صفحة الكاتب : ستار عبد الحسين الفتلاوي

تمثيلية ( رجل لن يتذكره احد) قصة قصيرة
ستار عبد الحسين الفتلاوي

 إمرأة تلتمع في وجهها رقة العافية , ونداوة فرحة لاتكاد تخفيها . حواسها المستفزة .. وجهها المنمنم والمزوق بما تيسر من زينة النساء. تنزل عبائتها عن رأسها , وتلف ذيولها بين ساقيها . ترتعش الاهداب المكحولة . ينزلق شعرها على كتف الرجل . قالت : اشعر بالبرد .. ينتبه الرجل من شروده . قال : الهواء منعش فيه رطوبة خفيفة . 

قالت متوسلة : ضع يدك حول كتفيَ. جسدي لايزال رطبا . خرجت من الحمام على عجل , وأنت مصرٌ على جلوسنا في مكاننا القديم .. قرب دجلة .

كاميرا (2) تمشط النهر المتهادي في جريانه . يعلوه نشعا شفيفا من البخار . الريح تكنس الاوراق االمتساقطة من الاشجار القريبة , وتذروها قرب النهر او تبددها في ممرات الحديقة .  طيور الماء البيضاء تحلق دون رفة جناح .. اجنحتها مفرودة الى الجانبين , تحاذي وجه النهر فتنغمس اجنحتها في الماء .

تتجه الكاميرا الى الضفة الاخرى .. بنايات متشابهة ونظيفة . ينتصب بينها تمثال رمادي , ويده مبسوطة نحو السماء . 

موسيقى متسارعة , تكشف خوف الرجل وإرتباكه ..

كاميرا (1) لقطة مقربة لوجه الرجل .. ينتابه شحوب ميت عاد من قبره . شعره غير مرتب , لحيته الحليقة باستعجال تبدو عليها اثار شفرة الحلاقة . يشد يده على كتف المرأة . قالت : انت ترتعش مثلي . 

قال: هذا برد الزنزانة الذي تكوم بداخلي . أرى نفسي بوضوح مؤلم . أنام متكوما على وجهي .. عاريا .. مرضوض الاعضاء .. أرضية الزنزانة تصلُ في عروقي .. في عظامي .. في أضلاعي المهشمة . أربع سنوات لم أر ظلي .. عيناي مغلقتان بلزوجة  دمائي . 

المخرج الشاب يشير بيده : أوقفوا التصوير . 

يطفيء مروحة الهواء العملاقة . يقترب من الشخصين قائلا : أرجوكم أريد إنفعالا أكثر . تماهوا مع شخصياتكم . يخاطب الرجل الضئيل الحجم : أنت تجسد شخصية إنفعالية , وعلى درجة عالية من رهافة الاحساس . شخصية مهزومة تلاحقها كوابيس التعذيب في اليقظة والنوم .

شغلوا المروحة (تصوير) .

كاميرا (1) تتابع حركة اوراق الاشجار , وصوت خشخشتها . تتجمع تحت قدمي الرجل .  يرتبك . يضم قدميه الى بعضهما.

المرأة تنظر في وجهه . أنفاسها المتدافعة تصطدم بذقنه . قالت بصوت متهدج : ماذا فعلوا بك ياحبيبي؟ أتذكر أخر رسالة كتبتها لي قبل إعتقالك ؟ 

يزم شفتيه ثم يقول : نسيت كل شيء .. الاشعار .. الرسائل . انا اترنح في سديم غيبوبة بيضاء . تائه في عالم موصد الابواب اقف على الحد الفاصل بين تخوم الموت والحياة . ومن سط غيبوبتي ينبثق وجهك مثل وردة بيضاء في حقل ورود حمراء . أصحو فزعا متمنيا ان لا أصحو .  أتنفسك ملء رئتي لاطرد هواء الزنزانة المسموم . 

كاميرا(2) تتسلق جسد المرأة , تقف عند وجهها . تبكي بصوت مسموع , وتردد شبه ذاهلة : اذهبي ايتها الريح ...

تتركها الكاميرا , وتتابع صعود ونزول النوارس فوق دجلة .صوتها فقط يسمع :

(اذهبي ايتها الريح ..الى حيث تقيم حبيبتي , المسيها وعودي والمسيني .. وسوف احس لمستها الناعمة من خلالك.. انظري الى صورتها في القمر .. هذه الاشياء تكفي العاشق. نستطيع ان نعيش عليها وحدها.. اننا -  انا وهي – نستنشق نفس الهواء , ونمشي على نفس الارض...) . انا معك الان ياحبيبي , يجمعنا المكان ذاته , ونتنفس الهواء ذاته . ارجوك حاول ان تنسى تلك السنوات . ينظر الرجل اليها ويتحسر . يتمتم : حتى لو حاولت تذكرني هذه الكدمات الزرق على اضلاعي .. تذكرني الكوابيس وجوه الجلادين .. الصفعات التي يرن صداها في اذني .. مثانتي التي لااسيطر عليها في اغلب الاحيان .. الظلمة .. الغيبوبة .. روائح الادميين الثقيلة وقذاراتهم .. 

الكاميرا تركز اللقطة على ارتعاش يديه وشفتيه : كانوا يتبولون على جسدي المدمى , ويضحكون ..يضحكون . يقولون باستهزاء : البول يطهر الجروح . في كل ليلة تراودني تلك الامنية القاحلة .. الليلة اموت .. غدا يردمون التراب على جسدي الميت .. غدا يطلقون الرصاص على جسد يتنفس قذاراتهم , ولايجيء ذلك الغد ! 

المخرج يشير باصبعه . تتجه الكاميرا الى التمثال الرمادي في لقطة سريعة . تعود الى الشخصين الجالسين في خواء الزمن .عينا الرجل فيهما نظرة فارغة . ترتعش جفناه . تراوده فكرة ما . قال : انظري دجلة تجري على معتادها , غير ابهة بنا . ليتها تفور وتغرق البيوت .. تغسل العفونة الصاعدة منها . ( اينما نقلت عيوني .. اينما نظرت , وجدت خرائب عمري السوداء...) . تنكمش المأة على نفسها , كأنها تريد الاختباء تحت جسده الضئيل . قالت : كلامك يرعبني .. كلام رجل يائس , شاخت روحه قبل جسده . ( كأن العمر ما فات على زهو الصبايا , وحكايات الصغار ... ) . 

قال : لايزال جسدي مصلوبا هناك .. يئن تحت وطأة الالم , وتشخب الدماء من جراحه دون ان يضمدها احد .. كلب منبوذ لاقيمة له . يطفئون سجائرهم في مؤخرتي , ويصعقون اعضائي بالكهرباء . يضحكون .. يهددون ..اعترف لاي تنظيم تنتمي وانا من غيبوبة لغيبوبة .أستيقظ في مراحيض السجن .. عفونة نطف الادميين وبولهم ..رئتاي تمتلئان بالهواء الفاسد .أتقيأ احشائي الخالية , وأعود لغيبوبتي , راضيا بموت مؤقت يريحني . 

كاميرا (2) موسيقى .. تقاسيم على أوتار العود . دجلة تلألأ بوجهها الرائق . وجه المرأة يعتصره الالم . يخرب كحل العينين ويسيل على الخدين . تمد يدها وترفع خصلات الشعر المنسابة امام ناظريها . قالت هامسة : انظر ذلك الرجل شكله غريب , منذ جلسنا وهو في تلك الزاوية المظللة !!

تتجه الكاميرا نحو رجل  في اربعينيات العمر .. يرتدي بدلة رمادية بنصف كم , ويطالع في جريدة . قال: أعلم بامره , هذا الرجل مثل ظلي . أخاف ان اسلم على الناس الذين أعرفهم ,لانهم قد يسجنون بجريرة معرفتهم بي. في اليومين الماضيين جعلته يطوف نصف بغداد مشيا على الاقدام , رغبة مني في اذلاله . اصعد في اي باص , أعبر دجلة مرتين في الباص ذاته .

يخلو الباص من الركاب . انا أجلس في المقدمة وغريمي يجلس في المقعد الاخير .

 تتنهد المرأة وتقول : ماالداعي لكل هذا ؟ بأي تهمة اعتقلوك؟!

يضحك الرجل قائلا : قد لاتصدقين !!

قالت دون تردد: مادام هذا الصنم يعبد ( تشير الى التمثال الرمادي) سأصدق أي شيء.

كاميرا(1) لقطة قريبة لوجه الرجل . عيناه غائمتان تهوم فيهما رسل الموت. قال : اعتقلوني بسبب قصيدة !

تبدو مندهشة . قالت: اية قصيدة؟!

يتلعثم قبل ان يقول : قصيدة ..(هزيمة المنتصر) . نقلتها على قصاصة ورق من احدى المجلات العربية, ودسستها في جيبي .

ضابط التحقيق أصر على ان القصيدة من انشائي . قلت له : انها قصيدة معروفة لشاعر معروف وبامكانك التاكد من صدق كلامي . زمجر الضابط قائلا :القيادة تحارب القوى الامبريالية وأمثالك من الخونة يكتبون الشعر ضدها . بقي يردد بين جملة واخرى كلمة .. خائن ..خائن . لم تنفع توسلاتي في اقناعه . قلت : ياسيدي قصائدي لاتعدو ان تكون بدايات رومانسية بريئة.

تتغنى بأمرأة تتضوع منها رائحة الحناء, وتغتسل عيناها في ماء دجلة .  

يتولى رجال غلاظ ضربي بالعصي حتى اغيب عن الوعي . تسعر في داخلي دوامات الم لاتنتهي .

كاميرا (2) لقطة سريعة لوجه النهر الساكن .. سمكة صغيرة يبرز راسها خارج الماء . يقتنصها طائر السماك بمنقاره المدبب الكاميرا تلاحقه .. يبتعد , السمكة تنتفض يائسة وموقنة بنهايتها الوشيكة.

كاميرا (1)تصور الرجل والمراة يعبران احد جسور دجلة . عزف منفرد للناي يصاحب المشهد . يتوقف الرجل في منتصف الجسر . تلتفت مستغربة . قال : ستكملين الطريق وحدك , وأتوسلك لاتبحثي عن اجابات . تحاول ان تقاطعه فيقول باصرار : حين تصلين الى البيت , احرقي رسائاي وقصائدي . ساسافر اليوم الى غير رجعة . ياحبيبتي ماعدت اصلح لك او لغيرك . انا رجل معطوب من الداخل والخارج . جسدي مشوه بالندوب , اشعر بالخزي حين أتعرى في الحمام .. أصحو كل ليلة مفزوعا ..أرى ذلك الرجل بشاربه الغليظ يجلس على فخذي , ويعلم على مؤخرتي بشفرة حلاقة ثم يضحك باستهتار قائلا : كي لاتنسى انك زرت مديرية الامن ...

كاميرا (2) لقطة بطيئة لوجه المرأة الممتقع بالالم . تعض طرف عبائتها وتبكي من دون صوت . تقول من بين غصتها : هل ستسافر وتتركني أتهشم وحدي ؟ يصمت الرجل . 

تعاود القول بالحاح غريق للنجاة : خذني معك , ساترك كل شيء وأسافر معك . يشحب لون وجهه , يتلعثم قائلا: لايمكنك ان تسافري معي , لانها رحلة لشخص واحد . أتمنى لو تنسيني ولكن بعك لن يتذكرني احد . ( صوتك المبلل بالدموع .. غصتك المخنوقة , انا ابتلعتها . مرارة الخذلان مؤلمة .. وحدي عبرت بوابة ذلك العالم , ووحدي سأجوزها ) . 

كاميرا (1) تتابع أشعة الشمس الذابلة . ارصفة الجسر تخلو من المارة . موسيقى تشبه تهويدة طفل . قال : بينما يبحث الاخرون عن تذكارات , تذكارنا الوحيد , هو صورتنا المنطبعة على دجلة . تتعثر خطواتها باذيال عبائتها . تلتفت بين خطوة واخرى الى الرجل المتكيء على حديد الجسر . قال يحدث النهر : انا الاحمق الذي يبحث عن النقاء في زمن ملوث حتى النخاع . أحتاج ان يغسلني ماءك يادجلة . 

كاميرا ( 2) ترصد شبح المراة في منحنى الجسر . تتوقف قرب مقام سيدنا الخضر .. مجموعة من النسوة – الذاهلات عنها – يقدمن النذور , ويشعلن اعواد البخور لعودة الغائبين . 

كاميرا (1) لقطة قريبة لوجه الرجل .. يشرق وجهه بابتسامة غامضة . ينظر مع امتداد النهر حيث الجسور تعانق دجلة . تتوقف الموسيقى .. صوت ارتطام .. كومة ملابس تبتلعها المياه .. تسكن الكاميرا عند وجه النهر . 

صلصلة الماء تمتزج بموسيقى خافتة .. تنتهي التمثيلية . يظهر اسم المخرج بحروف بارزة ثم اسماء الممثلين بحروف أصغر...


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


ستار عبد الحسين الفتلاوي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/10/07



كتابة تعليق لموضوع : تمثيلية ( رجل لن يتذكره احد) قصة قصيرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net