الديمقراطية بين الدعوى والواقع ج2
الشيخ عبد الرزاق فرج الله
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ عبد الرزاق فرج الله

أما الإسلام فهو الكفيل بتكوين عقلية، تجعل الإنسان يسعى في تطبيق المبادئ السامية، والأخلاق العالية، على الأداني والأقاصي على حد سواء، ليعم الحق والخير على جميع أرجاء المعمورة الواحدة، التي جعلت كلها مسجداً ومستقراً ومتاعاً إلى حين لكل البشرية: {وَالأَرْضَ وَضَعَها لِلأَنامِ} الرحمن/10. وجلـّى لنا حبيبُ الأمة رسول الله (ص) هذه الحقيقة في سيرته العملية، وأعطى مفهوم الديمقراطية على مستوى التعامل بينه وبين الأمم والأديان الأخرى من ناحية، وعلى مستوى التعامل بينه وبين الأمة من ناحية أخرى.
أما على مستوى التعامل بينه وبين الأمم والأديان الأخرى، فقد سجل أمثلة إنسانية عالية، حيث كان من أولى خطواته التي خطاها في تنظيم مجتمعه الجديد، أن وضع وثيقة ينظم فيها العلاقات بين الطبقات الثلاث التي كانت تؤلف المجتمع، وهي (المهاجرون) الذين وفدوا من مكة إلى المدينة، و(الأنصار) من الأوس والخزرج في داخل المدينة، (واليهود) الذين كانوا يؤلون جالية كبيرة في المدينة، فأقرهم على دينهم وأموالهم، وشرط عليهم وأشترط لهم. واتخذ قوله تعالى:{ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْاْ إِلَى كَلَمَةٍ سَوَاء بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللّهَ وَلاَ نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلاَ يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَابًا مِّن دُونِ اللّهِ فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُولُواْ اشْهَدُواْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ} آل عمران/64.
اتخذها شعاراً لعلاقته مع أهل الكتاب، فضمّنها كتابه إلى (النجاشي) ملك الحبشة، وإلى (هرقل) عظيم الروم، وغيرهما من رؤساء الأديان والأمم، فإن هم لم يستمعوا إلى دعوته، فلهم شأنهم وله شأنه، ولهم دينهم وله دينه.
على أن هناك مودة بين المسلمين والنصارى، ظهرت ملامحها وآثارها في إيواء النجاشي لمهاجري المسلمين، وفي استقبال رسول الله (ص) لنصارى نجران في مسجده، والسماح لهم بأداء عبادتهم فيه.
أما على مستوى التعامل بينه وبين الأمة: فأنه (ص) قد سجّل أمثلة إنسانية نبيلة، ومكارم خلقية باهرة، وشارك الأمة آلامها وآمالها، ومباهجها ومتاعبها، وامتزجت روحه بروحها، واشعرها بوجودها، ومكانتها وكرامتها، واشركها في قراراته ومواقفه، كما حدث في واقعة بدر الكبرى، حين قام خاطباً يحرّض المؤمنين على القتال، فكان يقول (ص): {أشيروا عليّ...} وهي من أروع الصيغ، وأدق الأساليب، التي يطرح فيها مبدأ المشاورة، بالرغم من قراره الصائب، الذي يتصل بأمر الله عز وجل، مع كون النفوذ لكلمته وقراره، لأن كلمته من كلمة الله: {وَما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى * إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى} النجم 3-4.
إلا أن عمله بالشورى في كثير من المواقف، يرتبط بمكانة واعتبار الأمة، استناداً إلى الأساس النظري لهذا المبدأ الذي أكده الله عز وجل في بياناته وتعاليمه لرسول الله (ص): {فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ}آل عمران/159.
ونخلص إلى مفهوم الديمقرطية في أيديولوجية المجتمع المسلم والحاكم المسلم، بأنها ليست هي الشعار المجرد الذي تـُشترى به المصالح، وتـُستدر به المطامع، كما ينادي بها سلطويو الشرق، كما أنها ليست هي الفوضى واللاقيود التي تلقي على كل فرد مسؤولية نفسه، وتتركه يتصرف كيف يشاء دون حدود ولا ضوابط كما هو الحال في تسيب وانحطاط المجتمع الغربي الذي لم تعد عنده الديمقراطية إلا تعبيراً عن الانفلات والفوضى الداخلية، وعن القمع والزدراء والاستهانة بشعوب الأرض.
بل الديمقراطية هي الاستقامة في الفكر والضمير والسلوك واكرام الناس على اختلاف أجناسهم وألوانهم وأديانهم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat