على ضفاف الانتظار(82)
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي

صاحبُ البُرقع
لم يخلُ زمنٌ مُنذُ أنْ وُجِدَ الإنسانُ علىٰ هذه البسيطةِ من الفِتَنِ والاختبارات، ولن يخلو الزمانُ منها حتىٰ في زمنِ ظهورِ المُنتظرِ المأمول؛ لذلك كانَ الناسُ وما زالوا بينَ مؤمنٍ، وكافر، ومُنافقٍ يُظهِرُ خلافَ ما يُبطِن، وأخطرُ ما يُمكِنُ تصوّرُه علىٰ المؤمنين هو خطرُ المُنافقين، لذلك جاءَ التحذيرُ منهم كثيرًا في النصوصِ الدينية، رويَ عن أميرِ المؤمنين في وصفهم:
«أُوصِيكُمْ عِبَادَ الله بِتَقْوَىٰ الله، وأُحَذِّرُكُمْ أَهْلَ النِّفَاقِ، فَإِنَّهُمُ الضَّالُّونَ المُضِلُّونَ والزَّالُّونَ المُزِلُّونَ، يَتَلَوَّنُونَ ألوَانًا ويَفْتَنُّونَ افْتِنَانًا، ويَعْمِدُونَكُمْ بِكُلِّ عِمَادٍ ويَرْصُدُونَكُمْ بِكُلِّ مِرْصَادٍ، قُلُوبُهُمْ دَوِيَّةٌ وصِفَاحُهُمْ نَقِيَّةٌ، يَمْشُونَ الخَفَاءَ ويَدِبُّونَ الضَّرَاءَ، وَصْفُهُمْ دَوَاءٌ وقَوْلُهُمْ شِفَاءٌ وفِعْلُهُمُ الدَّاءُ العَيَاءُ، حَسَدَةُ الرَّخَاءِ ومُؤَكِّدُو البَلَاءِ ومُقْنِطُو الرَّجَاءِ، لَهُمْ بِكُلِّ طَرِيقٍ صَرِيعٌ، وإِلَىٰ كُلِّ قَلْبٍ شَفِيعٌ ولِكُلِّ شَجْوٍ دُمُوعٌ، يَتَقَارَضُونَ الثَّنَاءَ ويَتَرَاقَبُونَ الجَزَاءَ، إِنْ سَأَلُوا الحَفُوا وإِنْ عَذَلُوا كَشَفُوا، وإِنْ حَكَمُوا أَسْرَفُوا، قَدْ أَعَدُّوا لِكُلِّ حَقٍّ بَاطِلًا ولِكُلِّ قَائِمٍ مَائِلًا، ولِكُلِّ حَيٍّ قَاتِلًا ولِكُلِّ بَابٍ مِفْتَاحًا، ولِكُلِّ لَيْلٍ مِصْبَاحًا، يَتَوَصَّلُونَ إِلَىٰ الطَّمَعِ بِاليَأْسِ لِيُقِيمُوا بِه أَسْوَاقَهُمْ، ويُنْفِقُوا بِه أَعْلَاقَهُمْ يَقُولُونَ فَيُشَبِّهُونَ، ويَصِفُونَ فَيُمَوِّهُونَ قَدْ هَوَّنُوا الطَّرِيقَ، وأَضْلَعُوا المَضِيقَ فَهُمْ لُمَةُ الشَّيْطَانِ وحُمَةُ النِّيرَانِ، ﴿أُولَئِكَ حِزْبُ الشَّيْطَانِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطَانِ هُمُ الْخَاسِرُونَ﴾» .
وزمنُ الظهورِ المُقدّس، لن يخلو من وجودٍ للمُنافقين الذين يعملون علىٰ الكيدِ بالمؤمنين، ومن ثمّ سيعملون علىٰ إجهاضِ الحركةِ المهدويةِ لو أُتيحَ لهم ذلك.
ومن المُنافقين الذين أشارتْ إلىٰ وجودهم بعضُ الرواياتِ في زمنِ الظهورِ هي شخصية (صاحب البرقع)!
فعن عمر بن أبان الكلبي، عن أبي عبدِ الله قال: «كأنّي بالسفياني أو لصاحب السفياني قد طرحَ رحلَه في رحبتكم بالكوفة، فنادىٰ مُناديه: من جاءَ برأسِ رجلٍ من شيعةِ عليٍ فله ألف درهم، فيثبُ الجارُ علىٰ جاره يقول: هذا منهم، فيضربُ عنقه ويأخذ ألف درهم. أما إنَّ إمارتكم يومئذٍ لا تكونُ إلا لأولادِ البغايا، (و) كأنّي أنظرُ إلىٰ صاحبِ البرقع!
قلت: ومن صاحبُ البرقع؟
فقال: رجلٌ منكم، يقولُ بقولكم، يلبسُ البرقعَ، فيحوشكم ، فيعرفكم ولا تعرفونه، فيغمز بكم رجلًا رجلًا، أما [إنه] لا يكونُ إلا ابن بغي» .
الروايةُ واضحةٌ في أنّ (صاحب البرقع) هذا يُظهِرُ الإيمانَ والتشيُّعَ، بحيث إنّه يقولُ بقولِ الشيعة، ومن ثمّ فقد توثّقَ منهم، وعرفَ أشخاصهم، وعرفَ أماكنَ تواجدهم والكثيرَ من أمورهم، ولكنّه كانَ يُبطِنُ النفاق، وأنّه سيكونُ من أعوانِ السفياني إذا ما دخلَ الكوفة، بحيث إنّه سيعملُ علىٰ أنْ يشيَ بالمؤمنين ليحصلَ علىٰ الجائزةِ من السفياني، ولا يكونُ كذلك إلا من كانَ ابنَ بغي!
وهُنا عدّةُ مُلحوظاتٍ توضيحية:
الملحوظة الأولى:
البرقع: هو ما تلبسُه النساءُ لتغطيةِ وجوههن؛ حتىٰ لا يعرفهن أحدٌ، أو لكي يغطّينَ محاسنهن عن الناظر.
ومن ثمّ فالبرقعُ يعملُ علىٰ إخفاءِ ملامحِ الوجه عن الناظر.
والروايةُ التي ذكرتْ صاحبَ البرقع يُحتمَلُ فيها احتمالان:
الاحتمال الأول: أنْ يكونَ التوصيفُ علىٰ نحوِ الحقيقة، بأنْ يلبسَ ذلك المُنافقُ برقعًا ليغطيَ وجهه، وهو المُسمّىٰ اليوم باللثام، وهو يعملُ عملَ البرقع تمامًا كما هو واضح.
وهو الاحتمالُ الأقربُ والموافقُ لظاهرِ الرواية.
الاحتمال الثاني: أنْ يكونَ ذلك كنايةً عن إخفاءِ حقيقتِه المُنافقة، فما يراهُ الناسُ منه غيرَ ما يُخفيه في باطنه عنهم، وهو وإنْ كانَ ضعيفًا، لكنّه على كُلِّ حالٍ مُحتمَل.
الملحوظة الثانية:
إنَّ وجودَ صاحبِ البرقعِ في الكوفة، وعمله كجاسوسٍ للسفياني، يُشيرُ إلىٰ وجودِ المُنافقين في المُجتمعِ الكوفي، وسيكونُ منهم مَن يعترضون علىٰ ظهورِ الامام، ويقفون ضدّه مع البتريةِ، حيثُ يقولون له: ارجعْ يا بن فاطمةَ لا حاجةَ لنا بك!
الملحوظة الثالثة:
قد يكونُ صاحبُ البرقعِ رجلًا واحدًا يعملُ كجاسوسٍ للسفياني كما هو ظاهرُ الرواية، ولكن قد يكونُ المُرادُ منه في الروايةِ العنوان، أي إنَّ الروايةَ تُشيرُ إلىٰ وجودِ مجموعةٍ يعملون بشكلٍ مُنظّمٍ كجواسيسَ للسفياني، سِمتُهم النفاقُ وإخفاءُ حقيقتهم عن الناس، عُبِّرَ عنهم كنايةً بصاحبِ البرقع.
وهذا أسلوبٌ بلاغي مُتعارفٌ لدىٰ العرب.
الملحوظة الرابعة:
إنَّ أهلَ البيتِ عندما أشاروا إلىٰ وجودِ مثلِ (صاحب البرقع) بينَ ظهراني المؤمنين، هم يُريدون من المؤمنين أنْ يكونوا علىٰ حذرٍ شديدٍ جدًا ممّن يُريدُ بهم سوءًا، فليسَ المقصودُ هو تخويفَ الشيعةِ، وجعلهم يُسلِّمون رقابَهم للموتِ بكُلِّ هدوء، إنّما المقصودُ دفعُهم إلىٰ التخطيطِ الدقيقِ لمواجهةِ الأخطارِ الخارجيةِ – المتمثّلةِ بالسفياني- والداخلية، -المُتمثّلة بالمنافقين-، ومنهم صاحب البرقع أو أصحاب البراقع.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat