صفحة الكاتب : الشيخ مازن المطوري

قيمة المعرفة الإنسانية بين الشهيدين مطهّري والصّدر (الحلقة الثانية)
الشيخ مازن المطوري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 

المرحلة الأولى:
تناول كتاب (فلسفتنا) البحث في قيمة المعرفة من خلال ثلاث فقرات:
تضمّنت الفقرة الأولى عرض آراء أهم المذاهب الفكرية في هذه المسألة, بينا انصبت الفقرة الثانية موضّحة وجهة نظر الفلسفة الإسلامية في قيمة المعرفة. أما الفقرة الثالثة, فقد تمثّلت في عرض ونقد موقف النسبية التطورية (الماركسية الديالكتيكية), الذي هو من أهم الأغراض التي اُلّف كتاب (فلسفتنا) لأجله.
أما (أصول الفلسفة), فقد جاءت في نفس هذا المنحى, لكنها امتازت عن (فلسفتنا), بعرض الشهيد المطهري لمقدّمة أسهب الكلامَ فيها عن معنى الحقيقة المحمولة على الإدراك البشري, ومجموعة من الأبحاث المرتبطة بها, فكانت كالتالي: ما هي الحقيقة؟, هل للحقيقة وجود بشكل عام؟, ما هو مقياس تمييز الحقيقة من الخطأ؟, هل يمكن أن يكون الشيء الواحد حقيقة وخطأ؟, هل الحقيقة مؤقتة أم دائمية؟, هل تقبل الحقيقة التحول والتكامل؟, لماذا لا تكون العلوم التجريبية يقينية؟, لماذا أضحت الفلسفة والرياضيات يقينية؟, هل الحقيقة مطلقة أم نسبية؟(1).
هذه الأبحاث لم تعرض لها (فلسفتنا), لكنّها في ختام نقودها لمختلف المدارس, جاءت النتائج فيها متوافقة مع أبحاث (أصول الفلسفة) في تحديد معطى المراد من الحقيقة, وما يرتبط بها من أبحاث.
في هذه المقاربة يمكننا تناول بحث قيمة المعرفة في هذين الكتابين من خلال ثلاث زوايا:
الزاوية الأولى: عرض وجهات النظر المختلفة.
الزاوية الثانية: تقويم النظريات ونقدها.
الزاوية الثالثة: عرض الموقف الفلسفي الإسلامي.
****
الزاوية الأولى: عرض وجهات النظر المخـتلفة
اختلف الفيلسوفان في كيفية تقرير البحث تبعاً لاختلاف الغرض المتوخّى منه, فقد ابتدأ السيد الصدر بتقرير مدّعى المدرسة الماركسية القائل بإمكان المعرفة, وأن الفكر البشري يكشف عن الحقائق الموضوعية الخارجة عن ذهن الإنسان المفكّر, اعتماداً على كلمات رواد هذا الفكر من كتبه. قرّر هذا المعنى لكي يرى هل أن الطريقة الديالكتيكية توصل إلى المعرفة اليقينية الجازمة, وتكون بمأمن من الشك والسفسطة والنسبية والمثالية, وفي سبيل الوصول إلى هذا الأمر, قام بعرض المذاهب المختلفة في قيمة المعرفة.
أما الشهيد مطهّري فبعد أن قرر ماذا يعني البحث في قيمة المعرفة, وَلج تمهيداً للبحث في بيان المراد من الحقيقة في المصطلح الفلسفي, الذي نصّ على أنّه مطابقة ما هو في الذهن لما هو في الواقع, ثم تسلسل في عرض هذا الموضوع والأبحاث المرتبطة به, حتّى إذ وصل إلى موضوع هل أن الحقيقة مطلقة أم نسبية, قام بعرض المذاهب المختلفة, لأنها تمثل تطوراً لهذا الموضوع(2).
ومن هذا يتضح: أن السيّد الصّدر إنما عرض هذه المذاهب المختلفة مقدّمة للوصول إلى الغاية المرجوة, وهي منافحة ونقد المدرسة الماركسية ومعرفة مصيرها بمقارنة مع مدارس الشك والسفسطة والمثالية. أمّا الشهيد مطهّري فقد كان غرضه تسجيل أن المراد من حقانية الإدراك البشري هو مطابقته للواقع, ولمعرفة وجهة نظر الآخرين قام بعرض آرائهم لهذا الغرض.
أياً كان الأمر, فقد توافر الكتابان على عرض مدارس الفكر المختلفة بشأن قيمة المعرفة, ابتداءً من العصر اليوناني حتّى المدارس الغربية المعاصرة, وإن اختلفا من حيث التفصيل والإيجاز. وقد يلاحظ في بعض المذاهب التي عرضها الشهيد الصدر, أنها ليست فلسفية بامتياز, بل بعيدة كلّ البعد عن الفلسفة كمذهب التحليل النفسي لفرويد والمدرسة السلوكية(3), ولكنّها مع ذلك أسهمت بحظّ وافر في إنضاج البحث في نظرية المعرفة بشكل عام وفي مبحث قيمة المعرفة بشكل خاص, بسبب ما اتّصفت به أبحاثها من ملاصقة عملية الإدراك. "ذلك أن تحليل طبيعة الذهن وكنه الإدراك البشري, ينوّع الموقف من المعرفة, فأياً كان الاتجاه في قيمة المعرفة ومصدرها وحدودها, يبقى بحث الإدراك مقدمة برهانية يستخدمها الباحثون - كما هو ملاحظ للمتابع- في الإثبات والتدليل على ما يختارونه من رأي"(4).
امتازت (فلسفتنا) على (أصول الفلسفة) باستيعابها لكثير من مدارس الفكر الغربية, في الوقت الذي أعرضت عنه (أصول الفلسفة) ولم تشر إليه. ولكن بالرغم من وجود هذا الاختلاف والافتراق بين الكتابين, نجد هناك تطابقاً بيناً بين الشهيدين في مواضيع متعددة, منها تفسير التطوّر الفلسفي في الغرب, وتشبيه عصر النهضة الأوربية بمرحلة اليونان في القرن الخامس قبل الميلاد(5).. بل نجد (فلسفتنا) تحذو حذوَ (أصول الفلسفة) في أغلب عرضها للفكر الماركسي.. وتركيزها على الفكر المادي الديالكتيكي(6).
أما المصادر التي اعتمد عليها الكتابان في عرض وتقرير هذه الاتجاهات, فبالنسبة إلى (أصول الفلسفة) فقد اعتمد بشكل أساس على كتاب (مسيرة الفلسفة في أوربا) تأليف محمد علي فروغي, في عرض وتقرير أغلب المذاهب الفلسفية الغربية, لاسيما ديكارت وكانْت, وكذلك اعتمد على كتابات الدكتور (أراني) في عرض اتجاهات الماديين الديالكتيكيين, كـ(المادية التاريخية), (العرفان والأسس المادية), (علم النفس الفسلجي)(7), ولم يشر إلى أنه اعتمد على المصادر الأصلية لهذه المذاهب والاتجاهات التي تعرض لها.
أما (فلسفتنا) فهي أغنى في هذه الناحية, فقد امتازت بالاعتماد على الترجمات العربية التي حظيت بها كتابات رجالات الغرب والاتجاهات الماركسية, مرتكزةً في ذلك على نقل كلمات أهم ممثلي هذه التيارات.
هذا إجمال للطريقة التي عرض فيها الكتابان المذاهب والمدارس المختلفة في قيمة المعرفة, ونحن في هذه الدراسة لا نريد متابعة الكتابين في عرض جميع المدارس التي عرضت فيهما, وإنما سنكتفي بإيراد موقف (ديكارت) و(كانْت), وطريقة عرض الكتابين لهما, وذلك لأهمية الرَجُلين, وأهمية ما أسهما به في باب المعرفة.
أولاً: رينيه ديكارت:
رينيه ديكارت (René Descartes) (1596- 1650 م), فيلسوف فرنسي كبير, ويعدُّ رائد الفلسفة في العصر الحديث, وفي الوقت نفسه كان رياضياً ممتازاً, ومبتكراً للهندسة التحليلية.
جاء ديكارت بعد عدّة تيارات فكرية عنيفة قامت في أوروبا, وجاءت فلسفته فحوّلت تلك التيارات تحويلاً جوهرياً. نعم جاءت فلسفة ديكارت بعد عدّة مغامرات متنوّعة.. في الميدان المعرفي الفلسفي اتّخذت المغامرات اتجاهين متعارضين؛ الأوّل منهما هو الاتجاه الذي مثّله مونتاني (Montaigne) (1533- 1592 م) وهو اتجاه الشك, والآخر هو الاتجاه الذي حاول تجديد التراث اليوناني القديم بوجه عام, وتراث الأفلاطونية المحدثة بوجه خاص, لكنهم تجاهلوا العلم الحديث فوقفوا عند نتائج الفلسفة اليونانية, وقد مثّل هذا الاتجاه كلّ من چيوردانو برونو (Giordano Bruno) الذي اُحرق في ايطاليا, وتوماس كامپانيلا (Campanella) الذي سجن في ايطاليا وتوفّي منفياً في فرنسا.
تضمّنت فلسفة ديكارت أهدافاً حاول تحقيقها, تتمثل في أمور ثلاثة:
1) إيجاد علم يقيني فيه من اليقين بقدر ما في العلوم الرياضية, بدلاً من العلم الواصل إلينا من العصر الاسكولائي.
2) تطبيق هذا العلم اليقيني تطبيقاً عملياً, يمكن الناس من أن يصيروا بمثابة سادة ومالكين للطبيعة.
3) تحديد العلاقة بين هذا العلم وبين الموجود الأعلى (الله), وذلك بإيجاد ميتافيزيقيا تتكفّل بحل المشاكل القائمة بين الدين والعلم(8).
أوّل فارق يلحظ بخصوص ديكارت في الكتابين, هو اقتصار (أصول الفلسفة) على نقل كلمات ديكارت بواسطة المرحوم فروغي, مع بعض الشيء من التعليق للبيان لا أكثر, كما لم تتعرّض إلى بيان منهج ديكارت الذي اتخذ من الشك جسراً لليقين(9).
أما (فلسفتنا) فقد ابتدأت بعرض منهج ديكارت, ثم قامت بعرض مسهب للموقف الديكارتي, بعد ذلك أخذت بنقده وبتسجيل الملاحظات عليه(10).
أما ملخّص الموقف الديكارتي:
بدأ ديكارت فلسفته بالشك, الشك الجارف العاصف, لان الأفكار متضاربة, فهي إذن في معرض الخطأ, والإحساسات خداعة في كثير من الأحايين فهي أيضاً ساقطة من الحساب, وبهذا وذاك تثور عاصفة الشك فتقتلع العالم المادي والمعنوي معاً مادام الطريق إليها هو الفكر والإحساس(11).
بدأ ديكارت شكّه بقيمة المعرفة مذ كان على مقاعد الدراسة في مدرسة لافليش, شك أولاً في قيمة المعرفة الآتية عن طريق الحواس, ومن ثمَّ رفض أن تكون الحواس مصدراً للمعرفة, لأنه لاحظ أن الحواس تخدع في بعض الأحيان وهي لا تنقل لنا بأمانة كل ما هو عليه الشيء بالتمام, ومن الحكمة ألا نثق البتة بالذي يخدعنا حتى ولو مرة واحدة, فنحن ننظر إلى الشمس فنراها في غاية الصغر كحجم الدينار في حين أنها أكبر من الأرض بأضعاف. يقول ديكارت: «لا يمكننا الاطمئنان بأن للمفاهيم التي ترد الذهن بواسطة الحواس الخمسة, مصداقاً حقيقياً في الخارج, وإذا كان لها مصداق فليس هناك يقين بتطابق الصورة الذهنية مع الخارج»(12).
أما المعرفة الآتية من الحواس الباطنة, فكذلك شك في قيمتها المعرفية, لأنه لاحظ بأن هذه المعرفة لا تقنع العقل لدى كل الناس, فقد يصدقها شخص تصديقاً تاماً ويرفضها شخص آخر رفضاً تاماً(13).
أكثر من ذلك, فقد شكّ ديكارت في قدرة العقل على الوصول إلى الحقيقة, فقد لاحظ أن استدلال العقل يختلف من شخص لآخر, ومن هنا يقع بعض الناس في الخطأ في استدلالاتهم الرياضية فيما لا يقع البعض الآخر(14).
نعم يمتاز الشك الذي قصده ديكارت, بأنه ليس نهاية حركة العقل الفلسفي, بل ليس بدايتها ولا الشروع فيها, إنه البحث عن نقطة البداية, عن النقطة التي يصح للفيلسوف أن يبدأ عندها, فالشك هو المرحلة الأولى, هو التأمل الأول للفلسفة, وهو طريق الاكتشاف الفلسفي, وهذا الشك معبر رائع للوصول إلى اليقين والحقيقة, بقدر ما هو منزل سيء.
ولكن (ديكارت) يستثني حقيقة واحدة تصمد في وجه العاصفة ولا تقوى على زعزعتها تيارات الشك, وهي (فكرُهُ), فإنه حقيقة واقعة لا شك فيها, ولا يزيدها الشك إلا ثباتاً ووضوحاً, لأن الشك ليس إلا لوناً من ألوان الفكر, وحتى تلك القوة الخداعة لو كان لها وجود فهي لا تستطيع أن تخدعنا في إيماننا بهذا الفكر, لأنها إنما تخدعنا عن طريق الإيحاء بالتفكير الخاطئ إلينا, ومعنى ذلك: أن التفكير حقيقة ثابتة على كل حال, سواء, أكانت مسألة الفكر الإنساني مسألة خداع وتضليل أم مسألة فهم وتحقيق. وتكوّن هذه الحقيقة في فلسفة ديكارت, حجر الزاوية ونقطة الانطلاق لليقين الفلسفي, الذي حاول أن يخرج به من التصور إلى الوجود, ومن الذاتية إلى الموضوعية, بل حاول أن يثبت عن طريق تلك الحقيقة الذات والموضوع معاً, فبدأ بذاته واستدل على وجودها بتلك الحقيقة قائلاً : (أنا افكّر, فأنا إذن موجود)(15). هذا هو ملخّص الموقف الديكارتي, أما الملاحظات التي سجلت عليه, فسيأتي بيانها.
ثانياً: عمانوئيل كانت
عمانوئيل كانْت (Immanuel Kant) (1724- 1804 م), فيلسوف ألماني مشهور. انتقد قوى العقل والحس معاً, ومن ثم تعرف فلسفته بـ«الفلسفة النقدية».
رفض (كانْت) المنطق الذي ابتدأ منه ديكارت, ورأى أنه لا معنى للابتداء بالشك المطلق كأساس في أقامة كيان المعرفة البشرية. وهكذا فإن فلسفة (كانْت) وكثير من فلاسفة ألمانيا, تعتبر ردة فعل فكرية عميقة ضد الأفكار التشكيكية ونزعات أمثال هيوم اللاأدرية, وقد حاول كانت تنمية نوعاً جديداً من الفلسفة يتوخى فيها, صيانة المعرفة والفضيلة معاً من المذاهب المخربة في أخريات القرن الثامن عشر(16).
توافقت (فلسفتنا) مع (أصول الفلسفة) بعرض الموقف الكانتي من خلال تقسيم المعارف العقلية إلى ثلاث طوائف هي؛ الفلسفة الأولى, والرياضيات, والطبيعيات(17). ولكن امتازت (فلسفتنا) بإشارتها إلى تقسيم كانت للأحكام العقلية إلى تحليلية وتركيبية, وهذه إلى قبلية وبعدية, فيما لم تشر (أصول الفلسفة) إلى ذلك(18). على أن المرحوم مطهري قد استعان بنصوص فروغي لاستعراض نظرية (كانْت), أما الشهيد الصدر فلم يشر إلى المصادر التي اعتمد عليها في تقرير أفكار (كانْت).
لن نتابع الكتابين في طريقة عرض نظرية (كانْت) في قيمة المعرفة, إذ طفقا على متابعة التقسيم المعهود في تناول (كانْت) من تقسيم المعارف إلى رياضيات وطبيعيات وميتافيزيقيا, وتناول كلّ واحدة منهما على حدة. وإنما سنقوم باستعراضٍ مجملٍ للموقف الكانتي:
عدَّ (كانْت) السؤال عن طبيعة المعرفة البشرية وقمتها وحدودها, وعلاقتها بالوجود, أمراً ضرورياً لكل من يريد استعمال العقل في اكتساب أية معرفة من المعارف, فإنه قبل الوثوق بأداة المعرفة والاعتماد عليها, لابد لنا من امتحانها, ومن هنا كانت الفلسفة النقدية عند كانت, تعبر في جوهرها عن طبيعة المعرفة البشرية, وهذا هو ما حاول فعله في كتابه (نقد العقل المحض), ومن هنا رأى كثير من مؤرّخي الفلسفة, مرادفة المسألة النقدية عند (كانْت) لنظرية المعرفة(19).
وقد هدف (كانْت) في كتابه هذا, أن يبرهن على أنه بالرغم من أن لا شيء من معرفتنا يمكن أن يتعالى على التجربة, فإنها برغم هذا أولية في جزء منها, وليست مستدلة استدلالاً استقرائياً من التجربة.
ومعنى نقد العقل: هو الفحص عن قدرة العقل بوجه عام, فيما يتعلق بكل المعارف التي يطمح إلى تحصيلها مستقلاً عن كل تجربة, والعقل المحض هو العقل وهو يفكر غير مستعين بالتجربة, فنقد العقل هو الفحص عن نظام الأسس القبلية ومقتضيات العلم السابقة, التي بفضلها تتم المعرفة العلمية.. لقد كان نقد العقل المحض, بحثاً في الميتافيزيقيا, لأنه بحث في نظرية المعرفة, وفيه يحاول بيان فساد كلا التيارين: النزعة العقلية والنزعة التجريبية(20).
رأى (كانْت) أن الرأي الذي يقول أن المعرفة يجب أن تتطابق مع الواقع (موضوعها), أنه لو كان كذلك لكان يجب استمداد كل معرفة من تجربة الأشياء, أي لكان يجب أن تكون كل المعرفة لاحقة على التجربة, ولكن لو كان الأمر كذلك فكيف نفسر إذن المعرفة القبلية السابقة على التجربة والتي نجدها في الرياضيات كما تقدم؟ بل لماذا لا نقلب الوضع وذلك بأن نقول أن الموضوعات هي التي يجب أن تتطابق مع طبيعة عقولنا؟ فإننا لو فعلنا ذلك أي لو قلنا بأن إدراك الموضوعات يجب أن يتم وفقاً لعقولنا, لأمكننا أن نفسر المبادئ العامة لمعرفتنا العلمية بالكون, فإن هذه المبادئ ليست غير الشكول الذاتية لعقولنا, كما تحدد التجربة مقدماً, وبصفها شكولاً ذاتية فإن من الممكن أن نعرفها بصرف النظر عن مضمون التجربة(21).
ويضيف (كانْت): إن الموضوعات كما تعرفها التجربة هي فقط كما تظهر لنا, إنها ظواهر تتجلى لعقلنا, لكن لا يقصد من ذلك أنها مجرد أوهام, ولكن يقصد أنها المظاهر التي تتجلى لنا عليها الأشياء, فهناك إذن وراء الظاهرة أي الشيء كما يتجلى لنا, يوجد الشيء في ذاته الذي ليست الظاهرة غير كيفية تجلية في عقولنا, وإلا لانتهينا إلى هذه القضية المشوشة وهي أن ثمّ تجلياً دون أن يكون لشيء يتجلى, وإننا لا نعرف الأشياء في ذاتها ولكن فقط كما ظهر لنا(22).
لقد خلص (كانْت) إلى أننا لا نستطيع بالحواس أن نعرف الأشياء كما هي في ذاتها, ولكن ليس في هذا إنكار للواقع الذي هو موضوع التجربة, فالواقع الخارجي موجود, ولكننا لا نعرف عنه غير الظواهر التي تتبدى منها وتظهر لنا على وفق شكل عقلنا, ومن ثمَّ فقد ميّز (كانْت) بين الظاهرة وبين المظهر, فأراد من تحليله للمعرفة أن يحوّل كلّ معرفة إلى ظاهِرة لا إلى مظهر.
وخلاصة الموقف المعرفي الكانتي: أنه يميز في المعرفة بين عنصرين: أحدهما يأتي من الأشياء وهو مادة المعرفة, والآخر يأتي من العقل وهو سابق على التجربة ويمثل صورة المعرفة, أما النزعة التجريبية التي تنكر كل شكل صوري وترى في العقل أنه قابل محض, فيزدري بها (كانْت) ويرى أن العقل هو الذي يفرض قوانينه على الأشياء. أما قوانين العقل هذه فيراها (كانْت) عبارة عن:
1) الشكول القبلية للحساسية, وهي الزمان والمكان.
2) المقولات الاثني عشر للذهن, التي تقع تحت المقولات الأربع: الكم, والكيف, والإضافة, والجهة.
وتبعاً لذلك فإن المعرفة لا محالة ستكون نسبية, إذن لا يستطيع الإنسان أن يعرف الأشياء في ذاتها, وإنما يعرف فقط الظواهر أي الأشياء كما تظهر لعقلنا من خلال هذه الشكول وعلاقاتها.
ثم أن هذه القوانين الكانتية (الشكول والمقولات) لمّا كانَت قبلية, فإنها لا محالة تكون كلية, وحينئذ ستكون شروطاً لكل معرفة ممكنة, وعندما نقول أن مواضيع العلوم صادقة, فلا يعني ذلك أنه مطابق للشيء في ذاته كما قال الجزميون من الأرسطيين وغيرهم, فإن الشيء في ذاته لا يمكن بلوغه وإنما يعني أن العلم يتفق مع تلك القوانين الكلية للذهن البشري, والحقيقة عندما تكون محدودة فإن ذلك لا يرجع إلى مادتها ومضمونها, وإنما يرجع إلى شكلها أي طابع الكلية الذي يميزها(23).
والذي يتحصل لنا من الموقف الكانتي إزاء المعرفة هو: أن الأشياء في ذاتها لما كانت غير قابلة للإدراك والمعرفة، فإن الميتافيزيقيا الكلاسيكية ستكون وهماً لا طائل من ورائه, وذلك لأنها تجنح إلى إدراك ذات الأشياء وماهياتها بحسب الواقع, أما العلم المقابل لهذه الأوهام الميتافيزيقية والذي يتعرف على الظواهر فقط, فقد افلح كل الفلاح لأنه جاء ومقتضى الواقع الذي يقول أنه لا يمكن بلوغ وإدراك الشيء في ذاته, فلا بد من الاقتصار على الظواهر فإذا كنا لا نستطيع معاينة ذات الشيء وذاتياته, فالحري بنا أن نبقى في دائرة ما نعاينه وهو الحواس, وعدم إتعاب أنفسنا بالبحث عن الأوهام, لأنه من المستحيل تجاوز ميدان المعطى التجريبي.
و«هكذا يتضح الانقلاب الفكري الذي أحدثه (كانْت) في مسألة الفكر الإنساني, إذ جعل الأشياء تدور حول الفكر وتتبلور طبقاً لإطاراته الخاصة, بدلاً عما كان يعتقده الناس من أن الفكر يدور حول الأشياء ويتكيف تبعاً لها.
وعلى هذا الضوء وضع (كانْت) حداً فاصلاً بين (الشيء في ذاته) و(الشيء لذاتنا), فالشيء في ذاته هو الواقع الخارجي دون أي إضافة من ذاتنا إليه, وهذا الواقع المجرد عن الإضافة الذاتية لا يقبل المعرفة لان المعرفة ذاتية وعقلية في صورتها, والشيء لذاتنا هو المزيج المركب من الموضوع التجريبي, والصورة الفطرية القبلية التي تتحد معه في الذهن, ولهذا تكون النسبية مفروضة على كل حقيقة تمثل في ادراكاتها للأشياء الخارجية, بمعنى أن إدراكنا يدلّنا على حقيقة الشيء لذاتنا لا على حقيقة الشيء في ذاته»(24).
على أساس من هذا التحليل قرّر (كانْت): أن الميتافيزيقيا, لا تقع أساساً موضوعاً للعلم, وكل ما طرح فيها فهو ليس من العلم, بل ألفاظ وأخيلة, فقيمة المعرفة الفلسفية الميتافيزيقية لدى كانت تساوي صفراً, ومن ثمَّ فكل محاولة لإقامة معرفة ميتافيزيقية على أساس فلسفي هي محاولة فاشلة ليست لها قيمة, وذلك لأنه لا يصح في القضايا الميتافيزيقية شيء من الأحكام التركيبية الأوليّة والأحكام التركيبية الثانوية(25).
أما الرياضيات, فقد ذهب كانت إلى أن الرياضيات يقينية, والسّر في ذلك أن موضوعات الرياضيات من صنع الذهن البشري, فالذهن مثلاً يفترض أموراً كالمثلث والمربع والدائرة, ثم يحدد لها خواصاً, وحيث أن هذه الموضوعات صناعة عقلية بحتة, فمن المحتم أن يصدق كل حكم بشأنها صدقاً يقينياً.
وأما الطبيعيات فهنا يبدأ (كانْت) باستبعاد المادة عن هذا النطاق, لأن الذهن لا يدرك من الطبيعة إلا ظواهرها. فهو يتفق مع (جورج باركلي) على أن المادة ليست موضوعا للإدراك والتجربة وإن كان لا يعتبر هذا دليلاً على عدم وجود المادة ومبرراً لنفيها فلسفياً كما زعم باركلي.
وإذا أسقطت المادة من الحساب فلا يبقى للعلوم الطبيعية إلا الظواهر التي تدخل في حدود التجربة، فهذه الظواهر هي موضوع هذه العلوم ولذلك كانت الأحكام فيها تركيبية ثانوية لأنها: ترتكز على درس الظواهر الموضوعية للطبيعة، وهذه الظواهر إنما تدرك بالتجربة. وإذا أردنا أن نحلّل هذه الأحكام التركيبية الثانوية من قبل العقل، وجدناها مركبة في الحقيقة من عنصرين: أحدهما تجريبي، والآخر عقلي. أما الجانب التجريبي من تلك الأحكام العقلية فهو الإحساسات المستوردة بالتجربة من الخارج، بعد صب الحس الصوري لها في قالبي الزمان والمكان.
وأما الجانب العقلي فهو الرابطة الفطرية التي يسبغها العقل على المدركات الحسية، ليتكون من ذلك علم ومعرفة عقلية. فالمعرفة إذن مزيج من الذاتية والموضوعية، فهي ذاتية في صورتها وموضوعية في مادتها، لأنها نتيجة التوحيد بين المادة التجريبية المستوردة من الخارج، وإحدى الصور العقلية الجاهزة فطرياً في العقل. فنحن نعرف - مثلاً - أن الفلزات تتمدد بالحرارة، وإذا أخذنا هذه المعرفة بشيء من التحليل نتبين أن موادها الخام، وهي ظاهرة التمدّد في الفلزات وظاهرة الحرارة، جاءت عن طريق التجربة، ولولاها لما استطعنا أن ندرك هذه الظواهر.
وأما الناحية الصورية في المعرفة أي سببية إحدى الظاهرتين للأخرى فليست تجريبية, بل مردّها إلى مقولة العلية التي هي من مقولات العقل الفطرية، فلو لم نكن نملك هذه الصورة القبلية لما تكونت معرفة. كما أنا لو لم نحصل على المواد بالتجربة لما تحققت لنا معرفة أيضا. فالمعرفة توجد بتكييف العقل للموضوعات التجريبية بإطاراته وقوالبه الخاصة، أي مقولاته الفطرية، لا أن العقل هو الذي يتكيف وأن إطاراته وقوالبه هي التي تتبلور تبعا للموضوعات المدركة. فالعقل في ذلك نظير شخص يحاول أن يضع كمية من الماء في إناء ضيق لا يسعها، فيعمد إلى الماء فيقلّل من كمّيته ليمكن وضعه فيه بدلاً عن أن يوسّع الإناء ليستوعب الماء كلّه(26).
يتبع..
الهوامش:
(1) أصول الفلسفة والمنهج الواقعي 1: 198- 225. 
(2) أصول الفلسفة 1: 225.  
(3) عرضها الشهيد الصدر تحت عنوان: الشك العلمي. انظر: فلسفتنا: 173 فما بعدها. 
(4) دراسات في الحكمة والمنهج, السيد عمّار أبو رغيف: 357. 
(5) دراسات في الحكمة والمنهج: 350. وانظر: أصول الفلسفة 1: 229 ؛ فلسفتنا: 129. 
(6) دراسات في الحكمة والمنهج: 350.  
(7) أصول الفلسفة 1: 60, مقدمة مطهري. 
(8) موسوعة الفلسفة, عبد الرحمن بدوي 1: 491.  
(9) أصول الفلسفة 1: 230- 233. 
(10) فلسفتنا: 130- 134. 
(11) فلسفتنا: 130. 
(12) أصول الفلسفة 1: 231, نقلاً عن فروغي. 
(13) تأملات ميتافيزيقية, رينيه ديكارت, التأمل: 1, 3, 6. 
(14) فلسفة ديكارت ومنهجه, مهدي فضل الله: 90. 
(15) فلسفتنا: 130- 131.  
(16) تاريخ الفلسفة الغربية, برتراند رسل  3: 314, ترجمة: محمد فتحي الشنيطي. 
(17) فلسفتنا: 163- 168 ؛ أصول الفلسفة 1: 238- 239. 
(18) فلسفتنا: 163. 
(19) كانت.. أو الفلسفة النقدية, زكريا إبراهيم: 46. 
(20) موسوعة الفلسفة 2: 272- 273.  
(21) مدخل جديد إلى الفلسفة, عبد الرحمن بدوي: 124. 
(22) مدخل جديد إلى الفلسفة: 124. 
(23) مدخل جديد إلى الفلسفة: 125. 
(24) فلسفتنا: 166. 
(25) أصول الفلسفة: 1: 238 ؛ فلسفتنا: 167. 
     رأى كانت أن الأحكام العقلية تنقسم إلى قسمين: أحكام تحليلية وأحكام تركيبية.
     والحكم التحليلي: هو الذي يستعمله العقل لأجل التوضيح فحسب, كقولنا: الجسم ممتد, والمثلث ذو إضلاع ثلاثة, فإن مرد الحكم هنا إلى   تحليل مفهوم الجسم والمثلث, واستخراج العناصر المتضمنة فيه, كالامتداد المتضمن في مفهوم الجسم, والإضلاع الثلاثة المتضمنة في مفهوم المثلث, وردها إلى الموضوع. وهذه الأحكام لا تزودنا بمعرفة جديدة وإنما تتلخص وظيفتها في التوضيح والتفسير.
     أما الحكم التركيبي: فهو الذي يزيد محموله شيئاً جديداً على الموضوع, كما في قولنا: الجسم ثقيل, والحرارة تتمدد بالفلزات, و (2+ 2= 4), فإن الصفة التي نسبغها على الموضوع في هذه القضايا ليست مستخرجة منه بالتحليل, وإنما تضاف فتنشأ بسبب ذلك معرفة جديدة لم تكن قبل ذلك.
     ثم أن الحكم التركيبي؛ تارة يكون حكماً قبلياً, وهو الثابت في العقل قبل التجربة, وأخرى حكماً ثانوياً, وهو التي تأتي العقل بعد التجربة, ومثال الأولى هي الأحكام الرياضية, والثانية نظير: كل جسم له وزن. فلسفتنا, محمد باقر الصدر: 163 ؛ كانت.. أو الفلسفة النقدية, زكريا إبراهيم: 49. 
(26) فلسفتنا: 165- 166.
 
 

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ مازن المطوري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/09/17



كتابة تعليق لموضوع : قيمة المعرفة الإنسانية بين الشهيدين مطهّري والصّدر (الحلقة الثانية)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net