الرؤيا لفظة كثيرة التداول في الكتابات النقدية المعاصرة، وهي متعددة المضامين، فعلى الرغم من السعة التي توحي بها والدقة والعمق، إلا أنها لا تكاد تكشف عن نفسها بسهولة في أغلب الدراسات التي تتبناها. وإذا كان معناها اللغوي يجمع بين ما تراه العين وما يشعر به القلب، فان حضورها الاصطلاحي الذي يتجلى في الدراسات النقدية، يكاد يذهب إلى ما هو أبعد من حاسة البصر وشعور القلب، بل ان الرؤيا في استعمالها النقدي تقتضي فاعلية فلسفية، إذ أنها تمثل (عالم الحدوس الباطنية، والاستبصار، والرؤية الداخلية للإنسان، والوجود، تلك الرؤية العميقة الثاقبة التي تطرح التساؤلات الإنسانية والوجودية الكبرى، والتي تنطلق من العقول الكبيرة المؤسسة لرؤيا العالم عبر الزمن، والتي يتطلب تشكيلها صوراً متعددة من الأساليب التعبيرية)؛ وبمقتضى تلك المنعطفات الشاملة الإنسانية، فان الرؤيا تمثل تأسيساً رصيناً لشيء ما، تنامياً ثقافياً مختلط العناصر، يساعد على تبني موقف، ثم انها من منظور آخر (جمالي معرفي) حدس يدرك الجمال به.
ولكي نربط ما بين فعل النقد ورؤيا الناقد، فان من الضرورة القول أن الشخصية الناقدة تختلف عن سواها، في قدرتها على استيعاب ما يحيط بها في هذا العالم، وامتلاكها (إمكانية إعادة التنظيم)، فهي إذن على درجة مميزة من (الوعي المبدع) الذي يهيئ لها (خلق العالم)، بما يتاح لها من إمكانات اجتماعية واقتصادية وسياسية وأيديولوجية.. وهذا الأمر يدعو إلى القول: بأن ثمة روافد متعددة صانعة للوعي بشكل عام، منها ماضوي صرف يجلبه تراث الأمة وتراكمات الزمن، ومنها حاضر آني يتشكل بفعل التيارات والأحداث والتوجهات، ومنها ما هو شخصي بفعل الحدس الذي يبدأ موضوعياً ليتحول إلى فطرة ذاتية.
من هنا قيل عن مصطلح الرؤيا إنه (نظرة شاملة وموقف من الحياة، تفسير الماضي وتشمل المستقبل). وهو أيضاً مصطلح (يشير إلى المنظور الفكري والفلسفي بالنظر إلى جانب دلالته العلمية).
وبتلك الشمولية الفذة التي تتشكل بها الرؤيا، فانها توصف بالإبداع من جهة، وبأنها كشف من جهة أخرى. وهي في هذا وذاك مرتبطة بتساؤلات الإنسان وتأملاته، فهي مثل القراءة التي حالما تسد الثغرات المعرفية عند الإنسان تحيل إلى قراءة وجوه جديدة، فيها تفتح المعرفة مغاليق الغيب، لكي يبدأ الرائي بمغادرة العالم الملموس الذي اعتاد عليه، وينتقل إلى عالم متجدد يعمل فيه العقل عملاً توفيقياً بين أشياء تبدو له متناقضة لا رابط بينها أو انها تبدو غير متآلفة، وهو يلج غمار تغييرها إلى التواشج والتآصر، وهنا يكمن الإبداع.
تبدو رؤيا الناقد صعبة ومختلطة، فهو يمثل حالة وسط بين الفلسفة والفن، فلا هو هذا ولا هو ذاك.. وقد أدت به مهمة إصدار الأحكام إلى أن يكون موضوعياً متأملاً غير منحاز وغير محدد، وهذه صفات الفيلسوف مثلما دعاه موقفه تجاه الأعمال الفنية الذاتية الصرف إلى أن يمتلك حدس الفنان في تعامله مع النتاج الفني.
والحدس وفق ما هو معروف يدّعي لنفسه اليقين، من دون أن يقدم أسبابه التي أوصلته إلى هذه الدرجة من الإيمان بصحة أحكامه، فهو يقف حائلاً في وجه أية مناقشة، إذ انه يعتمد الذوق السليم في إدراك الجمال وتوجيه الحكم فضلاً عن انه يمقت الأدلة، والشخص الذي يعتمده يؤمن بصحة موقفه على نحو لا يتطرق إليه الشك؛ ومن هنا صار الخلاف عند أصحاب الحدوس أمراً سهلاً.
وفوق هذا وذاك، فان الناقد – ومن منطلق العلمية المنهجية - ينزح في كثير من الأحيان نحو الوضوح، التماسك الداخلي، والقابلية على الفحص، والتكافؤ، والدقة، والموضوعية.. وبعبارة أسعد حظاً مما فات يمكن القول: ان الرؤيا عند الناقد تعمل في منطقة الشعرية، ولكن بطريقة آلية محددة، فهي تبحث عن (الماذا) أو عن المفاهيم، ويقف نقيضاً لها (البناء) الذي يمثل الكيف.
إذن هي تعمل نقيضاً لما هو معرفي، أو إنها تمثل الاشتباك الفني التاريخي على حد سواء، وهذا يمكّننا من أن نفهمها عند الناقد (بالمعنى الذي يعوض الازدواجية التقليدية للظاهر والباطن، وبالاستقطاب بين اللانهائي والنهائي، والذي يصنع هذا الأخير في مقام الأول.. ونفهمها كذلك في التبدلات التي يأخذها الشيء – قد يكون هو العمل الفني - تدريجياً بحسب درجة ومستوى الأبصار، وما يلحق كل ذلك من تحولات).
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat