صفحة الكاتب : سوسن عبدالله

البحث عن الذاكرة
سوسن عبدالله

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 منذ أكثر من شهر وأنا أحيا بهذا الألم، أبحث في كل تفاصيله، بل هو الذي يعيشني بكل تفاصيل وجودي، كل لحظة من لحظات التأمل، تأخذني إلى الواقع الذي عشناه يومها، كانت فرحة النصر تجذبنا إلى بهجة الروح، دخلنا قرية (المسلطن) شمال مدينة الكيارة، ونحن نتقدم لنطهر القرية من دنس داعش، سمعنا أصوات استغاثة، أطفال صغار من أبناء القرية حجزوهم في دار مفخخة، وهم يعرفون تماما أن غيرة أبناء الحشد الشعبي لا يمكن أن تتجاوز الاستغاثة، وبهذا سيكون لهم فرصة الهروب بأمان. 
أما نحن فقد قيدت استغاثتهم خطواتنا وما عدنا قادرين على التفكير بشيء سوى إنقاذ أطفال قرية المسلطن. 
عملنا على إزاحة بعض المفخخات المزروعة في طريق المزرعة، حتى وصلنا باب الدار، هؤلاء الناس لا يعرفون سوى لغة التفجير والتفخيخ والقتل والدمار. 
مهما عملت لإنقاذ الأطفال فالفكرة مخيفة ومرعبة، شعرت لحظتها أني لست وحدي بل أغلب مقاتلي السرية تواجدوا لاستغاثة الأطفال.  
إنه كابوس مخيف، فتحت عيني المثقلتين بالوجع، وإذا بالذاكرة تعيدني إلى المشهد كنا نسمع صراخ الأطفال واستغاثتهم داخل البيت الملغوم من كل جانب، مرت أمام عيني لحظات شعرت أن العراق بي يستغيث. 
سحبني صديقي جعفر ليهدأ انفعالي ويحذرني 
-لا تستعجل ودعنا نعمل بهدوء.. 
إحساس غريب انتابني لحظتها شعرت أنهم أولادي ولا بد من إنقاذهم، كان صراخ الاطفال لا ينقطع 
حين ترتبط مشاعرك بالأخرين حد الذوبان، تجد أمامك قانون الحرب لا يجوز لك أن تضحي بحياتك دون المواجهة. 
انتظر مفارز الهندسة المتخصصة لإزالة المفخخات، صراخ الأطفال أربكني مازال صداه في أذني ما فارقني لحظة أبدا. 
أشعر بألم فضيع في جسدي لكني لا أستطيع تحديد مرتكز الجرح في راسي أم في صدري أم في قدمي. 
أدركت حينها أنني أعجز عن الحركة، نائم بلا حراك، ربما أنا نصف حي ونصف ميت، ومع هذا شفتاي تبتسمان رغما عني، وعيناي شاخصتان نحو السقف. 
شرخ في ذاكرتي التي ما عادت تسعفني لأتذكر الذي حدث، نظرت إليّ المعيّنة بابتسامة بشرى وقالت الحمد لله على السلامة، الآن أنا أستحق البشارة، أعادتني بعنف إلى عالم الواقع، وأدركت لحظتها أني جريح، ولا أعرف ما الذي فقدته من جسدي. 
 صرت أتحسس بنفسي جسدي موضعا موضعا، دخل الأهل مستبشرين بسلامتي، وابني الرضيع يناغيني: ـ بابا، قالت لي أمه هو لم يقلها من قبل يبدو أنه خزنها لك، لك وحدك، يا سبحان الله، طالت الأيام في المشفى، وخساراتي تتنامى، ضعف حركة في اليد، كسر في الظهر، وعلى ما يبدو بتر ساق. 
لكن يتغير كل شيء حين اسألهم ما الذي جرى، الحدث الذي فقدته ذاكرتي أنا أبحث عنه بجد، وبلا نتيجة. 
بالأمس عرفت أن قدمي اليمنى بترت مني، وحزنت حين عرفت أنني سأعيش بقية العمر على سرير، ومثلما في جسدي طرف مبتور، في رأسي حدث مبتور، أبحث عنه فلا تسعفني الذاكرة، لهذا صرت أعصر رأسي بقوة. 
خشى الأطباء على تدهور حالتي النفسية، استعانوا على ما يبدو بطبيب نفساني اكتشف أني أبحث عن أحداث فقدتها الذاكرة. 
 بالمناسبة أنا لم أفقد ذاكرتي كوني تعرفت على كل من حولي وصرت أحدثهم عن طفولتي وعائلتي وعن أولادي، أخبروني بأن فتى من الفتيان يريد زيارتك، حسبته نشاطا من أنشطة العتبة العباسية المقدسة لزيارة الجرحى، تقدم الفتى وقدم لي إخوته الصغار وقبلني بحرارة سألته: 
ـ ابن من انت؟ 
 بكى حينها وابكى الجميع وقال عمو أنا صادق ابن الشهيد جعفر، الحمد لله على سلامتك، بدأت الذاكرة تعيد لي المحذوف منها عدت إلى قرية (المسلطن) وأنا واقف بباب الدار الملغومة وإذا بي اسمع الانفجار وأرى الأجساد التي تطايرت صرت أسأله والاطفال؟، هل قتلوا؟ نظر إلي وهو يمسح الدمع عن عينيه ويكرر لي جملته الحمد لله على سلامتك عمو.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


سوسن عبدالله
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/11/15



كتابة تعليق لموضوع : البحث عن الذاكرة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net