صفحة الكاتب : محمد قاسم الطائي

حوزة النجف في رؤى السيد السيستاني (دام ظله)
محمد قاسم الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

صيف النجف حافلٌ بالذكرياتِ المُلهمة التي لا تغيبُ عن سيّد الغرِّي المبجل، ذكريات موقدة، شاحذة للهمم والعزم، وموقظة للفكر والمعرفة، وآخذة بهدي الألباب للمجد العلمي السامي. النجف كانت ولا زالت موطن مرابط في سبيل العلم والشريعة، كانت ذلك الحصن الأمين في مواجهةِ الأسئلةِ وتحدّيات العصر المتنوعة، عمرها تجاوز الألف عام، لكنها ظلَّت فتيةُ مواصلةِ الخُطى لم تنثني، لا يختلف أن حوزة النجف تجرَّعتْ كثيراً قساوةِ الزمنِ السالف، وذاقتْ صنوفاً من الضغوطات والأحكام القاسرة والجائرة بحق مشروعها العلمي والاجتماعي، كان آخرُ تلك المحطاتِ عقدَ التسعينِيات الغابر من القرن المنصرم، نتيجةً للمضايقات والممارسات الاقصائية المهددة لوجودها وأساتذتها وطُلاّبها ومنهاجها الحر، في بداياته اقترح بعض المحيطين على المرجع الكبير السيد أبو القاسم الخوئي بالذهاب والسفر خارج العراق للتخلُّص من هذه المحنة والمشكلة المستعصية، فأجاب السّيِّدُ الخوئي رضوان الله عليه: اخشى أن يقال الطوسي أسس الحوزة والخوئي هدمها، لا أعرف بالضبط تاريخ هذه الكلمة على وجه الدقة، لكنها يقيناً كلمة مملوءة معاناة والآم ومهضومية، كلمة تنبأ عن آلام الماضي القريبِ فضلاً عن البعيد بتعقيداته وتعرجاته المشتابكة.

 

حوزةُ النجفِ رغم المعافاةِ والتطوُّرِ الملحوظِ، لم تأخذ الاستحقاق الكافي الذي يلِيق بها بالمستوى المطلوب من حيث مساحةِ الاهتمام والأولويَّة، مع أنَّها بمثابةِ الأم الاستراتيجي من حيث موقع السبق والأصالة والرصيدِ التراكميِّ الطويل الذي قطعته مع حفظ المقام لكل المعاهد والحوزات العلمية في العالم الاسلامي، حوزة النجف لم تغيب عن لسان المرجع الأعلى، في خطاباته، لقاءاته مع الفضلاء وطلاب العلوم  الدينية، إرشاداته العامة، كلماته المنشوره، تكررت كثيراً حوزة النجف من سماحة المرجع الأعلى السيد علي السيستاني "دام ظله" كان آخر ما سمعته من سماحته بشهر ذي القعدة الماضي لسنة 1445هـ لما قدمنا لزيارته مع ثلة من طلّاب العلوم الدينية كان سبب مجيئنا التبرك برؤيته الشريفة، وقد ركز سماحته على دور حوزة النجف الأشرف،ثم دعا الله تعالى أن يجعلنا من العلماء العاملين في حوزة النجف، ثم أوصى سماحته بمواصلة طريق العلم، والصبر على التحصيل، وحفظ النفس من مخاطر المهالك والشبهات، والتأكيد على مسألة التعاون فيما بين بعضنا البعض الآخر، وأن نكون صفاً متماسكاً بعيداً عن مثار التفرقة والكراهية، ومسألة التعاون المرة الثانية اسمعها من سماحة السيد، لكن هذه المرة بتأكيد أكثر رغم وجازتها.

 

تميزت حوزة النجف الأشرف بخصائص محورية هامة، منها العمق العلمي الذي يتجاوز الحضور الشكلي والعناوين الثانوية عن مسألة التحصيل الدرسي، المعروف أن الحوزة ترتكز على مسألة النظام الحر في الدراسة والتكوين العلمي، ومن خلال ذلك يتم الاستناد بشكل مباشر على كفاءة الطالب وإلتزامه بالضوابط الشرعية، وطبيعة الدراسة الحوزوية الحرة في حلقاتها ودوائرها وتشعباتها تتجاوز جميع العناوين والاعتبارت التي لا تمت بصلة لجوهر الدراسة والتحصيل العلمي المتعلق بشخصية طالب العلوم، والعناوين سواء كانت ألقاب أو أسماء أسر علمية أو سياسية أو حزبية أو شهادات أكاديمية ونحو ذلك، جميع هذه الأمور لا علاقة لها بالمعيارِ والوزنِ العلميِّ للطالب الحوزوي، وإنما المقياس الحقيقي بجديّتهِ ومثابرتهِ وتحصيله الشخصي، وكذلك بتديُّنهِ وعدالتهِ وتقواه، ومن الخطأ قول بعضهم أن القرابة والمحسوبيات تحكمت في حركة الحوزة، بل سيرة الحوزة العلمية كانت منذ زمن بعيد ولا زالت قائمةً على معدّل الكفاءة والأهليّة والتقوى، فهي بعيدة كل البعد عن المظاهر والعناوين الأخرى، ولعل هذه السيرة كانت موجودة حتى قبل زمن شيخ الطائفة الطوسي، ولليوم معمول بها ومستمرة خلفاً عن سلف ولله الحمد .الحوزة النجفية قديماً عرفت بين الأساطين وجهابذة العلم بمستوى الدقة والعمق وقوة الاستدلال حتى كان يقال لما ترسل بعض البحوث لعلماء حوزة قم آنذاك كانت تُنعت بالفخر والاعتزاز بأنّها هذه هي حوزة النجف في أسلوبها وتميزها، وهذا هو المقصود في بعض كلمات المرجع الأعلى ونصائحه أن حوزة النجف كان لها قصب السبق والدور الريادي في حفظ ثروات التراث الإمامي، وعليه تقع المسؤولية على عاتق الجميع بضرورة حفظ هذه الأمانة، وقد أجاد الأستاذ السيد محمد رضا السيستاني" دامت توفيقاته" في كلمته الرائعة التي قيلت في ختام دروسه الفقهية بمناسبة حلول شهر رمضان لعام 1445هـ قال" وهو أن الوزن العلمي لحوزة النجف أمانة في رقاب الجميع، بدءاً من المراجع والفضلاء وانتهاءً بالطلاب على اختلاف مراحلهم الدراسية"،ثم ألفت أن مسألة دعاوى الفضل وإطلاق الألقاب والمقامات المجانية لا قيمة لها مالم ترتكز على جهود حقيقية من الكتب الاستدلالية العلمية والدروس العالية المعترف بها، بل الحوزة لا تسمح لغير المؤهل وترجعه حيث يناسبه. كذلك التبليغ الديني في المواسم التبليغية هي امتداد ضمني للدراسة الحوزوية، وليس بخارج عن أسوارها وحدودها، فالمبلّغ الناجح ذلك المبلغ المُلِم بعلومِ الحوزةِ والمتابع لها في دورسه وأساتذته .

كما تميزتْ حوزةُ النجف الأشرف بإرثٍ كبير من الفقهاء والمفسرين والأدباء والعباقرة الأفذاذ والخطباء الكبار على مدار مئات السنين، فقد حظيت النجف بكبار العظماء والزعامات الشيعية في العالم الاسلامي- للأسف لا يسع هذه السطور القصيرة ذكر تفاصيل الأسماء الكبيرة التي قطنت ونشأت في حوزة النجف- والأهم من ذلك كله أن النجف حظيت بقدسيَّةِ قبر أمير المؤمنين (عليه السلام)، فالقبر الطاهر محفوفٌ بألطافٍ ومواهب وبركات على روحية وذهنية الطالب لا توجد في مكان آخر، والتجارب في ذلك كثيرة وعديدة في مدى التأثير وسهولة التلقي، كلُّ ذلك اكسب حوزة النجف الواجهة والصدارة التاريخية المتميزة، من هنا أن حوزة النجف اتسمت بأهمية موقع روحي متسيد للعالم الشيعي والاسلامي عموماً، حوزة النجف يعني صوت الاعتدال والنضوج والخطاب المتزن، حوزة النجف افشلت جميع المشاريع الطائفية المملوءة بالدمِ والكراهية، وحدَّتِ الكلمة، كانت دائماً سبّاقةً في نصرة الضعفاء والمظلومين في العالم، حوزة النجف نموذج عالمي صانع للسلام والكرامة الانسانية، والحقيقة كانت مواقف المرجع الأعلى معبّرة بصورةٍ مشرقة عن هذه الحوزة الكريمة، فحوزة النجف في رؤية السيد السيستاني "دام ظله" هي حوزةُ بناءٍ ونهوضٍ وعطاء، حوزة حضارةٍ ووعي متواصل، ومصنع للفكر والفقاهة والأدب .

 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد قاسم الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/09/04



كتابة تعليق لموضوع : حوزة النجف في رؤى السيد السيستاني (دام ظله)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net