أصولُ المنهجية العربية في المدونة المعرفية القديمة
هيام عبد زيد عطيه
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
هيام عبد زيد عطيه

المتعة والفائدة شرطا نجاح العمل الأدبي، بيد أن نجاح العمل النقدي ليس كذلك، إذ يُشترط لتحقيق نجاحه توافر المنهج والرؤيا، فلا يمكن أن تصل الثانية إذا كان أداء الناقد عقيماً من حيث منهجه، أو إذا كانت الحقائق النقدية والأفكار مطروحة اعتباطاً من دون أن ينتظمها ضابط. وهذان الشرطان عسيران بعض الشيء، إذ لا يمكن أن يجتمعا في مكان واحد بصفة عشوائية إذا لم يحط بهما مقصد علمي وروح منطقي وعقل متقن، وقد ظهرت هذه السمات جميعها في ميادين العلم والمعرفة التي خاض فيها العلماء والمفكرون والنقاد العرب، وبدت جلية في مؤلفاتهم التي تتصف بدقة النظر والمتابعة العلمية...
من أجل هذا يبدو السؤال عن مدى إدراك العلماء العرب القدامى الوسائل التي يعملون بها مشروعاً ومبرراً، فهل إنهم أغفلوا الطريقة المثلى في التأليف فجاءت أفكارهم مرتبة، ليس على أساس القصد، إنما على أساس المعرفة الفطرية والذائقة التلقائية؟ أم إنهم وضعوا ما وضعوه وهم يدركون أو متفقون على طرائق العمل والتأليف؟.
وقد اختلف مؤرخو النقد في الإجابة على هذا السؤال، ولكل منهم حججه ودلائله التي فيها بعض الصواب وبعض الخطأ، بيد أن جميعهم يكاد يتفقون على أن النقد العربي في أطواره الأولى كان فطريا ينهض بالحكم دون التحليل، يتجنب ذكر الأسباب والعلل، ومن ثَمَّ تطور إلى الحكم المعلل والشروحات والتحليل. وهم يتفقون أيضاً على أن المؤلفات النقدية تعيد بعضها بعضاً، ويتبع فيها اللاحق السابق بخبر أو معنى أو أسلوب.
والظاهر في مثل هذا الأمر يوحي بسهولة الجزم في الاجابة وحلّ النزاع بين الفريقين، إذا ما عرفنا مفهوم المنهج، ثم عرضنا عليه ألواناً من مؤلفات المكتبة العربية، بيد أنّ الأمر ليس بهذا اليسر أبداً، فمعنى المنهجية غير مستقر هو الآخر، فإذا قصد بها ((فن التنظيم الصحيح من أجل الكشف عن الحقيقة، ومن أجل البرهنة عليها للآخرين، فإن هذا المعنى لم يفت علماء العربية ودارسيها،… أما ان كان المقصود العمليات العقلية التي تتضمن وصف الظاهرة بما يشمله هذا الوصف من المقارنة والتحليل والتفسير، يجد له شواهد في كتب الموازنات العربية، ويجد له شواهد أيضاً في كتب الطبقات، حين يسعى للتعرف على مراحل الظاهرة التاريخية)).
اما إذا كان المقصود بالمنهج الكيفية التي يتم التفكير بها (عرض الأفكار على العقل) وليست الطريقة التي يتم بها ترتيب الفكرة، فإن كثيراً من الباحثين يرفض التسليم بها، أو التيقن من أن العلماء العرب كانوا على دراية بها. ومن جانب آخر هناك من يقول أن العرب كانوا يمتلكون منهجية خاصة بهم، هي منهجية القول في تفضيل الشعراء، وذكر خصوماتهم وتبسيط عناصر تلك الخصومات بالحديث عن مواضع الجمال والقبح فيها، وهي منهجية تدعمها أسس نظرية أو تطبيقية عامة على حد قولهم. وهو بهذا يؤكدون ما قاله غيرهم من أن الأقدمين ((خلفوا تراثاً هائلاً لم يكن في وسعنا أن نلمح فيه ألواناً مختلفة في البحث ومناهج متباينة في التاريخ، وكل الذي يمكن أن نقع عليه في كتب التراث ما جمعه فيها أصحابها من معلومات عن طريق الرواية، أو تلك المختارات الأدبية التي كانوا يحلونها بين الفترة والفترة بالرأي الذي يطرح لهم، وبالفكر الذي يعرض عندهم، والخاطر الذي يغلب عليهم)).
السبب وراء ذلك يعزوه بعضهم إلى خصوصية النقد العربي وانطلاقه من حاجته الداخلية وبرمه بالقيود الصارمة والتقسيمات والتفريعات المنطقية؛ الأمر الذي أدى إلى التنوع وعدم وجود ضابط موحد يمكن أن نضع فيه النقاد أو أن نحتكم إليه في عملهم.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat