صفحة الكاتب : محمد قاسم الطائي

غياب محمد بن الحنفية عن كربلاء 
محمد قاسم الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.


إنّ الفهم الكامل لواقعة كربلاء يجري حصراً عبر قنوات كاشفية ذات دلالة معرفية ماسة من حيث طبيعة الترجمة للشخوص الذين عاصروا تلك الفترة سواء كان قبل فاجعة الطف أو بعدها، وما تخلل ذلك من أحداث ومواقف وكلمات ومداولات عقائدية تاريخية هامة ومهمة، وقيمة الترجمة بقيمة تلك المصادر الواصلة والمعتبرة، وهذه المصادر المعرفية تتنوع بحقول عديدة من العلوم النقلية كعلم الرجال والحديث والسير والتاريخ والتفسير الروائي المأثور ونحو ذلك، فلا ينحصر تفسير واقعة كربلاء كما يتوهم بطريق مقتل أبي مخنف الواصل للطبري أو لأبي فرج الاصفهاني مثلاًـ سيعزز هذا المدعى لاحقاً بمزيد من الشواهد والمعطيات .الكلام الدائر حول محمد بن الحنفية منصب حول ثلاث مضامين : الأول بخصوص موقفه من النهضة الحسينية، وعدم ذهابه لكربلاء مع إخوته- الثاني : حول موقفه من إمامة السجاد عليه السلام، المضمون الثالث : دوره ما بعد فاجعة كربلاء والأحداث التي تلتها .أما بخصوص تخلف محمد بن الحنفية عن نصرة الحسين عليه السلام يوم عاشوراء ثمّة أقوال :

القول الأول : إن بقاء محمد بن الحنفية في المدينة هو بحسب مقتضى وصية الامام الحسين له حيث أورد العلامة المجلسي حديثه كاملاً في البحار، وقول الامام له :«.. وأما أنت يا أخي فلا عليك بأن تقيم بالمدينة فتكون لي عيناً لا تخفي عني شيئاً من أمورهم» (١)

بمعنى أن بقاء محمد بن الحنفية في المدينة راجع بالأصل لمصلحة نهضة الامام (عليه السلام) بحسب ما طلب منه الامام نفسه حيث أن وجوده في المدينة يشكل مصلحة داعمة سواء لمشروع نهضته أو بخصوص الهاشميين في حمايتهم من الأذى والدفاع عنهم من المخاطر الأموية المحدقة، وهذا القول اختاره بعض المعاصرين .

القول الثاني : أن بقاء محمد بن الحنفية في المدينة وتخلفه عن نصرة الحسين (عليه السلام) كان بسبب عائق المرض الذي أصيب به، وهذا ما ذهب إليه العلامة الحلي في أجوبة المسائل المهنائية [أسئلة مهنا بن سنان للشيخ العلامة حسن بن يوسف الحلي المتوفى سنة ٧٢٦هــ"]

حاصل السؤال:« ما يقول سيدنا في محمد بن الحنفية هل كان يقول بإمامة أخويه وإمامة زين العابدين عليهم السلام أم لا؟ وهل ذكر أصحابنا له عذراً في تخلفه عن الحسين عليه السلام، وعدم نصرته له أم لا؟ وكيف يكون الحال إن كان تخلفه عنه لغير عذر وكذلك عبد اللَّه بن جعفر وأمثاله؟ 

جواب العلامة الحلي رضوان الله عليه : قد ثبت في أصول الإمامية إن أركان الإيمان التوحيد والعدل والنبوة والإمامة، والسيد محمد بن الحنفية وعبد اللَّه بن جعفر وأمثالهم أجل قدراً وأعظم شأناً من اعتقادهم خلاف الحق وخروجهم عن الايمان الذي يحصل بارتكابه الثواب الدائم والخلاص من العقاب الدائم. وأما تخلفه عن نصرة الحسين عليه السلام، فقد نقل أنه كان مريضاً، ويحتمل في غيره عدم العلم بما وقع لمولانا الحسين عليه السلام من القتل وغيره، وبنوا على ما وصل من كتب الغدرة إليه، وتوهموا نصرتهم له » (٢)

القول الثالث : أن الإمام الحسين (عليه السلام) طرح خياراً بين طريق الإلتحاق والفوز بالشهادة وبين طريق الذهاب والتخلّف عنه الذي يعني عدم إدراك الفتح المرتقب من نهضته المباركة، بمعنى آخر لم يكن أمراً صادراً بوجوب الجهاد الأبتدائي ضد الزمرة الباغية كي يقال أن المجموعة الهاشمية التي بقيت في المدينة التي منها محمد بن الحنفية وعبد الله بن جعفر وأضرابهم كانوا في معصية الخذلان أو التقاعس عن نصرة الحق أو الخلاف المتقاطع مع نهضة أبي الأحرار (عليه السلام) والدليل ما رواه ابن قولويه صاحب كامل الزيارات المتوفّى سنة: "368هـ" بإسناده المعتبر عن زرارة بن أعين، «عن أبي جعفر [الباقر] (عليه السلام) قال: كتب الحسين بن علي من مكّة إلى محمّد بن علي: بسم الله الرحمن الرحيم، من الحسين بن علي إلى محمّد بن علي ومن قبله من بني هاشم: أما بعد فإن من لحق بي استشهد، ومن لم يلحق بي لم يدرك الفتح، والسّلام»(٣)

ويستفاد في المقام أمور:

أولاً : أن ظاهر الرواية لا تحمل خصوصية التجريح والذم الشاجب للذين تخلفوا عنه من بني هاشم غاية ما هنالك يعد تخلّفاً عن الفتح الذي وعد به الحسين عليه السلام، والفتح بضابطة جامعة يعني النصر، الذي من مظاهره ولوازمه خلوص شريعة سيد المرسلين من مخاطر التلاعب والتحريف الاُموي، فالتخلّف عن الفتح الحسيني، وأن افقد الذين تخلفوا عنه تلك الدرجات العليا التي نالها أولئك الشهداء السعداء، إلّا أنّه لا يفضي بهم لمهاوي الفسق والخروج عن الإيمان، والكلام قطعاً ليس شامل للذين حضروا مع أعدائهم وأكثروا السواد عليهم، ورأوا ما جرى على بيت النبوة من دون مناصرة .

 

ثانياً : خيار النصر أو الشهادة المستظهر من نفس الرواية غير مانع عن عذر المرض، بل لا ملازمة بينهما، والوجه في ذلك أن الخطاب لم يكن حصراً لمحمد بن الحنفية، وإنما شامل بضميمة بني هاشم ومن معهم في المدينة، والكتاب كما ترى خالٍ من معان الإلزام الشرعي، وكيف ما كان جميع ذلك لا ينفي علة المرض التي أصيب بها محمد بن الحنفية، ولذا وصفها بعض الأعلام كالشهيد الثاني بالزمانة قال :« وأما تخلّفه عن الحسين (عليه السلام) فعذره مشهور في الأخبار وكتب السير فإنّه كان لزمانة في رجليه»(٤)

 

ثالثاً : توجيه الرسالة وتخصيصها بعنوان محمد بن علي بأكثر من مرة طارد لتلك السلبيات التي صورتها بعض الأقلام بخصوص موقف محمد بن الحنفية من ثورة الحسين (عليه السلام) كما يكشف بنفسه حجم التخرصات والتخمينات الفارغة والمجانبة للصواب إزاء الواقع التاريخي الموثق .فقد ذكرت بعض المرويات أن آخر رسالة للحسين عليه السلام في كربلاء هي تلك الرسالة التي أرسالها لأخيه محمد فقد ورد عن أبي جعفر الباقر "عليه السلام" قال:« كتب الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى محمد بن علي "عليه السلام" من كربلاء: بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي (عليهما السلام) إلى محمد بن علي ومن قبله من بني هاشم: أما بعد فكأن الدنيا لم تكن وكأن الآخرة لم تزل والسلام »(٥)

 

رابعاً : روى صاحب بصائر الدرجات المتوفى سنة "٢٩٠هــ" وحكى السيد ابن طاووس المتوفّى سنة: "664هـ" عن كتاب الرّسائل للكليني ـ الّذي لم تصل نسخته ـ الرّواية بإسناده «عن حمزة بن حمران، عن أبي عبد الله [الصّادق] "ع" قال: ذكرنا خروج الحسين "ع" وتخلّف ابن الحنفية عنه، فقال أبو عبد الله [الصّادق] "ع" يا حمزة، إنّي سُأحدثك بحديثٍ لا تسأل عنه بعد مجلسنا هذا، إنّ الحسين "ع" لما فصل متوجهاً أمر بقرطاس وكتب: «بسم الله الرحمن الرحيم من الحسين بن علي "ع" إلى بني هاشم، أمّا بعد، فإنّه من لحق بي منكم استشهد، ومن تخلّف عنّي لم يبلغ الفتح، والسّلام»(٦) والكلام كما تقدم لا ينفي مشكلة المرض، بل يمكن أن تكون أحد أسبابها الجوهرية في قضية التخلّف، وما يعزز ذلك أكثر روايات الوداع التي نقلها صاحب البحار - عندما أراد الحسين الخروج من المدينة، قام محمد بن الحنفية بتوديع ابن بنت رسول الله ريحانة النبي، قام بتوديعه بلسان معتذر وعين باكية وقلب يقطر ألماً وحسرة على فراق سيد شباب أهل الجنة، وكيف لا يكون كذلك، وهو ابن أمير المؤمنين الذي عرف عنه العلم والزهد والشجاعة والذود عن حياض الرسالة.

محمد بن الحنفية بين الواقع التاريخي وأسباب التبرير 

ثمّة إشكالات سيقت للقدح وتوجيه الطعن بحق محمد بن الحنفية، وهذه الإشكالات يمكن حصرها بأربعة وجوه : الوجه الأول أنه لم يخرج مع الامام الحسين (عليه السلام) ولم يضحي بنفسه في سبيل نهضته المباركة بل وتقديمه الاقتراح للإمام بخصوص الابتعاد عن يزيد، وهذا تقصير منه لا يمكن تفسيره إلا بالخذلان والتقاعس عن واجبه المفروض. الوجه الثاني : دعوى الامامة التي شرعنها لنفسه مقابل الامامة الشرعية والمنصوصة وهي إمامة الامام علي السجاد (عليه السلام) وظهور فرقة منحرفة تابعة له ما تعرف" بالكيسانية" كل ذلك كاشف عن فساد العقيدة واضطراب الموقف الذي كان عليه! .الوجه الثالث مبايعته لطاغية عصره يزيد والجلوس معه واستلام الهدايا والعطايا منه ، يزيد الذي قتل ريحانة رسول الله وفعل ما فعل بالعترة الطاهرة وارتكب كل أنواع الفسق والفجور .الوجه الرابع: عدم بعثه أحد من أولاده مع أخيه الحسين (عليه السلام) لكربلاء، والمعروف كان محمد بن الحنفية لديه عشرة من الأبناء، والمفروض إذا لم يقدر على الذهاب بنفسه كان بإمكانه أرسال أحد أولاده مع عمه من باب التضحية والفداء له، وهذا الابتعاد يكشف عن طبيعة عدم الانسجام بينه وبين الامام الحسين عليه السلام وهو موجب للذم .

 

أما الوجه الأول: فقد تقدم الكلام في أسباب عدم حضور محمد بن الحنفية في كربلاء، وقد ذكرنا أسباباً منها علة المرض، وهذا القول تبناه جملة من أعلام الامامية منهم العلامة الحلي في المسائل المهنائية والشهيد الثاني في رسائله والسيد ابن طاووس في حكاية الأثر المنسوب إليه، حيث جاء في رسالة المختار التي أرسلها لإبراهيم بن مالك الاشتر التي تضمنت بعض فقراتها تفسيراً بخصوص علّة عدم ذهاب محمد بن الحنفية مع أخيه الحسين (عليه السلام) لكربلاء قائلاً له إذ كان حينها موعوكاً بسبب نظرة عين والذي ليس لديه القدرة والطاقة على حمل السيف قال : « قد أنفذني إليك وهو يأمرك أن تجمع له أهل الكوفة، وتأخذ له البيعة عليهم وقد ولاني الأمر، وقد كان محمد بن الحنفية موعوكاً لأنه أهدى إلى أخيه الحسين (عليه السلام) درع من نسج داود على نبينا و"عليه السلام" فلبسه ففضل عنه ذراع وأربعة أصابع فجمع محمد بن الحنفية ما فضل منه وفركّه بيده فقطّعه فأصابته نظرة فصارت أنامله تجرى دماً ومدة، ولهذا لم يخرج مع الحسين عليه السلام يوم كربلاء لأنّه ما كان يقدر أن يقبض قائم سيف ولا كعب رمح..»(٧)

 

ومنها قول دور النيابة في المدينة الذي أورده العلامة المجلسي في البحار، وقد مر ذكره آنفاً أو ما قيل أن بقاء محمد بن الحنفية في المدينة كان لغرض نشر أهداف النهضة وتبيان المظلومية، ومنها ما ورد أن بقاء محمد بن الحنفية كان لمصلحة خفية لا نعلمها ومنها ما قيل أن اسمه لم يرد في اللوح المحفوظ مع أنصار الحسين وأهل بيته الذي استشهدوا معه صلوات الله عليهم جميعاً .هذا ملخص الأقوال التي بررت عدم خروج محمد بن الحنفية مع أخيه الامام الهمام أبي الضيم "عليه الصلوات الزاكية" وجميعها قابل للمناقشة والنظر .

 

أما القول أن بقاء محمد بن الحنفية كان لأجل النيابة أو لأجل أن يكون عيناً للإمام الحسين (عليه السلام) في المدينة، فهذا مما لم يرد في المصادر المعتبرة، ولم يذكره أحد من المتقدمين سوى ابن اعثم الكوفي وهي من تفرداته التي لا تساعد عليها الشواهد التاريخية المثبتة، ولو كان كذلك لتصادم مع السلطة الأموية واتباعها أو لشكل لها هاجساً مقلقاً على الأقل في أجواء المدينة، وخصوصاً أن مثل محمد بن الحنفية لا يخفى عن أنظار السلطة ومجتمع أهل المدينة وفي الوقت ذاته لوصلنا شيء عن دوره الخطير وعن مواقفة المفروضة كما هو نظير القضايا التاريخية الأخرى التي بعضها لا تعني شيء قياساً بهذه القضية مما يعني مفقوديته في المقام لا دليل عليها إلا اللهم إذا قيل أن بقاءه في المدينة كان لأجل مصالح بني هاشم بالتحديد ومراعاة شؤونهم العامة، وهو غير بعيد وهذا ما يلوح من بعض وصايا الامام معه .أما مسألة أن بقاءه في المدينة كان لغرض نشر أهداف النهضة وتبيان المظلومية الحسينية على المستوى الاعلامي والسياسي، فهذا وجيه لو قلنا أن بقاءه في المدينة كان حصراً لأجل هذه المهمة الخطيرة لا سببٍ آخر وهذا كما ترى مما لا تسعفه معطيات الأدلة. نعم أن بعض نشاطاته الخفية التي كانت مع المختار وأنصاره ممكن القول أنها خدمت القضية الحسينية ولكن ليست منوطة بهذه المهمة بالذات ولا بتلك الأهداف الجليلة .

 

أما القول الذي استظهر أن سبب عدم خروح محمد مع الامام الحسين (عليه السلام) كان لوجود مصلحة لا نعلمها. فهذا الكلام مناسب لو قلنا بعصمة محمد بن الحنفية، مع أنه لا أحد قائل بعصمته ثم أن تفسير المصلحة متأتي في كل الاحوال سواء بالذهاب أو بعدم الذهاب، وفي البين لا مرجّح لأحدهما على الآخر، ثم أن وجود المصلحة لا يمنع من معرفة الأسباب والمبررات والمناشىء الظاهرية التي أدت لهذا الموقف إذ لا ملازمة بين فهم الأسباب التاريخية وبين وجود المصلحة الداعية لذلك .

 

أما القول الذي برر عدم حضوره في كربلاء بأن اسمه لم يكن في اللوح المحفوظ من أصحاب الحسين (عليه السلام) وهذا القول مستند بوجه خاص لرواية ابن شهر آشوب فيما جاء عن محمد بن الحنفية نفسه أنّه قال:« وإنّ أصحابه [أيّ الامام الحسين "ع"] عندنا لمكتوبون بأسمائهم وأسماء آبائهم»(٨) وهذا القول في غاية الضعف، إذ أن فرض الاطلاع ومعرفة الاسماء لا يحول دون إرادة الذهاب بالنظر لضابطة كبرى الاختيار في حرية السعي وتحديد التكليف الشرعي، ثم أن مسألة الاطلاع من مختصات علم المعصوم التي تتنافى بالضد مع ما ثبت لمحمد بن الحنفية جملة من المقترحات التي قدمها للامام بخصوص التخلّص من شرور بني أمية وطغيانهم، ومن هذه الحيثية أوضح السيد المرتضى "قدس" السر في مخالفة الامام للذين اقترحوا عليه بعدم الذهاب للعراق مبيناً بأن نصائحهم واقتراحاتهم كانت مأسورة بحسب الظنون والأمارات التي رأوها، وأين هذا من أفق الامام وعلمه؛ قال: « أما مخالفة ظنّه "عليه السلام" لظن جميع من أشار عليه من النصحاء كابن عباس وغيره [مثل محمد بن الحنفية] فالظنون إنّما تغلب بحسب الامارات، وقد تقوى عند واحد وتضعف عند آخر..»(٩)

 

وكيف ما كان يمكن التمسك بوجود العلة التي حالت في طريق محمد بن الحنفية دون الذهاب مع أبي الأحرار، وهذه العلة أقرب ما تكون لمرض وما شابه ذلك وفاقاً مع بعض الأعلام الذين مر ذكرهم وإلا من البعيد بحقه- كما سيأتي- وما عليه من الجلالة والعلم والشجاعة والاخلاص والمواقف البطولية التي خاضها مع أبيه أمير المؤمنين عليه السلام) في الجمل والنهروان وصفين فهذه المزايا بنفسها تسقط دعوى التخاذل والعصيان، وقد كانت لمحمد المكانة الكبيرة عند أبيه أمير المؤمنين صلوات الله عليه وكشاهد على ذلك، فقد أورد ابن أبي الحديد المعتزلي عنه هذه الرواية : « هذي يدي - يعني محمد بن الحنفية - وهذان عيناي -يعني  الحسن والحسين عليهم السلام -وما زال الانسان يذبّ بيده عن عينيه»(١٠) ومن الغريب من بعضهم وهو يشن حملات الطعن والتهجم عليه، وكأنه كان من أبناء ذلك الزمان! إذ لا يمكن التغافل عن العديد من القرائن والشواهد الصريحة المادحة بحقه سواء كان من حيث الشواهد تاريخية أو الروايات الحديثية الواردة .

أما الوجه الثاني وهي دعوى الامامة فلا يمكن الأخذ والتمسك بها لأمور كالتالي :

 

أولاً : هذا خلاف المسلّم والمشهور لدى الامامية إذ أن محمداً كان أحد أقطاب العلم والعبادة والمعروف بالزهد والشجاعة، وأنّه أفضل ولد الامام علي (عليه السلام) بعد الحسن والحسين عليهم السلام، ومن ذوي الاعتقاد والولاء بإمامة علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) فقد روي عن الامام جعفر الصادق عليه السلام أنّه قال:« ما مات محمد بن الحنفية حتى آمن بعلي بن الحسين عليه السلام»(١١) وما يدل على ذلك أيضاً محاججة الأئمة كالباقر والصادق (عليهما السلام) ومحاوراتهم مع بعض ممن يعتقد بأنّه حي لم يمت وهي دعوى باطلة أبطلها الأئمة في وقتها، ولم يعد لها قيمة- فقد روى الكشي عن عبد الله بن مسكان قال دخل حيان السراج على أبي عبد الله (عليه السلام) فقال له: يا حيان ما يقول أصحابك في محمد بن علي الحنفية؟!

قال[حيان]: يقولون هو حي يرزق!؛ فقال أبو عبد الله [الصادق] (عليه السلام): حدثني أبي أنّه كان فيمن عاده في مرضه، وفيمن أغمضه، وفيمن أدخله حفرته وزوج نساؤه وقسّم ميراثه. قال، فقال حيان: انما مثل محمد بن الحنفية في هذه الأمة مثل عيسى بن مريم، فقال: ويحك يا حيان شبه على أعدائه فقال: بلى شبه على أعدائه. قال[ الصادق "عليه السلام"] : فتزعم أن أبا جعفر عدو محمد بن علي! لا ولكنك تصدف يا حيان، وقد قال الله عز وجل في كتابه " سَنَجۡزِي ٱلَّذِينَ يَصۡدِفُونَ عَنۡ ءَايَٰتِنَا سُوٓءَ ٱلۡعَذَابِ بِمَا كَانُواْ يَصۡدِفُونَ ..»(١٢) وهذه الرواية مكررة بألفاظ مختلفة لكن مضمونها واحد والذي يستكشف من متنها عدة ثمرات مفصلية منها ايضاح علاقة الود والقرب بين بيت محمد بن الحنفية وبيت الامام السجاد" عليه السلام " بدرجة الوصول أن الباقر "عليه السلام" كان حاضراً عنده وهو في أخريات حياته وغمض عينيه بيده الشريفة، وهذا المعنى بنفسه كاشف عن علو الكيان العقائدي والروحي السليم الذي تمتع به محمد بن الحنفية، كما يستكشف من حديث الامام مع حيان بطلان المذهب الكيساني الذي كما مر- ادعى جماعة غيبته، وأنّه المهدي الموعود! .

 

ثانياً : دعوى الامامة لا تنسجم مع جلالة قدره المنصوص عليها، وهذا مما تعضده بعض المرويات الواردة في كتب التراث فقد جاء عن الرسول الأعظم" صلى الله عليه وآله" أنّه قال لأمير الؤمنين عليه السلام: «سيولد لك ولدٌ سمّه باسمي وكنّه بكنيتي »(١٣) كما جاء أيضاً في وصية أمير المؤمنين (عليه السلام) الأخيرة وقد أوصاه وصية خاصة بأخويه الحسن والحسين عليهم السلام فقال له: «..أوصيك بتوقير أخويك ؛ لعظم حقّهما عليك ؛ فلا توثق أمراً دونهما»(١٤) وفي المقابل أوصى الحسن والحسين عليهما السلام بأخيهما محمد بن الحنفية بكلمات ملئها العطف والحنان قائلاً لهما: «أُوصيكما به؛ فإنّه أخوكما وابن أبيكما، وقد كان أبوكما يُحبه» وقد تكرر أكثر من مرة أن محمداً كان مورد عطف أمير المؤمنين عليه السلام وشفقته وعنايته، وهذا ما رواه الشيخ الصدوق "طاب ثراه" في مقالة الأمير (عليه السلام) لرأس اليهود : « فوالله ما منعني أن امضي على بصيرتي، إلا مخافة أن يقتل هذان، وأومأ بيده إلى الحسن والحسين عليهما السلام فينقطع نسل رسول الله صلى الله عليه وآله وذريّته من أمته، ومخافة أن يقتل هذا وهذا، وأومى بيده إلى عبد الله بن جعفر، ومحمد بن الحنفية..»(١٥)

وأما رواية الابتهال للحجر الأسود التي دارت بينه وبين الامام السجاد (عليه السلام) بخصوص الأحق بمنصب الامامة بعد إغماض النظر عن السند ودلالتها، وإلا الرواية جاءت في الكافي باب الحجة، وقد صرّح السيد الخوئي "قدس" أنّها صحيحة السند، وفيها دلالة على إيمان محمد بن الحنفية بإمامة علي بن الحسين (عليه السلام) مع ذلك أقول، ولو من باب التنزل سنذهب مع دلالة الرواية بمجموعة من الاحتمالات التي يمكن الاستظهار منها :

الاحتمال الأول : أن محمداً منكر لأصل مشروعية الامامة، وهذا باطل فقد تقدم أنّه ممن آمن بإمامة الحسن والحسين (عليهما السلام) ولم يثبت عنه صدور مخالفة بحقهما أو الانكار لإمامتهما سواء كان بقول أو فعل، وهذا المقدار كافٍ بخصوصية الايمان بأصل الامامة .

الاحتمال الثاني : أراد الامامة لنفسه من باب الترأس والزعامة والموقعية في نفوس الشيعة، وهذا النحو لا يتم فلو كان كذلك لماطل في دعواه ولما تنازل بهذه السهولة، ولدعا الناس إلى مبايعته كما هو شأن الكثير من أهل الرياسات وأهل الدنيا والطمع في الدعوة لأنفسهم وتحشيد الناس إليهم سواء كان بحق أو باطل، والأمر أسهل فيما يكون إذا كان يملك موقع اجتماعي وديني بمستوى عال كمحمد بن الحنفية الذي له سيرة تاريخية مشرّفة في العلم والمواقف الناصعة في الدفاع عن جبهة الحق التي تمثلت ببطولات جهادية عديدة قد مر بعضها. 

ويكفيه أنّه ابن أمير المؤمنين صلوات الله عليه لإقناع الناس بإمامته والتصديق بدعواه، والحال أنّه لم يفعل ولم يثبت عنه ذلك، بل ثبت العكس بمعنى أنّه أرشد الناس ممن يعتقد بإمامته نحو العدول والاعتقاد بأحقية إمامة السجاد (عليه السلام) فهو إمامه وإمام كل مسلم .

روى الكشي بإسناده عن أبي بصير، قال:« سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول، فذكر أن أبا خالد الكابلي كان يعتقد بإمامة محمد ابن الحنفية، حتى أن محمداً أخبره بأن الإمام علي بن الحسين عليه السلام عليه وعلى كل مسلم»(١٦)

الاحتمال الثالث :هي قطع الطريق أمام المشككين بإمامة الامام علي بن الحسين السجاد (عليه السلام) فقد كان بعض الناس ينظر أنّه الأولى بها من جهة أنّه بعد الحسن والحسين (عليهما السلام) في السن، والأكثر لما توجهت إليه الأنظار بعد قيام ثورة المختار الثقفي في الكوفة، وبدواً ازداد الأمر أكثر لما ذهب إليه وجهاء الكوفة للتأكيد والاستفهام منه بشأن المختار، والأخذ بثارات الحسين (عليه السلام) فكان ملخص الجواب الإذن ومناصرته، وقد كان المختار نفسه متواصل معه . فقضية المحاججة والابتهال للحجر الأسود واستنطاقه لو تمت فهي تبيان لخطورة موقع الامامة الالهية والتي لا تجري حسب المزاج والاستحسان البشري، وإنما منوطة بالنص والحكمة الالهية فـ" اللّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ" وبهذا كان السجاد (عليه السلام) الأحق بها والمؤهل لها شرعاً، اسماً وعنواناً ومضموناً وسنلاحظ ذلك بنحو معمّق في قصة أبي خالد الكابلي .

______

١-بحار الأنوار ج ٤٤-ص٣٢٩

٢-أجوبة المسائل المهنائية ص ٣٨-٣٩ مسألة ٣٣

٣-كامل الزيارات ص ١٥٧

٤-رسائل الشهيد الثاني ج١-ص٥٦١

٥- كامل الزيارات ص١٥٨

٦- بصائر الدرجات ص ٥٠١-ح١٥/ اللهوف في قتلى الطفوف ص٤٠

٧- مع الركب الحسيني ج٢-ص ٢٦١

٨- مناقب آل أبي طالب ج٣-ص ٢١١

٩- تنزيه الأنبياء ص ٢٢٩-٢٣٠

١٠- شرح النهج لأبن أبي حديد المعتزلي ج٢-ص ٣٣٤

١١- الامامة والتبصرة ص٦٠

١٢- رجال الكشي ص٦٠٤

١٣- بحار الأنوار ج٤٢- ص٩٢

١٤- بحار الأنوار ج٤٢- ص٢٤٥

١٥-نفس المصدر 

١٦- رجال الكشي 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد قاسم الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/07/24



كتابة تعليق لموضوع : غياب محمد بن الحنفية عن كربلاء 
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net