عديدةٌ هي العبر التي يُمكن استخلاصها من خِزانة التاريخ، ولاسيّما المتعلّقة بطبيعة آليّات الحكم التي اعتمدها الحكّام مع رعيتهم، وفي هذا الصدد يحتل التاريخ العبّاسي موقع الصدارة، كون فترة حكم العبّاسيين شهدت اضطراباً سياسياً كبيراً، ألقى بظلاله على كافّة مفاصل الدولة، وتوسَّعت تأثيراتها على طبيعة الحياة الإجتماعية.
وتجربة المعتز العبّاسي من أهمّ التجارب التي ينبغي أن يقف عندها من يتعاطى الشأن السياسي بدفعٍ إستبدادي أرعن، ولا يركن إلى مبدأ العدل الذي أقرّته السماء، ولا ينتبه إلى المآلات التي سينتهي إليها.
المعتز العبّاسي هو الخليفة الثالث عشر في ترتيب الخلفاء العبّاسيّين، والخليفة الثالث ممن سمحوا بإحكام القبضة التركيّة على الخلافة، وقد ولد في (231 هـ) وأمه اسمها قبيحة، ويُقال سميّت بذلك لشدّة جمالها، جرياً على عادة العرب، وكانت (قبيحة) المستشار الأهم له، والمدبّر للكثير من شؤونه.
تسلَّم الحكم وهو في ريعان شبابه، وخضع لجوقة المستشارين الأتراك الذين يحيطون به، وبالتالي أصبحوا هم من يرسم سياسة البلاد، وأخذ يجاريهم على استشاراتهم الخائبة من أجل التشبُّث في الكرسي، وأخذ بممارسة الأفعال التي لا يُمكن أن تصدر ممن تقع عليع مسؤوليّة حفظ البلاد والعباد، وبلغ به البؤس وبدفعٍ من شهوة السلطة، أن يقدّم على قتل عمّه وخلع أخيه وقتله، ونفي أخاه الآخر، وتصفية كلّ خصومه، من أجل الكرسي الذي لم يدم له طويلاً.
لم يدرك المعتز العبّاسي، بأن جوقة المستشارين الذين يشكِّلون بطانته وحاشيته، لا يهمهم أي شيء غير منفعتهم الشخصيّة، وأنّهم لا يكترثون لفعل أي شيء من أجل ذلك، حتى لو وصل إلى الأمر إلى نهاية الحاكم المستبد الأرعن. وهذا بالضبط ماحصل، حيث قاموا بجرّه من قصره بعد أن رفض الإستجابة لمطامعه واستشاراتهم الخائبة، ولم تسعفه أمه (القبيحة) في ذاك الموقف الرهيب، فقد أخرجوه من كرسي الجبروت والتسلّط بأسوأ حال، حافياً ذليلاً، ليس عليه ما يستره إلاّ بعض الأسمال، والدماء تسيل من كلِّ أجزاء جسده لكثرة الضرب والتنكيل، وقهروه على أن يتنازل عن الحكم ليضعوا من يجدونه مستجيباً لرغباتهم، وهكذا ذهب المعتز قتيلاً غير مأسوفاً عليه في (255 هـ)، نتيجة لرعونته وأطماعه، وعدم سماعه لصوت الآخرين الذين أرادوا له وللبلاد الخير والأمان.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat