ منه و[لا] يضحكُ من قوله هذا؟ فقال لي: وحياتك لئن عدتَ لأهجرنّك وودّعني وانصرف.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat