الطعام... الحلقة الثانية
د . منهال جاسم السريح
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . منهال جاسم السريح

تؤكد التوصيات الإسلامية بأن الشبعَ مبعدٌ عن الله، مبغض الى الله تعالى، من نحو (أبغضُ ما يكون العبدُ الى الله إذا امتلأ بطنه).
فالمبغوضية والابتعاد ونحوهما تظل ذات دلالات نفسية وعبادية مرتبطة بشذوذ الشخصية، وابتعادها تماما عن خط الاستواء النفسي، مادام الإشباعُ مطلقاً – في الطعام أو سواه - يتنافى أساساً مع طبيعة التربية البشرية التي أرادها اللهُ تعالى مكابدة لنمط الشدة والتوتر اللذين يساهمان في تزكية النفس تبعاً لمتطلبات (الامتحان أو الاختبار العبادي).
وقد رسمت التوصيات الإسلامية جملة من المبادئ المرتبطة بتنظيم (الحاجة الى الطعام)، بحيث تساهم في تدريب الشخصية على (تأجيل) إشباعها، وفي تدريبها - من ثم – على (تعلم) السلوك السويّ، منها: ما سبق أن لحظناه من المطالبة برفع اليد عن الطعام مع ميل النفس إليه، ومنها: الاقتصار على وجبتين يومياً، بل وتوزيع الوجبات الثلاث على يومين، ومنها عدم التناول بين الوجبتين: (تغدَّ وتعشَّ ولاتأكلْ بينهما شيئاً).
إن أمثلة هذه المبادئ (تدريب) جاد على أن تمارس الشخصية عمليات (تأجيل) لشهواتها كما هو واضح، فإذا أضفنا الى ذلك المطالبة بالصوم الالزامي (في شهر رمضان)، وبأشكال متنوعة من الصوب المندوب في أيام أو مجموعات أو شهور.. حينئذ أمكننا أن ندركَ أهمية مثل هذا التدريب على تحمل شدائد الجوع والعطش، وانعكاسات ذلك على البناء النفسي للشخصية.
ويمكننا ملاحظة هذا التأكيد على البعد النفسي للظاهرة، وارتباط ذلك بعمليات (التأجيل) للشهوات، حينما نجد توصيات تبدو وكأنها تضاد عملية (التأجيل) للشهوات، مثل المطالبة بأن يفطر الصائمُ مثلاً - إذا كان صومه مندوباً - في حالة دعوته الى الطعام، فان المؤمن اذا كان قد صام صوماً مستحباً، ودخل على أخيه المؤمن فدعاه الى الأكل، يستحب له أن يفطر، ويكون له بذلك الثواب الأفضل من الصوم؛ وفي بعض الروايات انه يحسن به أن يكتم الصومَ فلا يخبر به أخاه فيمنّ عليه بإفطاره.
وورد في مجموعة من الروايات، أن الزوجة لايصح لها أن تصومَ تطوعاً إلا بإذن زوجها، وكذلك نصّت بعضها على أن الولدَ والضيف لايحسن بهم أن يصنعوا ذلك إلا باذن الوالد والمضيِّف، فالمطالبة إنما تتجه لعمليات (التأجيل) النفسي وليس التأجيل للطعام.
إن ماذكرناه يعني أن عمليات التدريب تنصب على ماهو (نفسي)، وعلى ماهو مخالف لهوى النفس؛ فالصائم (وهو مغتبط بممارسة طاعة) يصعب عليه أن يفطرَ لمجرد دعوته الى الطعام، مثلما يصعب عليه إلا يتناول طعاماً وهو معتزم لممارسة الصوم.. فهنا عمليتان متفاوتتان لحقيقة واحدة: عملية امتناع عن الطعام (وهو الصوم)، وعملية تناول للطعام (وهو الافطار بناء على رغبة الآخرين)، لكنهما ينتسبان الى حقيقة واحدة هي (تأجيل) أو مخالفة الهوى أو النفس.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat