السيد محمد مهدي الخرسان في ظلال النصوص
محمد قاسم الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد قاسم الطائي

بوارق النجف المضيئة لن تخفت، وهدير صوتها الممتد عبر المئات من السنين لن يسكت، ولئن مرت فترة سكون خلال بعض الحقب المظلمة فلن يضر نجوميتها شيئاً وستنهض بقوة . مخيفة النجف حين تنجرح، فلقد كانت خلال مسيرتها السالفة بجميع العهود المتعاقبة أنّها موسومةٌ بالجرأة والصمود على مسك مشاعرِها الجريحةِ، في الوقت ذاته أنها قادرةٌ على استبدالها بدويَّ الطاقات المنيرة .
ثمة أسماء لامعة ظلت تدور في تاريخ حوزة النجف كان لها النصيب الأوفر في تقدم حركتها العلمية، وكانت ذاكرتها ممتلئة برواد العلم والمعرفة، كما أنّها مشحونة بشتى المواقف والتحولات السياسية التي طرأت عليها بدءاً من عهد شيخ الطائفة الطوسي وزخم الأحداث التي أخذت بخطاه نحو أرض الغري، وبعد ثمان قرون ظلت النجف في الواجهة مراهنة على مواصلة الخطى والمضي بعد أن تخللتها انعطافات تاريخية هامة قادت زعامة الحوزة لأرض بابل المجيدة، المعروفة" بحوزة الحلة" التي ظهرت بُعيد سقوط بغداد على يد هولاكو التتار، والتي شيد صرحها علماءُ وفقهاءُ ومتكلمون وأدباء من الطراز الرفيع طيلة ثلاث قرون التي تلتها؛ ومن ثم عادت للنجف، وفي إحدى الفترات الساخنة انتقلت الحوزة لكربلاء إذ كان يقطن فيها آنذاك كوكبة من أهل العلم وبموت شريف العلماء عادت للنجف الأشرف، حيث وصلت لعصر الشيخ الأنصاري الذي ورث من مرجعية صاحب الجواهر أمور كانت لم تنحسم بعد.الشيخ مرتضى الأنصاري الذي انتهت إليه خزانة التحقيق الأصولي، وبحسب وصف قلم المظفر له عُرف بــ« إمام المحققين» «والذي انسى الأولين والآخرين» يحدثنا الشيخ محمد رضا المظفر نفسه عن أستاذه النائيني الذي يعد أحد الأعلام الثلاث في التحقيق والتبحر الأصولي بعد صاحب الكفاية الشيخ محمد كاظم الخراساني المعروف" بآلاخوند" قال المظفر :« كان شيخنا وأستاذنا العظيم ميرزا حسين النائيني المتوفى سنة "١٣٥٥هــ" يفتخر بأنّه من تلامذة مدرسته، وإن كل ما عنده من تحقيق ومعرفة فهو فهم أسرار آراء الشيخ الأنصاري وتحقيقاته» [مقدمة جواهر الكلام ج١-ص١٠] -الشيء المؤسف حقاً أننا لم نجد في حياة أعلامنا مذكرات شخصية، تؤرخ أو توضح لنا منهجية العمل المرجعي في كيفية التعاطي مع ملفات سياسية خطيرة ٱنذاك - على سبيل المثال أيام مرجعية الشيخ جعفر كاشف الغطاء كان صراع الدولة العثمانية والايرانية قائم على قادمٍ وساق، وعقدت فترة هدنة في أُخريات حياته، ومن ثم تم الصلح بين الدولتين بعد وفاته على يد نجله الشيخ موسى المتوف سنة ١٢٤١هـ/١٨٢٦م. والتي كان لها الأثر الأكبر النافع على البلدين وعلى الحوزة خصوصاً .
وكيف ما كان غادر السيد محمد مهدي الخرسان وهو أحد سدنة التحقيق والخبراء الموهوبين في عالم التراث وكتب الشرع المبجل .السيد محمد مهدي الخرسان خِرِّيج حوزة النجف التي كتبت مجدها بأيدي العباقرة الأفذاذ، وسطرت ملاحم شموخها بمحابر الفقه والفنون، وتزينت لجامعات العالم بثوب المعارف الدينية، كما ارتفعت منارات عزها بوجود الأساطين الفحول . النجف لا يفوز بحلباتها الا من غاص بقاعها، فالأصداف سريعاً ما تذهب عنها أدراج الرياح وتمكث فيها تلك الدرر النافعة للناس .النجف حياتها استلهام النصوص فهي الصحراء العطشى التي لا تروى إلا بها، ومهمة دروس التحقيق تصفيتها من جميع الأكدار التي تشوبها، وبهذا يتجلى الدور الرائد لمحقق النصوص الشريفة. السيد مهدي الخرسان ابن حواضر النجف العريقة، وقد عايش كل المعاناة التي مر بها العراق ومر بها أهل النجف فهو عاصر كل الحكومات العراقية بمختلف مسمياتها، بداية عمره وعى فيه على الحكم الملكي، وكان شاهد عصر على الحكومات الجمهورية كلها .كما عايش مختلف الأجيال العلمية التي اضفت لتجربته ورؤيته بمزيد من الخصال الفريدة .
تميزت بحوث السيد الخرسان رضوان الله عليه بالاستيعاب الشامل للموضوعات المختارة لديه، مضافاً للدقة والأمانة العلمية التي اتسم بها في تحقيق النصوص . الأمانة العلمية لدى السيد الخرسان تعلو كل شيء، فهي عنده فوق المجاملات والأمور العاطفية والمذهبية والنفسية، ولذا في بعض كلماته نقد بعضهم قائلاً :« والمفروض في المؤرخين كحفظة للأجيال وسدنة للتاريخ (الأمانة) ومن صميم رسالتهم أداؤها إلى الأجيال صحيحة كاملة، شأن الاُمناء على الودائع» ثم يقول معقباً :« كم يحسن ظن الباحث ببعض المؤرخين المنصفين حين يجدهم يسجلون تاريخ الرجال دون متابعة الهوى، ويسردون الحوادث ودقائقها ونكاتها من غير تعصب ولا عاطفة فيشكر لهم الصنيع ويحمد منهم الفعل»[ مقدمات كتب تراثية ج٢-ص٧]
التحقيق عملية اكتشافٍ وايضاح للغوامض وفكّ الألغازِ التي تحيط بالنصوص، ولم يكن مقصوراً بالضبط وإخراج المصادر والفهارس، وإنما فن يدور في إثبات الحق، والسعي وراء الحقيقة الناصعةِ بعيداً عن التعصب والأهواء، وذلك من خلال نافذة الضبط والإحكام والرصانة العلمية ، والتحقّق من سلامة النص من شوب التحريف والتصحيف والتزوير .فالسيد مهدي الخراسان طاب ثراه كان مثالاً للمحقق الأمين الذي نذر حياته كُلّها لخدمة وحفظ تراث أهل البيت عليهم السلام، وحفظ ثروات الأمة العلمية من زوايا الضياعِ والأندثار، فلله درّه وعليه أجره ورفع درجته مع السادة الميامين محمد وآله الطاهرين .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat