على ضفاف الانتظار(59)
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي

السفيرُ الثالث: الحُسينُ بن روحِ بن أبي بحر (رضوان الله عليه)
هو السفيرُ الثالثُ للإمامِ الحُجّةِ إبّانَ الغيبةِ الصُغرى، وقد تولّاها بعدَ وفاةِ السفيرِ الثاني محمّد بن عثمان بن سعيد العمري (رضوان الله عليه) سنة (305 هـ).
كانَ حريًا بالسفارةِ في وقتٍ يتطلّبُ فيه الظرفُ العامُّ سفارةً تتمثّلُ فيها أدقُّ حالاتِ الحذرِ والحيطة، وقد كانَ أبو القاسمِ الحسينُ بن روح النوبختي أو الروحي يتعاطى مع ظروفٍ صعبةٍ وحرجة، وكانَ -بأسلوبه المقنع- يتجاوزُ كُلَّ العقباتِ في طريقه، ويجعلُ الطرفَ الآخرَ راضيًا عنه، فقد رويَ أنّ أبا أحمد درانويه الأبرص الذي كانتْ داره في دربِ القراطيس، قال: قال لي: إنّي كنتُ أنا وإخوتي ندخلُ إلى أبي القاسم الحسين بن روح (رضوان الله عليه) نعامله، قال: وكانوا باعة، ونحنُ مثلًا عشرةٌ، تسعةٌ نلعنه وواحدٌ يُشكّك، فنخرجُ من عنده بعدما دخلنا إليه تسعة نتقربُ إلى اللهِ بمحبته، وواحدٌ واقف؛ لأنّه كانَ يُجارينا من فضلِ الصحابة ما رويناه وما لم نروِه، فنكتبه لحسنه عنه (رضوان الله عليه).
ويبدو من مراجعةِ التواريخِ أنّه كانَ مرموقَ المكانة عند جميعِ الطوائف، وقد نقلَ الذهبي ترجمته فقال: «الحسينُ بن روح بن بحر. أبو القاسم القيني أو القسي، وكذا صورته في تاريخِ يحيى بن أبي علي الغساني، وخطة معلق سقيم. ثم قال: هو الشيخُ الصالحُ أحدُ الأبوابِ لصاحبِ الأمر. نصَّ عليه بالنيابةِ أبو جعفر محمد بن عثمان بن سعيد العمري عنه، وجعله من أولِ من يدخلُ عليه حينَ جعلَ الشيعةَ طبقات. وقد خرجَ على يديه تواقيعُ كثيرة. فلمّا ماتَ أبو جعفرٍ صارتِ النيابةُ إلى أبي القاسم. وجلسَ في الدارِ ببغداد، وجلسَ حوله الشيعة، وخرجَ ذكاءُ الخادم ومعه عكازه ومدرجٌ وحقة، وقال: إنّ مولانا قال: إذا دفنني أبو القاسم وجلس فسلّمْ هذا إليه. وإذا في الحُقِّ خواتيمُ الأئمة. ثم قامَ في آخرِ اليومِ ومعه طائفة، فدخلَ دارَ أبي جعفر محمد بن علي الشلمغاني، وكثرتْ غاشيته، حتى كانَ الأمراءُ يركبون إليه والوزراءُ والمعزولون عن الوزارة والأعيان، وتوصفُ الناسُ عقله وفهمه...» .
وقد لُقِّبَ بالقُمّي؛ حيثُ رويَ عن جعفر بن معروف الكشي، قال: كتبَ أبو عبدِ اللهِ البلخي إليّ يذكرُ عن الحسين بن روح القمّي، أنّ أحمدَ بن إسحاق كتبَ إليه يستأذنه في الحج: فأذنَ له، وبعثَ إليه بثوب، فقال أحمدُ بن إسحاق: نعى إلي نفسي، فانصرفَ من الحجّ فماتَ بحلوان .
ويُمكِنُ بيانُ الخطوط العامة لسفارته بالتالي:
النقطة الأولى: وثاقة الشيخ النوبختي:
كانَ الشيخ بن روح من ثقاتِ محمد بن عثمان في حياته، وكانَ أحدَ عشرة أنفسٍ يعملون للسفيرِ الثاني، وكانوا موضعَ ثقته، فقد رويَ عن جعفر بن أحمد بن متيل القمي: جَعْفَرَ بْنَ أَحْمَدَ بْنِ مَتيل اَلْقُمِّيَّ يَقُولُ: كَانَ مُحَمَّدٌ بْنُ عُثْمَانَ أَبُو جَعْفَرٍ اَلْعَمْرِيُّ (رضوان الله عليه) لَهُ مَنْ يَتَصَرَّفُ لَهُ بِبَغْدَادَ نَحْوٌ مِنْ عَشَرَةِ أَنْفُسٍ، وَأَبُو اَلْقَاسِمِ بْنُ رَوْحٍ (رضوان الله عليه) فِيهِمْ، وَكُلُّهُمْ كَانُوا أَخَصَّ بِهِ مِنْ أَبِي اَلْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ حَتَّىٰ إِنَّهُ كَانَ إِذَا اِحْتَاجَ إِلَى حَاجَةٍ أَوْ إِلَىٰ سَبَبٍ يُنَجِّزُهُ عَلَىٰ يَدِ غَيْرِهِ لِمَا لَمْ يَكُنْ لَهُ تِلْكَ اَلْخُصُوصِيَّةُ، فَلَمَّا كَانَ وَقْتُ مُضِيِّ أَبِي جَعْفَرٍ (رضوان الله عليه) وَقَعَ اَلاِخْتِيَارُ عَلَيْهِ، وَكَانَتِ اَلْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ. .
ويظهر من بعض النصوص الأخرى أنه كان للشيخ الحسين بن روح عنده منزلة خاصة، فقد حدّثت أُمُّ كُلْثُومٍ بِنْتُ أَبِي جَعْفَرٍ (رضوان الله عليه)، قَالَتْ: كَانَ أَبُو اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضوان الله عليه) وَكِيلاً لِأَبِي جَعْفَرٍ (رضوان الله عليه) سِنِينَ كَثِيرَةً يَنْظُرُ لَهُ فِي أَمْلَاكِهِ، وَيُلْقِي بِأَسْرَارِهِ اَلرُّؤَسَاءَ مِنَ اَلشِّيعَةِ، وَكَانَ خِصِّيصاً بِهِ حَتَّىٰ إِنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُهُ بِمَا يَجْرِي بَيْنَهُ وَ بَيْنَ جَوَارِيهِ لِقُرْبِهِ مِنْهُ وَأُنْسِهِ.
قَالَتْ: وَكَانَ يَدْفَعُ إِلَيْهِ فِي كُلِّ شَهْرٍ ثَلَاثِينَ دِينَاراً رِزْقاً لَهُ، غَيْرَ مَا يَصِلُ إِلَيْهِ مِنَ اَلْوُزَرَاءِ وَاَلرُّؤَسَاءِ مِنَ اَلشِّيعَةِ - مِثْلِ آلِ اَلْفُرَاتِ وَغَيْرِهِمْ - لِجَاهِهِ وَلِمَوْضِعِهِ وَجَلَالَةِ مَحَلِّهِ عِنْدَهُمْ، فَحَصَّلَ فِي أَنْفُسِ اَلشِّيعَةِ مُحَصَّلاً جَلِيلاً لِمَعْرِفَتِهِمْ بِاخْتِصَاصِ أَبِي إِيَّاهُ وَتَوْثِيقِهِ عِنْدَهُمْ، وَنَشْرِ فَضْلِهِ وَدِينِهِ وَمَا كَانَ يَحْتَمِلُهُ مِنْ هَذَا اَلْأَمْرِ، فَتَمَهَّدَتْ لَهُ اَلْحَالُ فِي طُولِ حَيَاةِ أَبِي إِلَىٰ أَنِ اِنْتَهَتِ اَلْوَصِيَّةُ إِلَيْهِ بِالنَّصِّ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَخْتَلِفْ فِي أَمْرِهِ وَلَمْ يَشُكَّ فِيهِ أَحَدٌ إِلَّا جَاهِلٌ بِأَمْرِ أَبِي أَوَّلاً، مَعَ مَا لَسْتُ أَعْلَمُ أَنَّ أَحَداً مِنَ اَلشِّيعَةِ شَكَّ فِيهِ... .
النقطة الثانية: إرجاعُ السفير الثاني إليه:
لقد عمل السفير الثاني على إرجاع الشيعة إلى الحسين بن روح بصورة عملية قبل وفاته بفترة مناسبة، تصل إلى سنتين أو ثلاث، وذلك حتى لا يشك أحد في أنه هو السفير من بعده، وقد نصَّت على ذلك نصوص عديدة، من قبيل ما تقدم عن أم كلثوم، وما دل على أمره بتسليم الأموال إلى الشيخ بن روح.
روي أن أبا جَعْفَرٍ مُحَمَّداً بْنَ عَلِيٍّ اَلْأَسْوَدَ قَالَ: كُنْتُ أَحْمِلُ اَلْأَمْوَالَ اَلَّتِي تَحْصُلُ فِي بَابِ اَلْوَقْفِ إِلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ مُحَمَّدِ بْنِ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيِّ ;، فَيَقْبِضُهَا مِنِّي، فَحَمَلْتُ إِلَيْهِ يَوْماً شَيْئاً مِنَ اَلْأَمْوَالِ فِي آخِرِ أَيَّامِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ بِسَنَتَيْنِ أَوْ ثَلَاثِ سِنِينَ، فَأَمَرَنِي بِتَسْلِيمِهِ إِلَىٰ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْرَّوْحِيِّ (رضوان الله عليه)، فَكُنْتُ أُطَالِبُهُ بِالْقُبُوضِ، فَشَكَا ذَلِكَ إِلَىٰ أَبِي جَعْفَرٍ (رضوان الله عليه)، فَأَمَرَنِي أَنْ لَا أُطَالِبَهُ بِالْقُبُوضِ، وَقَالَ: كُلُّ مَا وَصَلَ إِلَىٰ أَبِي اَلْقَاسِمِ فَقَدْ وَصَلَ إِلَيَّ، فَكُنْتُ أَحْمِلُ بَعْدَ ذَلِكَ اَلْأَمْوَالَ إِلَيْهِ وَلَا أُطَالِبُهُ بِالْقُبُوضِ.
فضلًا عن ذلك، فقد نصّ السفير الثاني على تنصيب الشيخ الحسين بن روح سفيرًا بعده بكل وضوح، خصوصًا عندما اقتربت وفاته، فقد حدّث عَلِيٌّ بْنُ مُحَمَّدٍ بْنِ مَتيل، عَنْ عَمِّهِ جَعْفَرِ بْنِ أَحْمَدَ بْنِ مَتيل، قَالَ: لَـمَّا حَضَرَتْ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (رضوان الله عليه) اَلْوَفَاةُ كُنْتُ جَالِساً عِنْدَ رَأْسِهِ أَسْأَلُهُ وَأُحَدِّثُهُ، وَأَبُو اَلْقَاسِمِ بْنُ رَوْحٍ عِنْدَ رِجْلَيْهِ.
فَالْتَفَتَ إِلَيَّ، ثُمَّ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ أُوصِيَ إِلَىٰ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ.
قَالَ: فَقُمْتُ مِنْ عِنْدِ رَأْسِهِ، وَأَخَذْتُ بِيَدِ أَبِي اَلْقَاسِمِ وَأَجْلَسْتُهُ فِي مَكَانِي، وَتَحَوَّلْتُ إِلَىٰ عِنْدِ رِجْلَيْهِ.
وقال أَبُو عَلِيٍّ مُحَمَّدُ بْنُ هَمَّامٍ (رَضِيَ اَللهُ عَنْهُ وَأَرْضَاهُ) أَنَّ أَبَا جَعْفَرٍ مُحَمَّدَ بْنَ عُثْمَانَ اَلْعَمْرِيَّ (قَدَّسَ اَللهُ رُوحَهُ) جَمَعَنَا قَبْلَ مَوْتِهِ، وَكُنَّا وُجُوهَ اَلشِّيعَةِ وَشُيُوخَهَا، فَقَالَ لَنَا: إِنْ حَدَثَ عَلَيَّ حَدَثُ اَلمَوْتِ فَالْأَمْرُ إِلَىٰ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ اَلنَّوْبَخْتِيِّ، فَقَدْ أُمِرْتُ أَنْ أَجْعَلَهُ فِي مَوْضِعِي بَعْدِي، فَارْجِعُوا إِلَيْهِ، وَعَوِّلُوا فِي أُمُورِكُمْ عَلَيْهِ. .
النقطة الثالثة: شدةُ وثاقته وتحوّطه:
كان الشيخ الروحي يتمتع بوثاقة عالية، وحفظ للسر، الأمر الذي كان من أسباب تقديمه على غيره من العلماء لمنصب السفارة، وقد نقل الشيخ الطوسي أن اِبْنَ نُوحٍ قال: وَسَمِعْتُ جَمَاعَةً مِنْ أَصْحَابِنَا بِمِصْرَ يَذْكُرُونَ أَنَّ أَبَا سَهْلٍ اَلنَّوْبَخْتِيَّ [وهو إسماعيل بن عليٍّ النوبختي] سُئِلَ، فَقِيلَ لَهُ: كَيْفَ صَارَ هَذَا اَلْأَمْرُ إِلَىٰ اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ دُونَكَ؟ فَقَالَ: هُمْ أَعْلَمُ وَمَا اِخْتَارُوهُ، وَلَكِنْ أَنَا رَجُلٌ أَلْقَىٰ اَلْخُصُومَ وَأُنَاظِرُهُمْ، وَلَوْ عَلِمْتُ بِمَكَانِهِ كَمَا عَلِمَ أَبُو اَلْقَاسِمِ وَضَغَطَتْنِي اَلْحُجَّةُ عَلَىٰ مَكَانِهِ لَعَلِّي كُنْتُ أَدُلُّ عَلَىٰ مَكَانِهِ، وَأَبُو اَلْقَاسِمِ فَلَوْ كَانَتِ اَلْحُجَّةُ تَحْتَ ذَيْلِهِ وَقُرِّضَ بِالمَقَارِيضِ مَا كَشَفَ اَلذَّيْلَ عَنْهُ، أَوْ كَمَا قَالَ .
ويبدو من النصوص أنه كان يعيش تقية مكثفة، الأمر الذي جعله يُظهر بعض التصرفات المتوافقة مع اعتقادات السلطة، وذلك من قبيل ما روي أنه قال أَبُو عَبْدِ اَلله بْنُ غَالِبٍ حَمْوُ أَبِي اَلْحَسَنِ بْنِ أَبِي اَلطِّيبِ، قَالَ: مَا رَأَيْتُ مَنْ هُوَ أَعْقَلُ مِنَ اَلشَّيْخِ أَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ، وَلَعَهْدِي بِهِ يَوْماً فِي دَارِ اِبْنِ يَسَارٍ، وَ كَانَ لَهُ مَحَلٌّ عِنْدَ اَلسَّيِّدِ وَاَلمُقْتَدِرِ عَظِيمٌ، وَكَانَتِ اَلْعَامَّةُ أَيْضاً تُعَظِّمُهُ، وَكَانَ أَبُو اَلْقَاسِمِ يَحْضُرُ تَقِيَّةً وَخَوْفاً.
وَعَهْدِي بِهِ وَقَدْ تَنَاظَرَ اِثْنَانِ، فَزَعَمَ وَاحِدٌ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ أَفْضَلُ اَلنَّاسِ بَعْدَ رَسُولِ اَلله ثُمَّ عُمَرُ ثُمَّ عَلِيٌّ، وَقَالَ اَلْآخَرُ: بَلْ عَلِيٌّ أَفْضَلُ مِنْ عُمَرَ، فَزَادَ اَلْكَلَامُ بَيْنَهُمَا.
فَقَالَ أَبُو اَلْقَاسِمِ (رضوان الله عليه): اَلَّذِي اِجْتَمَعَتِ اَلصَّحَابَةُ عَلَيْهِ هُوَ تَقْدِيمُ اَلصِّدِّيقِ، ثُمَّ بَعْدَهُ اَلْفَارُوقِ، ثُمَّ بَعْدَهُ عُثْمَانُ ذُو اَلنُّورَيْنِ، ثُمَّ عَلِيٌّ اَلْوَصِيُّ، وَأَصْحَابُ اَلْحَدِيثِ عَلَىٰ ذَلِكَ، وَهُوَ اَلصَّحِيحُ عِنْدَنَا، فَبَقِيَ مَنْ حَضَرَ اَلمَجْلِسَ مُتَعَجِّباً مِنْ هَذَا اَلْقَوْلِ، وَكَانَ اَلْعَامَّةُ اَلْحُضُورُ يَرْفَعُونَهُ عَلَىٰ رُءُوسِهِمْ، وَكَثُرَ اَلدُّعَاءُ لَهُ وَاَلطَّعْنُ عَلَىٰ مَنْ يَرْمِيهِ بِالرَّفْضِ.
فَوَقَعَ عَلَيَّ اَلضَّحِكُ، فَلَمْ أَزَلْ أَتَصَبَّرُ وَأَمْنَعُ نَفْسِي وَأَدُسُّ كُمِّي فِي فَمِي، فَخَشِيتُ أَنْ أَفْتَضِحَ، فَوَثَبْتُ عَنِ اَلمَجْلِسِ، وَنَظَرَ إِلَيَّ فَفَطَنَ بِي، فَلَمَّا حَصَلْتُ فِي مَنْزِلِي فَإِذَا بِالْبَابِ يَطْرُقُ، فَخَرَجْتُ مُبَادِراً، فَإِذَا بِأَبِي اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنِ بْنِ رَوْحٍ (رضوان الله عليه) رَاكِباً بَغْلَتَهُ قَدْ وَافَانِي مِنَ اَلمَجْلِسِ قَبْلَ مُضِيِّهِ إِلَىٰ دَارِهِ.
فَقَالَ لِي: يَا أَبَا عَبْدِ اَلله، أَيَّدَكَ اَللهُ، لِمَ ضَحِكْتَ فَأَرَدْتَ أَنْ تَهْتِفَ بِي كَأَنَّ اَلَّذِي قُلْتُهُ عِنْدَكَ لَيْسَ بِحَقٍّ؟
فَقُلْتُ: كَذَاكَ هُوَ عِنْدِي.
فَقَالَ لِي: اِتَّقِ اَللهَ أَيُّهَا اَلشَّيْخُ، فَإِنِّي لَا أَجْعَلُكَ فِي حِلٍّ، تَسْتَعْظِمُ هَذَا اَلْقَوْلَ مِنِّي؟
فَقُلْتُ: يَا سَيِّدِي، رَجُلٌ يَرَىٰ بِأَنَّهُ صَاحِبُ اَلْإِمَامِ وَوَكِيلُهُ يَقُولُ ذَلِكَ اَلْقَوْلَ لَا يُتَعَجَّبُ مِنْهُ وَ[لَا] يُضْحَكُ مِنْ قَوْلِهِ هَذَا؟
فَقَالَ لِي: وَحَيَاتِكَ لَئِنْ عُدْتَ لَأَهْجُرَنَّكَ، وَوَدَّعَنِي وَاِنْصَرَفَ .
وقال أبو الحسن بن كبرياء النوبختي قال: بَلَغَ اَلشَّيْخَ أَبَا اَلْقَاسِمِ (رضوان الله عليه) أَنَّ بَوَّاباً كَانَ لَهُ عَلَىٰ اَلْبَابِ اَلْأَوَّلِ قَدْ لَعَنَ مُعَاوِيَةَ وَشَتَمَهُ، فَأَمَرَ بِطَرْدِهِ وَصَرْفِهِ عَنْ خِدْمَتِهِ، فَبَقِيَ مُدَّةً طَوِيلَةً يَسْأَلُ فِي أَمْرِهِ، فَلَا وَاَلله مَا رَدَّهُ إِلَىٰ خِدْمَتِهِ، وَأَخَذَهُ بَعْضُ اَلْأَهْلِ فَشَغَلَهُ مَعَهُ، كُلُّ ذَلِكَ لِلتَّقِيَّةِ. .
النقطة الرابعة: كثرة الدعاوى الباطلة في زمنه:
كانت فترة الشيخ الحسين بن روح حرجة جدًا، إذ في وقته فُتحت أبواب أدعياء السفارة كالشلمغاني والعبرتائي والشريعي وغيرهم، وكان في صدد رد هذه الدعاوى الباطلة وغلق الباب على مدعيها، وبالتأكيد فإن ذلك يتطلب جهدًا استثنائيًا يستطيع من خلاله السيطرة على حالات الانحراف والخديعة التي كانت تطال المجتمع وقتذاك.
النقطة الخامسة: اهتمامه بالكتب العلمية:
كان الشيخ الحسين بن روح يهتم بالكتب الفقهية ومتابعتها وتصحيحها، سواء أكانت متابعته الشخصية، أم من خلال التواصل مع الفقهاء الموثوقين لتصحيح الكتب الفقهية، ومما يشهد على هذا النصان الآتيان:
النص الأول: أَبُو عَبْدِ اَلله اَلْحُسَيْنُ بْنُ أَحْمَدَ اَلْحَامِدِيُّ اَلْبَزَّازُ اَلمَعْرُوفُ بِغُلَامِ أَبِي عَلِيٍّ بْنِ جَعْفَرٍ اَلمَعْرُوفُ بِابْنِ زُهُومَةَ اَلنَّوْبَخْتِيِّ - وَكَانَ شَيْخاً مَسْتُوراً -، قَالَ: سَمِعْتُ رَوْحَ بْنَ أَبِي اَلْقَاسِمِ بْنِ رَوْحٍ يَقُولُ: لَـمَّا عَمِلَ مُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ اَلشَّلْمَغَانِيُّ كِتَابَ (اَلتَّكْلِيفِ) قَالَ [اَلشَّيْخُ] يَعْنِي أَبَا اَلْقَاسِمِ (رضوان الله عليه): اُطْلُبُوهُ إِلَيَّ لِأَنْظُرَهُ، فَجَاءُوا بِهِ، فَقَرَأَهُ مِنْ أَوَّلِهِ إِلَىٰ آخِرِهِ، فَقَالَ: مَا فِيهِ شَيْءٌ إِلَّا وَقَدْ رُوِيَ عَنِ اَلْأَئِمَّةِ إِلَّا مَوْضِعَيْنِ أَوْ ثَلَاثَةً، فَإِنَّهُ كَذَبَ عَلَيْهِمْ فِي رِوَايَتِهَا (لَعَنَهُ اَللهُ) .
النص الثاني: عن سَلَامَة بْنِ مُحَمَّدٍ ، قَالَ: أَنْفَذَ اَلشَّيْخُ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضوان الله عليه) كِتَابَ (اَلتَّأْدِيبِ) إِلَىٰ قُمَّ، وَكَتَبَ إِلَىٰ جَمَاعَةِ اَلْفُقَهَاءِ بِهَا، وَقَالَ لَهُمْ: اُنْظُرُوا فِي هَذَا اَلْكِتَابِ، وَاُنْظُرُوا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُكُمْ؟
فَكَتَبُوا إِلَيْهِ أَنَّهُ كُلَّهُ صَحِيحٌ، وَمَا فِيهِ شَيْءٌ يُخَالِفُ إِلَّا قَوْلُهُ فِي اَلصَّاعِ فِي اَلْفِطْرَةِ نِصْفُ صَاعٍ مِنْ طَعَامٍ، وَاَلطَّعَامُ عِنْدَنَا مِثْلُ اَلشَّعِيرِ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ صَاعٌ. .
النقطة السادسة: مدة سفارته وسجنه:
امتدت سفارته إلى ما يقرب من (21) عامًا (305 – 326 هـ) عاصر فيها ثلاثة من الخلفاء العباسيين: المقتدر العباسي، والقاهر، والراضي بالله.
ويبدو من بعض النصوص أنه قد سُجن لمدة لا تقل عن خمسة أعوام، وأنه أطلق سراحه بعد خلع المقتدر، كما يبدو من نص الذهبي في سير أعلام النبلاء حيث نقل: ولم يزل أبو القاسم وافر الحرمة إلى أن وُزّر حامد بن العباس، فجرت له معه خطوب يطول شرحها. ثم سرد ابن أبي طي ترجمته في أوراق، وكيف أخذ وسجن خمسة أعوام، وكيف أطلق وقت خلع المقتدر، فلما أعادوه إلى الخلافة، شاوروه فيه، فقال: دعوه، فبخطيته أوذينا. وبقيت حرمته على ما كانت، إلى أن مات في سنة ست وعشرين وثلاث مئة... .
ويبدو من بعض النصوص أنه كان يُمارس مهامه كسفير وهو في داخل السجن، وهذا ما يظهر مما روي عن أَبُي مُحَمَّدٍ اَلْحَسَنِ بْنِ جَعْفَرِ بْنِ إِسْمَاعِيلَ بْنِ صَالِحٍ اَلصَّيْمَرِيُّ، قَالَ: لَـمَّا أَنْفَذَ اَلشَّيْخُ أَبُو اَلْقَاسِمِ اَلْحُسَيْنُ بْنُ رَوْحٍ (رضوان الله عليه) اَلتَّوْقِيعَ فِي لَعْنِ اِبْنِ أَبِي اَلْعَزَاقِرِ أَنْفَذَهُ مِنْ مَحْبَسِهِ فِي دَارِ اَلمُقْتَدِرِ إِلَىٰ شَيْخِنَا أَبِي عَلِيٍّ بْنِ هَمَّامٍ ; فِي ذِي اَلْحِجَّةِ سَنَةَ اِثْنَتَيْ عَشْرَةَ وَثَلَاثِمِائَةٍ، وَأَمْلَاهُ أَبُو عَلِيٍّ عَلَيَّ، وَعَرَّفَنِي أَنَّ أَبَا اَلْقَاسِمِ (رضوان الله عليه) رَاجَعَ فِي تَرْكِ إِظْهَارِهِ، فَإِنَّهُ فِي يَدِ اَلْقَوْمِ وَفِي حَبْسِهِمْ، فَأُمِرَ بِإِظْهَارِهِ وَأَنْ لَا يَخْشَىٰ وَيَأْمَنَ، فَتَخَلَّصَ فَخَرَجَ مِنَ اَلْحَبْسِ بَعْدَ ذَلِكَ بِمُدَّةٍ يَسِيرَةٍ، وَاَلْحَمْدُ لِله.
هذا وقد التحق بالرفيق الأعلى عام 326 هـ في بغداد ودُفن بالنوبختية في المكان الذي كانت فيه دار عليّ بن أحمد النوبختي، وهو اليوم يعرف بسوق الشورجة، يؤمه الزائرون ويتوافدون عليه تعظيمًا لمقامه (رضوان الله عليه).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat