سقوط الباستيل الارهاصات والتداعيات
احمد العبيدي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
شكل سقوط سجن الباستيل في فرنسا في 14 يوليو عام 1789م انطلاق شرارة الثورة الفرنسية الکبرى ، لانه مثل في حينها رمز السلطة والطغيان للحكومة الملكية الفرنسية ، وما تزال فرنسا حتى اليوم تحتفل سنويا بذكرى اقتحام السجن باعتبارها يوماً وطنياً لفرنسا وبداية انتهاء حقبة طويلة من حكم مطلق شمولي.
وفي العراق كان لسجن ابي غريب الذي بُني في خمسينيات القرن الماضي ، اكثر من رمزية طيلة العهود التي كان فيها هذا السجن محلاً لإقصاء المعارضين والمناوئين بشتى درجاتهم ، الامر الذي جعل اسمه متطابقاً مع محتواه الى حد بعيد .
لقد كان للهجوم الذي استهدف سجن أبي غريب تزامناً مع هجوم آخر يستهدف سجن التاجي جملة من الارهاصات والظروف التي سمحت لعمل من هذا النوع ان يصير واقعاً ، كما كانت له تداعيات جعلت منه منعطفا لدى العراقيين في نظرتهم للحكومة العراقية الراهنة . فبالرغم من انه لم يكن الهجوم الاول الذي تنجح فيه القاعدة بكسر أسوار هذا السجن وتحرير أعضائها ، فقد هاجمته عام 2004 وحررت 150 من عتاة أعضائها آنذاك ، ولا هو السجن الوحيد الذي تكسَر أسواره ، فقد جرى ذلك لسجن البصرة وتكريت والحلة وغيرها ، وبالرغم من ان تهريب عدد كبير من السجناء (قد يصل الالف) وإيصالهم أحياء الى مكامن آمنة أمر خارج حدود الممكن ، فلا ينجو منهم الربع في افضل الاحول ، إلا ان الهدف الحقيقي من فتح السجن لم يكن إلا الإجهاز على ما تبقى لدى العراقيين من ثقة بحكومتهم وأراقة ما تبقى لها من ماء الوجه ، وجعل الحدث شرارة لثورة شعبية يقوم بها هذه المرة مؤيدو الحكومة قبل مناوئيها.
ان قراءة هذا الحدث مفصولاً عن إرهاصاته وخلفياته يخرجه من واقعه وحقيقته ، ويضعه في إطار تهويلي يؤهله لاحتلال المركز الاول بين ما مر على العراق طيلة عقد مضى ، فيما الامر ليس كذلك ، والوضع أكثر تعقيدا وتداخلا ، فالظرف الموضوعي للعملية السياسية العراقية ، وما تشهده المنطقة من استقطاب له دوره في ما جرى ويجري ، كما ان الدقة في ملاحقة التداعيات وإبقائها في حدود الواقع أمر لا بد منه :
1- تحولت سوريا في غضون عامين وأكثر الى مأوى استقطب آلاف السلفيين (الجهاديين) من كل بقاع الارض ، يرافقهم دعم هائل من دول نفطية ، جعل سوريا مكبّاً لاضخم خزين إرهابي ، بشري وتسليحي .
2- زامن ذلك انتقال حمى ما سُمّي بالربيع العربي ، في الانبار والفلوجة أدى الى انفصال هذه المنطقة فعلياً ونفسياً عن سيطرة الحكومة المركزية ، الامر الذي وفر مناخاً واستعداداً لعودة الجماعات المسلحة بشكل لافت للتحرك بالعَلن ، ساعد على ذلك الوضع في سوريا ، وامتداد الحدود بين البلدين الى اكثر من 600 كم ، وضعف السيطرة عليها .
3- امتلاء السجن بمدانين ومحكومين بقضايا ارهاب مدة طويلة يهيء لهم ارضية لاقامة علاقات واتفاقات مع سجّانيهم ، كان ذلك بسبب دخول رئيس العراق في حالة الاغماء السياسي وهرب نائبه المدان ، ما عطل تنفيذ أحكام الاعدام بهم ، بالاضافة الى مماطلة اطراف سياسية مشاركة في الحكومة ينتمي إليها كثير من هؤلاء المدانين ، بهدف استصدار قانون العفو وشمولهم به .
4- كان اطلاق سراح المساجين مطلباً رئيساً لمتظاهري الانبار ومؤيديهم في مناطق اخرى .
5- علينا ان لا ننسى ان لتيارات سياسية اخرى مساجين أيضا تطالب بإطلاق سراحهم ، ربما هرب كثير منهم عند اقتحام السجن مع من هرب ، ولم تستطع زعامتها ونوابهم إخفاء تشفيهم وشماتتهم بعملية (كسر الاسوار) ، بل حاز أحدهم قصب السبق في إعلان عدد الفارين بعد سويعات قليلة مع شيء من المبالغة!!
6- ببلوغ سجن ابو غريب السن القانونية للتقاعد (الثالثة والستين) كان ينبغي على الحكومة غلقه وتحويله الى متحف ، لاسباب عدة ، منها عدم توفر التقنيات الحديثة فيه ، ووصول الزحف السكني إليه ، وإحاطته بأراضٍ زراعية كثيفة بامتداد أكثر من 50 كم ، تنتشر فيها طرق ميسمية آمنة باتجاهات متعددة ، كل ذلك ملاصق لتلك الخاصرة التي صارت رخوة منذ عامين .
7- العملية السياسية ، ومنذ سنتين أو ثلاث أصيبت بالشلل التام ، فقد انهارت معظم الاتفاقات والتحالفات بما في ذلك التحالف الوطني الذي انتخب رئيس الوزراء الحالي ! وتحول الفرقاء الى خصماء يتربص بعضم الدوائر ببعض .
8- هذا التفتت والتربص أدى بكلا الوزارتين المعنيتين بالامن الى البقاء بلا وزير الى هذه اللحظة ، فبقاء وزارة بلا وزير يؤدي الى ذوبان المسؤولية ، وتمادي صغار المسؤولين الذين لا رقيب عليهم بالفساد والترهل .
9- العملية المزدوجة نجحت من الناحية الفنية (بنسبة 40%) وذلك لفشها في سجن التاجي ومقتل اكثر المنفذين ، لكنها من الناحية السياسية نجحت (بنسبة 100%) وزيادة ، ذلك انها استثمرت كل التعقيدات الراهنة ، وتوّجت سلسلة أعمالها الارهابية في الاشهر الماضية بعمل ميداني يظهر قدرتها على المبادرة والتخطيط والانسحاب ، فاستطاعت بذلك أن تحدث منعطفا لدى العراقيين في تعاطفهم مع الحكومة .
10- فشل الحكومة (او إفشالها) في ملف الخدمات كان عاملا مساعدا في رفض كل التبريرات التي تطلقها لاي إخفاق امني او خدمي ، فاذا سكت المواطن عن نقص في الخدمة ، فلأنه يعلم بأرجحية الامن ، فاذا انهار هو أيضا ، لم يبق حينئذ سبب لدعمها وتفهمها .