إن أولى الشبهات وأعظمها وأخطرها على هذا الأسلوب من العمل الإسلامي، هي شبهة التعطيل للجهاد الإسلامي. فهل صحيح أن هذه الفريضة معطلة للجهاد؟ هذا ما نريد أن نبحثه هنا. إذ إن هذا البحث مبني على مسلَّمات خاطئة، وتراث ثقافي منحرف منذ قرون. وقد سبق أن أشرنا إلى التمييز بين من يدعو إلى إنشاء المجتمع الإسلامي، أو إصلاحه، أو الحيلولة دون انهياره، وبين المجتمع الذي تميز وينفذ أحكام الله، ويعامل المجتمعات الأخرى على حسب أوامر الله في الجهاد والقتال والاستنفار الدائم.
وذكرنا أن اجتماع بعض الأفراد، ليصدروا أحكام القتل ضمن مجتمع لم يتميز، ليس هو الجهاد، كما أن تنفيذ حدٍّ من حدود الله ليس لمثل هؤلاء، ونضيف: كم نكون خاذلين لحقيقة الحق ولحقيقة الإسلام، في الوقت الذي نريد أن ندعمه، إذا ظننا أن الإسلام لا يمكن أن يقبله الناس إلا إذا أرغموا على ذلك، وكأن هذا العقل الذي أودعه الله في الإنسان لا يمكن أن يهاجم بالبرهان، فنترك بيان البرهان والكسب الذي يحصله لنا إلى شيء يديننا ويدين فكرتنا.
وليس من السذاجة، حيث أقول: إن الإسلام لا يحتاج إلى أن يُقِرَّ الحق بالقوة وينفذ العقوبة على الظالم، وإنما يكتفي بالمواعظ الخفيفة اللطيفة التي لا تصدم باطلاً ولا تسفه منكراً. فرق كبير بين الاستسلام لقوى البغي والتربص بها سراً، وبين الإصرار على إنكارها والكفر بها، وإن كان لا يقاومها بالسلاح حتى يتكون المجتمع الذي يعتز بدينه ويقدر على إعلان أن (ربّه الله)، وبوضوح وجلاء، بحيث يؤمن بالحق ويكفر بالباطل علناً، وأمام الدنيا بأسرها، فإن مثل هذا العمل هو الذي يؤدي إلى تميز المجتمع الذي ينفذ أمر الله بالقتال.
فهؤلاء الذين كانت لهم الجرأة الكافية لإعلان عقيدتهم، وما يؤمنون به وما يكفرون به بوضوح، بحيث يبلغون به درجة البلاغ المبين، الذي تَلْزم الحجة به، فيقع العدوان الباغي عليهم، ولا يكون لهم ذنب إلا أنهم يقولون ربنا الله، فهؤلاء الذين من هذا الشكل، والذين يقع عليهم العدوان الصارخ، هم الذين ينعطف إليهم كل قلب فيه حب للحق والعدل. فبهذا الكفاح يجتمع الأفراد الذين يسلم المجتمع بأنهم جديرون بذلك.
فينبغي الحصول على هؤلاء الأفراد، الذين يستطيعون أن يحكموا أنفسهم بأمر الله قبل أن يحكموا غيرهم، وعند ذلك يخول الله لهم تطبيق حكم الله على غيرهم.
وليطمئن المسلم، فإن الجهاد ماضٍ ومستمر حتى تقوم الساعة، ولكن على هذا المجتمع الذي استقلَّ وتميز بإيمانه الواضح وعقيدته الصلبة. والوصول إلى استقلال المجتمع الإسلامي لا يكون بالقتال واستعمال القوة، وإنما بالدعوة والإقناع كما حدث لجميع الأنبياء، ولكن المسلمين حيث أصيبوا به غيرهم من عدم الثقة بالإنسان، فإنهم يخافون أن لا تجدي الدعوة، وهم بهذا ينزلون بأفضل الجهاد الذي يأتي بأفضل الكسب، إلى أدنى الدرجات، فهم يبخسون أهمية قول الحق، ولهم العذر لأنهم لم يروا كيف يكون أفضل الجهاد و(كلمة العدل).
وهذا الرصيد الذي لا ينفذ، والقابل للاستعمال في كل الظروف والأحوال، والذي لا يحتاج إلى مجتمع متميز، وهو أفضل الجهاد، والجهاد الأفضل الذي يكفي نفسه ولا يغني عنه غيره.
وإن زهوق الباطل يكون بمجرد مجيء الحق، فلا بقاء للباطل إلا في غيبة الحق:
(وَقُل جَاءَ الحَقُّ وَزَهَقَ البَاطِلُ إِنَّ البَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً) (الإسراء 17/81)
(بَل نَقذِفُ بِالحَقِ عَلَى البَاطِلِ فَيَدمَغُهُ فَإِذَا هُو زَاهِقٌ وَلَكُم الوَيلُ مِمَّا تَصِفُونَ) (الأنبياء 21/18)
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat