صفحة الكاتب : ستار عبد الحسين الفتلاوي

قصة قصيرة هلوسة رجل مريض
ستار عبد الحسين الفتلاوي

المتاهة التي يدور بداخلها ، لا تكاد تنتهي ، او كأن يدا خفية ترسم امتدادات لا تنتهي لطرقاتها. يتوقف ليلتقط انفاسه بين فينة واخرى ، وبين لهاث ولهاث. كلما ازدادت سرعته في الركض ازدادت سرعة الافعى المتربصة به. برودة جلدها الاملس يحسها بين ساقيه يسمع فحيحها الاجش متذبذبا في اذنيه. ان تكون قريبا من الموت دون ان تموت فذلك اكثر رعبا من الموت نفسه. الخوف يطبق على نفسه من كل الجهات ، متوقعا ان تلدغه الافعى في اية لحظة ، وسريان سمها في عروقه المنتفخة والناتئة عن جلده اللزج بالعرق.

قال : انا بين الناس ، فلماذا لايسمعني احد ؟ اراهم فلماذا لا يروني ؟ يستنجد بهم فينظرون ناحيته ، ثم يتركونه غير آبهين ... عيونهم كابية ومغلفة بغموض غريب. يمرق بينهم ، فلا ينتحون عن طريقه. يصطدم ببعضهم. بعض الوجوه كانت معروفة لديه.

يصرخ ملء فمه ، اغيثوني من هذه الافعى. يكاد رأسه ان ينفجر ، لأن صوته المتماوج كان يتردد في داخله وفي الاقبية غير المضاءة من عقله.

الدروب التي يسلكها ، تنتهي بنهايات مغلقة. . البنايات والبيوت تتراقص فوقها ظلال شبحية سوداء. طيور بلون الطين تنبعث من الارض ، يمتلئ الجو بخفقان اجنحتها.. عيون تومض من خلال شقوق الحيطان وصدوعها ، فتبدو كجمرات متقدة مبثوثة هنا وهناك الناس يحاذونه بمسيره بطيئة وصامته . اشداقهم مائلة على صدورهم. نظراتهم سادرة نحو اللاشيء ، كأنهم الى نصب يوفضون يتوقفون عن المسير ويشبكون ايديهم فوق رؤوسهم بما يشبه القوس فتغوص ارجلهم في الارض. قال يحدث التماثيل الحجرية التي كانت بلون الرصاص : عن ماذا تحتمون ؟!

يأتيه صوت متشظي من الحيطان المقشرة : من سقوط القنابل على ارض الدم والدمار.

الناس ( التماثيل الحجرية ) والارض والسماء يرتلون في خشوع جنائزي : ياسيدة الدم والدمار ، اخرجي من عالمك السفلي وخذي احدنا قربانا لرضاك عنا. ينهون ترتيلهم بصرخة جماعية مؤذية تشبه صفير رصاصة تمر قرب اذنك. يسمع دمدمة من تحت قدميه.. يخفق قلبه بعنف. الدماء تضرب في عروق اصداغه. قد اخترت هذا المتنسك فيه دم يجري ، وبقية حياة اكثر منكم ، انتم الموكلون بتنفيذ ارادتي في التدمير. حباله الصوتية المتيبسة تحشرج .. يتلعثم ... يتمتم بأنصاف كلمات .. سيدتي ما ... ما ... تفعلين ... بجسدي الهزيل ... المعمد في البرك الاسنة للحزن ؟! قالت : انا الشظية التي تستقر في ظهرك ، انا الافعى التي ذادتك الى هنا.

يشبك ذراعية على رأسه مثلهم ... تغوص قدماه في ارض لزجة ، وتنتابه الراحة اذ انتمى الى القطيع .. يتمتم ماخوذا بسحر من يرتاح بعد شوط طويل من الالم : خذيني قربانا لهؤلاء المساكين ، الذين لا يرون اكثر من وجوههم المجرد.. انا الاضحية .. انا الكبش الاملح الهزيل!.

تنفتح تحت قدميه كوة هلامية مظلمة. يطل منها رأس امرأة باهرة الجمال يرمى فيه وجه زوجته ، شيء ما يحدثه من داخله : من اين لزوجتك مثل هذا الوجه القمري الملئ بالعافية. ذراعها البيضاء المكتنزة ، تلتف حول عنقه بخفة ، وتسحبه اليها بتؤده. الهمس المبهم بتصاعد من فمها القرمزي قالت : سأخذك الى العالم السفلي .. الى عالم الاموات ، حيث يتحجر الزمن. بروق برتقالية اللون تلتمع في الافق ، ولا يصل من ضوئها الا النزر القليل فتحدث التماعا خافتا على الوجوه الجامدة. وجهه المستسلم يصبح تلقاء وجهها يغرق في فيوضات من النعومة والطراوة المتدفقة من وجه المرأة. يستولي على كيانه رعب يمتزج بالحيرة ، المرأة الفاتنة تسلخ بشرة وجهها بأظافرها فتبدو كأنها كائن لوحته نيران الجحيم. يدها الملتفة على عنقه تضغط بعنف .. يصارع للخلاص منها .. صرخته المخنوقة تضيع في تشجنات بلعومه. الوجه المسلوخ الجلد يكشر ضاحكا .. مستهينا بأوجاعه : ستؤنس وحشتي في ظلمات عالمي. يرد يائسا من الخلاص : لا اريد الذهاب معك ، اتركني لحالي ..

-         كيف اتركك لحالك ، بعدما ايقظتني من رقدتي ، انت استدعيتني لاأخذك ؟

-         كلا لم افعل ذلك !

-         الا تذكر امتعاظك من حياتك . ورغبتك في الموت ؟ الا تنام كل ليلة على امل الا تستقيظ ؟

-         غفرانك ربي .. نـجني

يكاد يستسلم لنومته العميقة ، قتجذبه يد من قفاه. يفيق من كابوسه مرتعبا ، وقد سبح في عرقه ، الذي تتصاعد منه رائحة الادوية الكريهة.وضع يديه تحت رجله المشلولة ، واستدار بصعوبه ، لينام على جنبه الايسر. يقابله وجه زوجته ، بأنفاسها المتأدة في تتابعها . ارعبته ابتسامتها وتطير منها، قال لنفسه : هل كانت حقا جزءا من كابوس نومي ؟ ان وجهها بأبتسامتها المخيفة يرعبني كما ارعبني وجه المرأة الاخرى في الكابوس !

اربكته فكرته الجهنمية .. انها كانت تسمع تأوهاته ولهاثه دون ان توقظه. قال : كأنها تستهزئ بي ... حسبي الله. لطالما اذيتني في النهار ترددين مساوئي وعيوبي على مسمع مني ، وانا عاجز عن ردك ، تتذكرين اخطائي وكأنها غير مغتفرة ، حتى التي حدثت قبل عشرين عاما .. عندما كنت معافى من كل عله. اما الان فليس لي الا هذه النفس الهلوعة اللائبة في جسد خائر القوى. احتملت بذاءة لسانك سنوات طويلة ، ولكن ما لا احتمله هو ان تشمتي بي.

شعر بالانقباض حينما تأوهت المرأة ، وزمت شفيتها لتخفي ابتسامتها. قال : اعلم انك تلعينني في سرك وتتمنين موتي ولكن ماذا اقول بعد هذا العمر ..؟ حسبي الله عليك.

اشاح بوجهه عنها ، متوجسا في نفسه خيفة ان تفتح عينيها ، فيصطدم بنظرتها الجامدة ، عندئذ يتوجب عليه الاستماع الى كلماتها : مابك يا رجل ؟ لا تراقبني وانا نائمة ان ذلك يجلب المرض !

يضطر الى مجاراتها قائلا : جاء الامر عفويا دون قصد مني.

اغمض عينيه مرة اخرى ، مترددا بين ان يبقى يقضا يتابع نفثات روحه المتعبة وخيالاتها الغريبة ، وبين ان يغفو مستسلما لكوابيس نومه التي تحيل كيانه الى هشيم. تدرع ببقيه صبر في نفسه ، وولج في لجة مخاوفه احس بأذيال ثوبها تلامس جبهته ، مثلما تمر نملة كبيرة وخشنة الارجل قال : الم تكن نائمة هذه المرأة ، ما الذي ايقظها ؟!

يسمع صوت انكسار قوي ، كأنه نابع من رأسه. اجفانه الملتصقة تأبى ان تنفتح. وشيء لزج يتقاطر على وجهه. يفلح في فتح احدى عينيه ، فيبصر حافة ( ساطور اللحم ) ، وقد التصق بها شيء من دماغه. يتحسس رأسه المشقوق الى نصفين بيديه . يتسايل دماغه من جبهته الى ارنبه انفه. اليد التي تحمل ( الساطور ) ترتفع الى الاعلى متحفزة لتهوي به مرة اخرى على ام رأسه الهمهمات الغريبة لا يفهم منهما سوى كلمتين .. مت وارحنا .. مت وارحنا. يصرخ مفزوعا : كلا ارجوك لا تقتليني .. لا تقتليني . يخبط     بيديه   امام وجهه المصبوغ بلون الزعفران ، تهتزه المرأة بعصبية ونفاذ صبر : استيقظ يا رجل،    تخاف من الكوابيس كأنك طفل .. هل جننت ؟!

-         ابتعدي عني يا مشؤومة ، تطارديني في يقضتي ونومي

-         انا مشؤومة يا غراب البين الاغبر

تنهض زوجته بشعرها المنكوش متأبطة وسادتها ، ثم تتوقف فوق رأسه لبرهة. تمد اصبعها اما وجهه قائلة : نم وحيدا ، ولكن اياك ان تناديني .. سأنام مع بناتي.

تقتنص لحظة انتصارها ، وتبتسم ابتسامتها التي تخلب القلب ، ليس من جمالها ، ولكن لان فيها كمية هائلة من الرعب والشماتة والحقد المخفي تحت الرماد.

يسمع اصطفاف باب الغرفة الاخرى ، ومن مأذنه الجامع يأتيه صوت المؤذن متهدجا ، كأنه يوشك على البكاء.قال : رحلت وتركت خيالها المقعر في مفرش الاسفنج.  تقدح في باله نفثة من هواجس كوابيسه. يدفعه الفضول الى رفع حاشية الفراش .. تصعقه المفاجاة .. ( ساطور اللحم ) ممددا تحت الفراش وكومة من النمل الاسود  كأنها ندفة صوف ، تتكوم على حافته المسنونة!


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ستار عبد الحسين الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2012/10/08



كتابة تعليق لموضوع : قصة قصيرة هلوسة رجل مريض
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net