على ضفاف الانتظار (2)
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
الشيخ حسين عبد الرضا الاسدي

إنَّ من الاعتقاداتِ الثابتةِ عندنا هي: ضرورةُ وجودِ الحُجّةِ المُعيّن من اللهِ (تبارك وتعالى) في كُلِّ زمن، وإلى هذا المعنى يُشيرُ أميرُ المؤمنين (عليه السلام) بقوله: اللَّهُمَّ بَلَى، لَا تَخْلُو الأَرْضُ مِنْ قَائِمٍ لله بِحُجَّةٍ، إِمَّا ظَاهِرًا مَشْهُورًا، وإِمَّا خَائِفًا مَغْمُورًا، لِئَلَّا تَبْطُلَ حُجَجُ الله وبَيِّنَاتُه.
ويُمكِنُ استفادةُ عدّةِ أمورٍ من هذا المقطعِ من كلامِه (عليه السلام):
أولًا: ضرورةُ وجودِ الحجةِ بين الناس وبين اللهِ (تعالى) في كُلِّ عصر، والحُجّةُ مرةً يكونُ مُنذرًا، وهو النبي، وأخرى يكونُ هاديًا، أي مُكمّلاً لما جاءَ به النبيُّ وهاديًا إليه، وهو الإمام، وهو مفاد قوله (تعالى): "إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ).
وهذه الضرورةُ نابعةٌ من لطفِ اللهِ (تعالى) بعباده، فإنّه (جلّ وعلا) حيث علمَ أنّ عبادَه لا يستقيمُ أمرُهم إلا بوجودِ الحُجّةِ بينهم، وأنّهم لا يصلون إلى مرضاته ولا يبتعدون عن غضبِه كما يُريدُ هو إلا إذا نصبَ لهم حُجةً ودليلًا بينه وبينهم، فإنّه بحكمتِه (جل وعلا) ورحمته وعدله، أوجبَ على نفسِه أنْ ينصبَ لهم ذلك، وهو ما حصل.
وإلى هذه الضرورةِ تُشيرُ العديدُ من الرواياتِ الشريفة، ومنها ما رويَ عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام) قَالَ: (إِنَّ الأَرْضَ لَا تَخْلُو إِلَّا وفِيهَا إِمَامٌ، كَيْمَا إِنْ زَادَ الْمُؤْمِنُونَ شَيْئًا رَدَّهُمْ، وإِنْ نَقَصُوا شَيْئًا أَتَمَّه لَهُمْ).
وعَنْ أَبِي بَصِيرٍ عَنْ أَحَدِهِمَا (عليهما السلام) قَالَ: (إِنَّ اللَّه لَمْ يَدَعِ الأَرْضَ بِغَيْرِ عَالِمٍ، ولَوْ لَا ذَلِكَ لَمْ يُعْرَفِ الْحَقُّ مِنَ الْبَاطِلِ).
ثانيًا: أنّ هذه الضرورة لا تتوقفُ على كونِ الحُجّة ظاهرًا، وإنّما على وجودِه الواقعي وإنْ لم يُعلمْ به، فيُمكِنُ أنْ يكونَ غائبًا، ذلك أنّه وبوجودِ الشريعةِ التي يجيءُ بها النبي، فإنّ الدستورَ العامَ للنّاسِ يبقى محفوظًا، فالقرآنُ الكريمُ مثلًا هو دستورُ الأُمّةِ الإسلامية، والتراثُ الحديثي الواردُ عن المعصومين (عليهم السلام)، هذان المصدران يُمثِّلانِ المنهجَ العامَ للشريعة، وبالتالي هما المصدران لتنظيمِ سلوكِ المؤمنين بما يُرضي اللهَ (تبارك وتعالى)، طبعًا بالرجوعِ إلى أهلِ الاختصاصِ في معرفةِ الأحكامِ الشرعيةِ واستخراجها من هذين المصدرين.
أما ما فائدةُ الإمامِ الغائب، فهذا بحثٌ آخر، وقد تمّتِ الإجابةُ عنه روائيًا، ومن أجوبةِ ذلك ما وردَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ الْفُضَيْلِ عَنْ أَبِي الْحَسَنِ الرِّضَا (عليه السلام) قَالَ: قُلْتُ لَه: أتَبْقَى الأَرْضُ بِغَيْرِ إِمَامٍ؟ قَالَ: لَا. قُلْتُ: فَإِنَّا نُرَوَّى عَنْ أَبِي عَبْدِ الله (عليه السلام): أَنَّهَا لَا تَبْقَى بِغَيْرِ إِمَامٍ إِلَّا أَنْ يَسْخَطَ اللهُ (تَعَالَى) عَلَى أَهْلِ الأَرْضِ، أَوْ عَلَى الْعِبَادِ؟ فَقَالَ: لَا، لَا تَبْقَى، إِذاً لَسَاخَتْ.
وفي روايةٍ أُخرىٰ: «لو أنَّ الإمامَ رُفِعَ من الأرضِ ساعةً لساختْ بأهلِها كما يموجُ البحرُ بأهله».
ومنه يتضح:
أنّه لا فرقَ أيضًا بين أنْ يكونَ الحُجّةُ ظاهرًا مُطاعًا، أو ظاهرًا غير مطاع، فإطاعتُه هي واجبُ الناسِ باختيارهم، فإنْ قاموا بما عليهم من واجبِ الطاعةِ المُطلقةِ له فقد نجوا، وإلا، فهم يتحملون وزرَ عدمِ طاعته، ولا يؤثِّرُ ذلك على حُجّيته، ولا على إمامته، وهو أمرٌ واضح، فإنَّ أغلبَ الأنبياءِ والأوصياءِ لم يُطِعْهم الناس، فما كانَ ذلك ليؤثِّر سلبًا على إمامتِهم كما هو واضح.
ثالثًا: أنَّ هذه الضرورةَ تفرضُ على الناسِ في كُلِّ زمنٍ أنْ يبحثوا عن الحُجّةِ أو مَنْ يوصلُ إليه؛ لأنّ طريقَ النجاةِ مُنحصرٌ بهذا، ولولاه لبقيَ الناسُ كغنمٍ من دون راعٍ وقد دخلَ فيها ذئبٌ ضارٍ!
وفي زمنِ غيبةِ الإمامِ، أكّدتِ الرواياتُ الشريفةُ دورَ الفقهاءِ في تثبيتِ الناسِ على الدين، فقد روي عنِ الإمامِ الهادي (عليه السلام) أنَّه قال: «لولا من يبقىٰ بعدَ غيبةِ قائمِكم (عليه السلام) من العلماء الدّاعين إليه، والدّالّين عليه، والذابّين عن دينِه بحُجِجِ الله، والمُنقذين لضعفاءِ عبادِ اللهِ من شباكِ إبليس ومَرَدَتِه، ومن فِخاخِ النواصب، لما بقيَ أحدٌ إلَّا ارتدَّ عن دينِ الله، ولكنَّهم الذين يُمسِكون أزمَّةَ قلوبِ ضُعفاءِ الشيعةِ كما يُمسِكُ صاحبَ السفينةِ سُكّانَها، أُولئك هم الأفضلون عندَ اللهِ ».
والخلاصة:
1/أنَّ الروايةَ تقولُ: إنَّ للهِ (تعالى) وليّين: وليًا ظاهرًا قائمًا بأمرِ الولاية، ووليًا مختفيًا قائمًا بها أيضًا.
2/هذا له نظيرٌ واضحٌ في القرآنِ الكريم، ففي قصةِ الخضرِ مُصاحبِ النبي موسى (عليه السلام) يظهرُ أنّ هذا المصاحبَ قد أخفاهُ اللهُ (سبحانه) بينَ عباده، ولكنّه يتصرّفُ بمصالحهم ويرعى شؤونَهم عن أمرِ اللهِ (تعالى)، حتى أنّ موسى (عليه السلام) ضاقَ صدرُه، ولم يستطِعْ معه صبرًا لما أتاه من خرقِ السفينةِ، وقتلِ الغلامِ، وإقامةِ الجدار.
3/هذه الروايةُ شاملةٌ لكُلِّ الحجج، وإنْ كانَ المصداقُ الأبرزُ للغائبِ المغمورِ في زمنِنا هو الإمامَ الحجةَ بن الحسن (عليه السلام).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat