نادرة أنا.. نلت الفخر بجميع لغات الأرض وأهل السماء،
العالم يشهد لي بما ملكت من إرادة صلبة وصمود فوق الوصف، ولي رباطة جأش حيرت التواريخ، وأرعبت بعزمي ميادين الحروب، اقتحم الجيوش معه والسهام تطاردني وتجعلني هدفا.
مثقلة بالهموم والنكبات حزنا، حملت الكثير من مزاياه سلام الله عليه، ولادتي عجيبة أو هكذا شاء لي الزمان أن أولد معه.
مر مولاي على محل دباغة الحاج يعرب صاحب دكانة الجلود بهيبة معصوم، فهو أمير المؤمنين عليه السلام، يوصيه بخياطة قربة لها مميزات خاصة أن تكون بمميزات عنفوان الجود ومهابة الوجد والوجدان، وأن تكون بسم الله قرينة منهل قمر بني هاشم، لهذا أنا ولدت له، وخلقت من أجله وأدركت حينها مميزات النعيم
علقوني على جدار قريب من المهد، أول مولود جديد للسيدة أم البنين، ازدهرت يثرب وأشرقت الدنيا بوالدته وأنا كنت كظله لا أغادر مهده، أشعر بموجات من الفرح مع بهجة أي فرد من الأسرة العلوية وعشت فرحة الحلم الذي تحقق وأنا معلقة على مهده كنت أنتظر الولادة وحين أخبروا أمير المؤمنين بولادة العباس تناوله من المهد وراح يقبله وأجرى عليه مراسيم الولادة الشرعية أذن في أذنه فسرى الأذان في أذني اليمنى وأقام في اليسرى.
رفعني الإمام عليه السلام وأخذ من قلبي الماء ليغسل وجهه رددت معهم (الله اكبر) ... (لا اله الا الله)
أدركت حينها أن هذه هي رسالة الأنبياء وأنشودة المتقين، ومن الطبيعي أن أكون محسودة من كل قراب الكون، أي قربة أو جود يحلم بالنعيم الذي أعيش فيه، أغافل أمه أم البنين عليها السلام أحيانا وأناغيه وأقبله، أقبل وجنتي حبيبي العباس، وفي اليوم السابع أخذوه، أبعدوه عني فحزنت كثيرا، لكنني سرعان ما اكتشفت أنهم أخذوه ليحلقوا شعره ويتصدقوا بوزنه ذهبا ويوزع على المساكين
لاحظت مولاتي أم البنين أني أتنفس مولاي العباس عليه السلام، استغربت هل لهذه القربة روح؟
هذا السر لا يدركه إلا الله وصاحب الدباغة (الحاج يعرب) هو يعرف من أي الجلود مصنوعة أنا، هو الذي يدرك سر حياتي، سعادتي الحقيقية حين أرويه، صرت أدرك أنني لا أختلف كثيرا عن البشر، لي قلب ومشاعر وأحاسيس وروح، ليس لدي ما أفكر به سواه، ما أن يلامس الماء شفتيه اشعر بتأثير عجيب على كل كياني، هل تلك المشاعر ممكن أن تمتلكها القراب؟
أم هذه هي خاصة بقربة أبي الفضل العباس عليه السلام؟
أم تراها خواطر عابرة تمر برأس قربة ليس إلا، أحيانا أناغيه، (اغوه) مولاي فيجيب كم جميل هو العمر معك، لحظة يعطش العباس، يهتز كل كياني، تثور أعصابي، حتى لم أعد أمتلك نفسي، يبدو أن هناك خلايا عصبية في قلبي مشحونة باليقظة حين يعطش تنقبض عضلات القلب وأصرخ من وجع:
ـ العباس عطشان
أتمنى أن أنزل من الجدار لأسقيه، الشيء العجيب والغريب فعلا في حكايتي، أني أطلقت عليه أسم العباس قبل أن أعرف أن مولاي أمير المؤمنين سماه العباس!
والعباس يعني كما عرفت من أهل البيت عليهم السلام إنه عبوس في وجه المنكر والباطل.
ما أن يخلص الماء تهب لي مولاتي أم البنين فتملاني كي أكون ندية مروية لحظة يعطش العباس، أفرح حين أسقي كل أهل البيت وأشعر أن دقات قلب العباس تغتسل في، فأوسع له القدر، يمتلك البهاء الندي ملك القلب، هو جميل جدا، أرى صورته آية من آيات الجمال لذلك لقبوه بالقمر، قمر بني هاشم، أنا قبل الناس كلهم وكنت أدري أنه صاحب مقام وكرامة، ما أن يقصده إنسان بحاجة بنية خالصة إلا قبل الله له حاجته أنا أحدثكم عن المهد وطفل المهد.
عرف الناس كرامة هذا الوليد، تأتي النساء بأولادهن للتبرك من ماء العباس، وكم كان يفرح العباس وهو في مهده حين يشرب الأطفال الضيوف مني، إلى أن يرتوون، لهذا أنا أول من عرف قوة هذا الجود، ورحمة الله ادركت أنه باب من أبواب الله سبحانه وتعالى، وسيلة من وسائله، والجميع أدرك سر العلاقة بيني وبين العباس، يتبركون بماء العباس، صرت أحب حياتي معه وأشعر أني أكبر معه، صار يناغي ماما... بابا... ويناغيني يا قربتي يا فرحتي يا جودي، نعم.. لأكثر من مرة سمعته يناغي قربتي فأجيب، أتخيله وهو ينهض من المهد يروي أطفال الضيوف ويعيدني إلى الجدار ويعود، المعروف أن القراب تصنع من جلود الحيوانات، فأي حيوان سعيد الحظ ولدت أنا من جلده، قربة ترى وتسمع وتحس وتشم وتفهم معنى الألم - معنى اللذة، ولي ضوء من ضوء النجوم، قلب لا ينام فأنا أعطف عليه بالصحو والمنام
ملامحه بارعة من صور الجمال، متكامل الجسم أقرأ فيه أثار البطولة والشجاعة كان في المهد وسيما.
أرى أشياء تسعدني للغاية حتى صرت أؤمن بأني أسعد قربة صنعها الدباغ الحاج يعرب، أرى مولاتي أم البنين وهي تترنم بتعويذة ترقيه من عين الحساد، أكرر معها بما يمتلك قلبي من حنين.
أعيذك بالواحد... من عين كل حاسد
قائمهم والقاعد... مسلمهم والجاحد
صادرهم والوارد... مولدهم والوالد
كان مولاي أمير المؤمنين سلام الله عليه، يحملني بيد ويحمل العباس بيد أخرى وأحيانا ينزلني من الجدار لينيمني بالمهد مع العباس،
يقبل يديه وهو يبكي، تساله مولاتي أم البنين عليها السلام: ـ ما يبكيك؟
يجيبها بصوت حزين نظرت إلى كفيه تذكرت ما سيجري عليهما في الطف، تسأله أم البنين بلهفة ماذا سيجري مولاي؟
يجيبها بأسى سيقطعان من الزند.
حين سمعت الخبر لم أتحمل الصدمة، دارت الدنيا بي، وكأن الجدار سقط على راسي أو أنا التي سقطت من الجدار، صرخت من الألم والماء تبدى في الغرفة، أنها مدامعي يا سيدتي وانتبهت وإذا بي قد بللت الغرفة حتى تغرق، الماء الذي تبدى لحظتها أكبر من سعتي راحت تواسيني تمسح دمعي من على أرضية الغرفة وتهدأ نشيجي..
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat