موقف مع النفس ح2
الشيخ عبد الرزاق فرج الله
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
نتناول في هذا العدد بقية الأسباب التي تؤدي إلى حرف النفس عن خط طاعة الله تعالى وهي:
ب- ابتغاء زينة الحياة الدنيا، التي تشكل مصدر إلهاء وجفاء عن الله عز وجل، فأوضحت الآية الكريمة خطر الدنيا على الدين، وذلك عندما تكون زينتها غاية تنسي الإنسان قيمَه وأخلاقَه مع الناس، وتحرفه عن أهل طاعة الله عز وجل فقالت الآية: (وَلا تَعدُ عَيناكَ عَنهُمْ تُرِيدُ زِينَة الحَياةِ الدُّنْيا) وقال تعالى: (مَنْ كانَ يُرِيدُ الحَياةَ الدُّنيا وَزِينَتَها نُوَفِّ إِلَيهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَهُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ * أُولئِكَ الَّذِينَ لَيسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَحَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَباطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ) هود/15-16.
ج- إطاعة الغافلين وإتباع الهوى، وذلك لأن الغافل جاف لله عز وجل، ومؤثر لهواه على طاعة ربه، وقد أغفل الله قلبه عن ذكره بإعراضه، إذ أن طبيعة العلاقة بالله عز وجل علاقة تبادلية، فالذكر بالذكر، والزيادة بالشكر، كما قال تعالى: (فَاذكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلا تَكْفُرُونِ) البقرة/ 152 فمن أعرض عن ذكر ربه تعالى، فقد أغفل الله قلبه وأضله، فيكون في إتباعه ومجالسته والاستجابة له سببا للغفلة والضلال، والبعد عن خط الطاعة.
(روي بسند صحيح عن أبي عبد الله عليه السلام أنه قال: (لا تصاحبوا أهل البدع، ولا تجالسوهم، فتصيروا عند الناس كواحد منهم، فقد قال رسول الله ص: المرء على دين خليله وقرينه) عين الحياة 2/162 ورواه الإمام الغزالي الفقرة الأخيرة من الحديث في (آداب الصحبة والمعاشرة 304).
(عن ابن عباس قال: قيل يا رسول الله أي الجلساء خير؟ قال: (من تذكركم الله رؤيته، ويزيد في علمكم منطقه، ويرغبكم في الآخرة عمله) من هدي النبي والعترة ق/2/71-72 عن الوسائل 8/412.
ومن وصايا النبي ص لعبد الله بن مسعود: (يا ابن مسعود فليكن جلساؤك الأبرار، وإخوانك الأتقياء والزهاد، لأن الله تعالى قال في كتابه: (الأخلاء يومئذ بعضهم لبعض عدو إلا المتقين) الزخرف/67) البحار 74/100.
وقال النبي ص إذا أراد اللهُ بعبد خيرا جعل له وزيرا صالحا، إن نسي ذكره وان ذكر أعانه..) نفس المصدر/164.
وقال الإمام الصادق عليه السلام: إياكم وعشرة أبناء الدنيا، ففي ذلك ذهاب دينكم ويعقبكم نفاقا، وذلك داء رديء لا شفاء منه، وهو يورث قساوة القلب، ويسلبكم الخشوع.
الثاني: خط المقاومة السلبية، وهو ممارسة صعبة، تدعو إلى سحق رغبات النفس، وصدها عن هواها، والوقوف بها عن كل ما تتوق إليه بميولها ورغباتها، وهو مقاومة داخل دائرة النفس، لأن مثل الهوى مثل الظلمة التي تحجب البصر عن الرؤية، وتعرض الإنسان إلى خطر الانزلاق والسقوط أو الارتطام بشيء جارح، فكذلك الهوى فانه يحجب ضوء العقل، ويطمس أشعته فلا ينير طريقه إلا خوف مقام الله عز وجل، كما قال تعالى: (وَأَمَّا مَن خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفسَ عَنِ الهَوى * فَإِنَّ الجَنَّةَ هِيَ المَأْوى) النازعات 40-41، فيكمن خطر الهوى إذن في عدة:
أ- انه يعطل العقل عن العمل والتحرك، ويحجب عنه نور العلم في ميدان التفكير، لاختيار المنهج الصحيح، لذا قال تعالى: (بَلِ اتَّبَعَ الذِينَ ظَلَمُوا أَهواءَهُمْ بِغَيرِ عِلمٍ فَمَن يَهدِي مَنْ أَضَلَّ اللهُ وَما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ) الروم: 29.
ب- انه يغلق على الإنسان باب الاستجابة لنداء السماء الذي حملته الإنسانية رسالات الأنبياء، ولذا قال عز وجل لرسوله الكريم محمد ص: (فَإِنْ لمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعلمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهواءَهُمْ وَمَن أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللهِ إِنَّ اللهَ لا يَهْدِي القَومَ الظَّالِمِينَ) القصص: 50.
ت- انه يغلق باب العدل والإنصاف حتى مع النفس، ويفقد الإنسان معه واقعيته وصدقه في علاقاته ومعاملاته مع الميدان الاجتماعي، لذا جاء القرآن الكريم يؤكد هذه الحقيقة بعرض المقابلة بين القيام بالقسط والعدل، وبين إتباع الهوى، فقال تعالى: (يا أَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالقِسْطِ شُهَداءَ للهِ وَلَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَالأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَن تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَو تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً) النساء: 135.
فإذا ما تحصّنت النفس ضمن هذين الخطين للمقاومة، وسلمت من مزالق الخطر وأسباب السقوط، فقد أمنت عواقب الامتحان، وتسلقت مدارج الكمال إلى مقعد صدق عند مليك مقتدر حين يناديها: (يا أيتها النفس المطمئنة، ارجعي إلى ربك راضية مرضية، فادخلي في عبادي، وادخلي جنتي) الفجر/ 27-30.
وأما ما عدا هذين الخطين من تصرف تجاه النفس، وحملها على ما يسخط الله عز وجل، يعتبر خذلانا للنفس، وإيقاعا لها في هوة الضياع، وقد تناول القرآن الكريم ملامح هذا الموقف من خلال عدد من آياته تحت عناوين عدة:
أ- (سفه النفس) فقال تعالى: (وَمَن يَرغبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَن سَفِهَ نَفسَهُ)، كالسفه بالمال، الموجب للتحجير ومنع التصرف، لأن السفيه لا يبالي كيف يتصرف بماله، فيضيعه غير مكترث بضياعه.
ب- (نسيان النفس) فقال تعالى: (وَلا تَكُونُوا كَالذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الفاسِقُونَ) الحشر/19، ونسيان النفس تضييعها وسحقها وقتلها، والجناية عليها، إما بإزهاقها دون مبالاة، وإما بقتل المعاني الخيرة والقيم السامية فيها.
فمن أمثلة إزهاق النفس، جاء في بعض الأخبار العالمية في الولايات المتحدة الأمريكية، أن شابا مسلحا اقتحم مقهى كان يجلس فيه أناس آمنون، فانهال عليهم بسلاحه، فقتل منهم عددا ثم أطلق النار على نفسه وانتحر!! وعلى صعيد التحليل لهذا التصرف، يأتي المحلل النفسي أو الاجتماعي ليعلل هذا العمل الإجرامي بالعقدة النفسية او حالة انفصام الشخصية او الجنون، بينما الحقيقة أعمق من هذا، إذ أن الكثير من هؤلاء يعيشون تحت سيطرة المفاهيم الحضارية المادية، ويستجيبون لمطلب واحد من مطالب الشخصية، وهو (الجسد)، أما المطلب الروحي والأخلاقي فهو مسحوق مضيع، وهذه هي محنة الإنسان الحضاري في الوقت الحاضر، الذي يترفه ماديا من خلال النمط التربوي الذي رباه عليه المجتمع والأسرة، فإذا ما تعرّضت مصالحه المادية إلى أدنى خلل أصبح عدوا لنفسه وللإنسانية معا.
وما نشوب الحروب في بقاع الأرض اليوم ضد الإنسانية، إلا إفراز للحضارة المادية؛ فأمريكا المجرمة في حق الإنسانية، بعد أن غرقت في خضم الحضارة المادية، وتعرّضت مصالحها للتفجير، وفي قلب واشنطن في الحادي عشر من أيلول 2001، تحولت لديها هذه الخسارة إلى عقدة للانتقام من شعوب العالم برمتها بذريعة محاربة الإرهاب، وبلا دليل يثبت إدانة أي من شعوب العالم الإسلامي بذلك، وهي لاشك تعرض نفسها وشعبها الى الفناء المحتم لأن من يقتل يُقتل، ومن أوقد نارا للحرب أحرق بها.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
الشيخ عبد الرزاق فرج الله

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat