صفحة الكاتب : محمد قاسم الطائي

كلمة حول سبايا بيت النبوة
محمد قاسم الطائي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

كانت واحدة من أشد مآسي الطف المفجعة ذات الشجن الأكثر مصاباً ولوعة على قلب بيت النبوة هو ذاك سبي العائلة المرير، العائلة النبويّة التي فقدت حامي الذمار وابن حامي الحمى بمعيّة ثلّة من آل بيته وأنصاره الأوفياء الذين هم خيرة وجه الأرض فضلاً وعلماً وجلالاً صمدوا لله حتى خُضلت وجوههم الزاكيّة بالدماء وقُطعت أجسادهم الشريفة تحت حوافر الخيول، بمشهدٍ فجيع لا شيء يشبهه، بكى فيه الحجر والمدر، بل بكى قلب السماء عليهم قبل أهل الأرض لهول المصاب والفاجعة الكبرى، ولم تسلم حتى جثامينهم الطاهرة من سيف التقطيع والتمثيل والتشويه الفضيع، لأجل ماذا ذلك يا ترى؟! ولأجل منْ هذه التضحيات العظام التي ليس يشبها شيء في إخلاص التضحية والعطاء؟!

بخطوات مطمئنة قد كان كل ذلك قرباناً لله وإبقاءً لروح الإسلام ونهجه الشريف. أجل بأرض الطف انكسفت شمس الامامة وانخسف وجه القمر حتى ذهبت كفّاه على نهر العلقمي، وكانت شاهدة لما جرى، قبل ذلك لما وصل ذلك القمر الباسل صدر شريعة الفرات، بحسب زبر التاريخ الغابر قد فرق جمعهم وفلّ عتاتهم وحزمهم بل وشتت عزمهم بضرباته الهاشمية الصارمة، وقد تناخت عليه الرجال من كل جانب وهو ابن بجدتها لم يحفل بجمعهم المصطف ، قد دفع تلك الزمر المرابطة عن حدود الفرات، ولما وصل حياض النهر الطافح قد كان حينها عطشاناً ظمئاناً تذكر بهذه اللحظات الفارقة عطش أبي الضيم عطش أخيه الحسين - عطش أولئك الأطفال والقلوب الملتهبة التي تركها في الخيام، لم يطق أن رمى الماء من يده إجلالاً وإيثاراً منه ولم يذق قطرة واحدة منه!

بالله عليك أرأيت هكذا قمر؟! أرأيت هكذا حُب وصلابة وإيمان وتفاني في الدين؟! أرأيت هكذا إيثار وشهامة منقطعة النظير ؟! عجيب أنت أيها القمر! كنت مدهشاً في كل شيء حتى في غيابك عن سبايا بنات النبوة، كنت مدهشاً يا فارس الهواشم حتى في إيثارك الفذ، لا أدري ماذا جرى وماذا حصل بتلك اللحظات الحرجة، سقوط القربة بجانب وقطوع الكفوف بجانبٍ آخر لدى غمرة الوغى؛ أجل بعد ذلك لم يستطع سيد الفواضل النهوض، وقد أُريق ماء القربة وإزاء شطر وجهه المبارك توالت عليه السهام حتى انطفأت عيناه وحال وقوعه المدوي دون أرض الخيام!

فيالله ولهذا الايثار المذهل! ويالله ولعظمة الدين المبين! ويالله وللشهامة الهاشمية الباسلة؛ بلى أُحرقت خيامهم بغيّاً وظلماً، وأمست عوائلهم بلا راعٍ وكفيل تحت سياط الطلقاء وأبناء الطلقاء وسارت تلكم النسوة والأطفال في رعاية شرار خلق الله على النياق الهزل، ومشاهد أخرى ينقطع القلب لذكرها نطوي عنها كشحا، والصبر على هاتا أحجى، ويبقى في الحلق شجى ومرارة، وبالعين دمع وقذى، وبالقلب أوجاع وحسرات، سيظل الحديث عن سبايا آل محمد ذو شجونٍ وشجون، إذ مرت العيال الكريمة بعد استشهاد صاحب الطف (صلوات الله عليه) بصنوفٍ من المحن من حيث السلب وإضرام النار والذعر الذي لاقوه على أيدي أعدائهم .

أأنسى دماءً قد سفكن وأدمعــاً
سكبن وأحراراً هُتكن من الحجب

أأنسى بيوتاً قد نُهـبن ونـسوةً
سُلبن وأكباداً أُذيـن من الرعب

أأنسى اقتحام الظالمين بيوتكم
نـزوع آل الله بالضـرب والنهب

أنسى اضطرام النار فيها وما بها
سوى صبية فرّت مذعرة السرب(١)

روى الشيخ الصدوق (ت: سنة٣٨١هــ) عن عبد الله بن الحسن المثنى عن أمّهِ فاطمة بنت الحسين (عليه السلام) وهي تروي بعض وقائع الطف التي شاهدتها، قالت:« دخلت الغاغةُ [ يعني الناس الكثيرةُ والمختلطة يوم العاشر من محرم] علينا الفسطاط، وأنا جارية صغيرة، وفي رجــلي خلخالان من ذهبٍ، فجعل رجلاً يُفض الخلخالين من رجلي وهو يبكي! فقلت: ما يبكيك يا عدو الله؟! فقال: كيف لا أبكي وأنا أسلبُ ابنةَ رسول الله؟! فقلت: لا تسلبنّي قال: أخاف أن يجيء غيري ّفيأخذه، قالت: وانتهبوا ما في الأبنية حتى كانوا ينزعون الملاحف عن ظهورِنا »(٢)

لا يخفى تعددية الأقوال في أسباب حمل الحسين (عليه السلام) لعيالاته الكريمة معه، بمعنى ما هو السر الداعي لأصطحاب النساء والأطفال في مسيرته نحو العراق، الأقوال بهذا المجال كثيرة والأقتصار على أهمّها أرجح بشكل مجمل من هذه الأقوال: الحفاظ عليهم وتأمينهم من الخطر الاُموي المحدق بهم في حال لو أبقاهم في المدينة فكان الأنسب والأصلح إخراجهم معه، وإلاّ لكانت أسرته عرضة للمخاطر والضغوط التي يمكن من شأنها إجهاض ثورته المباركة من قبيل وقوعهم بالأسر تحت أيدي الأًمويين، بالتالي ذلك يشكل ورقة ضغط على الامام كي يسلم نفسه إليهم أو قد يتم عرضهم للإبادة الجماعية خصوصاً إذا عُرف أن السلطات الاُموية لا تتورع عن مثل ذلك، ولهذا اصطحبهم (عليه السلام) معه للعراق حرصاً منه على سلامتهم وحفظاً لمشروع الثورة . ثانياً : أن مقتضى الحكمة الالهية حمل العيال والأسرة الكريمة معه لما في ذلك من مصلحة كبيرة مترتبة بعد شهادته، وقد قال (عليه السلام) " إنّ الله قد شاء أن يراهنّ سبايا"(٣) وهذا بنفسه إكمال للثورة الحسينية .ثالثاً : الدور التبليغي والإعلامي لهذه العائلة فإن فيها الحرائر الهاشمية التي علم أنّها يوصلن رسالة النهضة من خلال الخطب البليغة والحجج الدامغة .

الحقيقة من خلال عرض الابحاث السابقة أن مسألة أخذ العيال مرتبطة بعاملين لا يمكن التعارض بينهما ولا الفصل- العامل الأول : الحدث التاريخي، والعامل الثاني الجوهر العقدي المرتبط بمفهوم الامامة الالهية، فالعامل الأول مرتبط بمعطيات الواقع والأحداث السياسية التي مر بها الامام الحسين (عليه السلام ) بخصوص طبيعة الاحداث والضغوطات التي عايشها وتفاعل معها، وبهذا المنظور لا يمكن سلب المقتضيات الحاكمة على تلك الفترة بالتحديد من حيث الأسباب والنتائج المؤديّة، بينما العامل الثاني مرتبط بشخصية المعصوم ووظيفته التي يراها كخليفة إلهي مكلّف بصيانة الدين وحفظه وتبليغه للناس بالاسلوب الذي يراه، وهذا بذاته لا يتصادم أو يتعارض مع العامل الأول، بتوضيح أن القدر الثابت والمتيقن في السيرة التاريخية والنصوص المتواترة والمسلّمة أن معاملة النبي الأعظم (صلى الله عليه وآله) فيما يخص العرف آنذاك كانت جاريّة وفق مجالاته ودلالاته وشؤونه من حيث الأسباب الظاهرية الطبيعية، وليس بحسب العلم الواقعي إلا ما خرج بالدليل طبعاً وهذا بحث آخر، ومن مصداق ذلك أن بعض الآيات القرآنية نبهت أن بعض الناس عاملهم النبي بظاهر الاسلام، وأن كانت حقيقتهم حقيقة النفاق والكذب الفاضح كما اخبر الوحي بذلك :« إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ» وقال تعالى.. وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ»(٤) « وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ ۖ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ ۖ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لَا تَعْلَمُهُمْ ۖ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ ۚ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَىٰ عَذَابٍ عَظِيمٍ»(٥) والكلام عينه يجري مع أهل بيته الذي دلّ الدليل على عصمتهم وطهارتهم بمقتضى الآيات البينات والروايات المتواترة فهم صفوة هذه الأمة والأعلام المنيرة والهادية لشرع الاسلام، ومعنى جريان الكلام أيّ أنهم لا يخالفون السياقات الطبيعية والأسباب الظاهرية، وأن كان مؤدى علمهم الواقعي بخلافه وبصرف النظر عن حدود ذلك العلم وسعته إلا أن هذا هو الأصل المنسجم بحسب السائد من عرفهم وزمانهم وغير ذلك إلا ما خرج بالدليل .

وتطبيقاً لمسألتنا فإنّ خروج النساء والأطفال مع الركب الحسيني من هذا القبيل فقد تقدم ٦: أن الامام (عليه السلام) لم يعلن خطوة الذهاب للكوفة إلا بعد إلحاح الكوفيين كثيراً عليه وإرسالهم الكتب والوفود إليه بغيّة قدومه المبارك وتخليصهم من الجور الاُموي الذي عانوا منه لسنين تميزت بشتى الأساليب والمضايقات التي نهجتها سياسة معاوية وأعوانه ضدهم التي اذاقت بعضهم أصنافاً من التهجير والسجن وهدم الدور مضافاً للقتل الذي طال بعض أخيارهم كحجر بن عدي وعمرو بن حمق الخزاعي وغيره من خيار الشيعة، ومن ثمّ الامام بجميع المقاييس هو الأحق والأجدر بهذه الخلافة بحسب موازين الشرع والعقل والسيرة وإجماع المسلمين، وأن كان بحسب اعتقادنا أن الخلافة السياسية مرتبة من مراتب وظائف الامامة الالهية وليست كل المراتب والمهام المناطة به، وبهذا المفهوم المتقدم آنفاً دعاه أهل الكوفة للبيعة وتعهدوا له بالنصرة والبيعة والمتابعة، ووعدهم بالمجيء ومشروع الاصلاح الرسالي، والبوادر التاريخية مهما كان تفسيرها لا تلغي رؤية الامام الملهمة في تحديد الأصلح والظرف المناسب، ومن ثم هذه البوادر جعلت الامام (عليه السلام) أن لا يعرض بوجهه عنهم، ولا يستبدلهم ولا يختار غيرهم فهم الأولى من جميع الحيثيات بمنطق الحجة ومعطيات الواقع، وهذه الأولوية جمعتها مميزات عديدة غير موجودة في مكان آخر، قد ذكرنا بعضها فيما سبق- لهذا لو أن الامام تركهم لكان في معرض اللوم والمعاتبة وهو أجل وأسمى وأكمل من كل أصناف العتب والمؤاخذة، وبهذا اتم الامام الحجة عليهم بقطع كل الاعذار من خلال ارسال سفيره مسلم بن عقيل إليهم .
ومن ثم بعد ذلك تحرّك الركب الحسيني وفقاً لهذه المعطيات سواء كان التي يدركها الامام بوجوده الأقدس أو ما انتهت إليه مآلات الأمور، بكل الاحوال لا يمكن تفسير أن ذهاب الامام للكوفة كان من أجل الاقتتال والمحاربة واشعال نيران المقاومة فيها، كي يُقال لماذا أخذ النساء والأطفال معه، بقدر ما كان يعني عنده (سلام الله عليه) إقامة الهدف النهضوي المنشود ألا وهو الاصلاح والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ولذا قال: (إني لم أخرج أشراً ولا بطراً ولا مفسداً ولا ظالماً، وإنما خرجت لطلب الإصلاح في أمة جدي وشيعة أبي علي بن أبي طالب، فمن قبلني بقبول الحق فالله أولى بالحق، ومن رد علي هذا فالله يحكم بيني وبين القوم بالحق إنه خير الحاكمين)٧

وبدهي ذلك لا يحصل إلا بإقامة الحكم وترحيله عن أيدي الفاسقين والفجار، الذين نخروا جسد الأمة ومزقوا الإسلام شر ممزق، والمفروض ظاهراً حصول ذلك لما تمت البيعة لمسلم بن عقيل في بيت المختار الثقفي والرسائل المبشرة التي وصلته منه، على الأقل أن أجواء الكوفة كانت مهيأه لقدومه المبارك صلوات الله عليه، والكلام هنا في أصل مسألة الذهاب للكوفة بعنوانها الأولي لا بما طرأ عليها بعد ذلك لأسباب لست في محلها- وهذا المعنى طبيعي فيه يعني أخذ الأبناء والعيال والأصحاب بغيّة المشاركة في تحقيق هذا الهدف العال والسامي وهو هدف جميع الأنبياء والرسالات السماوية الحقة: (لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَيِّنَٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَٰبَ وَٱلۡمِيزَانَ لِيَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ)٨ ولما لم يتحقق هذا المشروع من الناحية السياسية كان لهذه المعطيات التاريخية حديث آخر . ولكن ذلك كله لا يتنافى مع مسألة علم الامام والأسرار المستودعة في صدره الشريف حول مآلات شهادته والمصلحة الكبرى التي أرادت لها السماء أن تكون، بمعنى :أن المشروع الحسيني كان يسير حسب معطيات الواقع التي انتهت به لهذه النتائج في حين أن مسألة علم الامام بشهادته والأمور الأخرى، بصرف النظر عن سعة ذلك العلم وحدوده هي مسألة منوطة بشخص الامام (عليه السلام) وهي لا ترفع اليد عن طبيعة تعامل الامام مع مقتضيات الاحداث والمواقف الواقعة في عصره، ولذا (عليه السلام) لم يقل للذين راسلوه وكاتبوه أنّه يعلم مصيره كذا وكذا، وبالتالي لا فائدة من كل هذه المحاولات المبذولة والجهود والمراسلات، فلم يثبت عنه قال ذلك أو توقف فهذا من قبيل القصاص قبل الجناية وهو لا يصح في قاموس علم الامام . كما ذلك لا يمنع من تقديم قراءة تمحصيّة للواقعة ومجرياتها التي مرت بها ، وبهذا المعنى يلاحظ أن بعض الأعلام كالشيخ النراقي وغيره لمّا ذهبوا بتفسير أسباب الواقعة وأحداثها بالنحو الغيبي ، وأن أخذ عيالاته كان من تكليفه الخاص، إنما كان بلحاظ اختزالهم للعامل الثاني دون الأول وهو لا يعطي- بطبيعة الحال- تفسيراً متكاملاً لحيثيات الواقعة التي منها أخذ العيالات الكريمة، كما أنّ ذلك لا ينسجم مع مقتضى الطبيعة الأرضية والمواقف التاريخية الثابتة التي نصت حول مشروع حركة الامام الحسين (عليه السلام) وهو لم يكن بأيّ حال إعجاز أو خرق لقانون الحياة العام، مضافاً لذلك خلو الرسائل والكتب التي تداولت في المدينة أو قل الرسائل والخطب والنصائح التي قالها الامام في جميع المواطن التي مر بها حتى وصل أرض كربلاء، ولو كان ذلك المعنى موجوداً لبان ما عدا روايات بعض الكتب المتأخرة والتي فيها ضعف فضلاً عن قيمة ترجيحها على المصادر التاريخية المعتبرة .

وقد يُقال كيف يمكن تعقل ذلك بلحاظ حيثية علم الامام، ومسألة إدراكه لمآل شهادته (صلوات الله عليه وسلامه) وبين أصل مجاراته مع الأسباب الطبيعية والذي أدى ذلك لحمل العيال معه كيف يمكن تصور ذلك ؟!

قلت لا وجه للمانعة ولعدم التعقّل بلحاظ عظمة الأهداف والخطورة المترتبة عليها من حيث الآثار والثمرات المعقودة بها، والتي تصب كلها في خدمة إحياء الدين وتنبيه الأمة على التمسك بدينها وعقائدها والبراءة من وجوه الكفر والنفاق وكل قوى الظلام التي شلّت حركة الأمة، ومن هنا فإن نهضة سيد الشهداء هي نهضة بكل ما للكلمة من معنى لإيقاظ ضمير الأمة نحو قيمومة الدين الحق وتخليصه من براثن الفسق والفجور التي شوهت وجه الدين المشرق، كما أن هذه القيمومة الدينية لا تكون إلا بقيادة المعصوم المسدد، وبالتالي سواء كان بلحاظ مجاراة الأسباب أو بلحاظ مسألة علم الامام كلاهما سواء ما دام مؤدى ذلك هي إبقاء الدين وإحياء نهجه الحقاني وهذا ما حصل، كما أن نهضة الامام كانت الجمرة والمنطلق لكل الحركات والثورات الشعبية الغاضبة والتي اسقطت فيما بعد الحكم الأموي .

وبهذا اللحاظ يتضح زيف الشبهة القائلة إذا كان الامام لا يعلم فهذا معناه انتفاء العصمة التي تقولون بها، وأن كان يعلم فقد أخذ أبناءه وأصحابه لمقاصل القتل والموت، وقد عرفت ما تقدم أن الأمر ليس كذلك، وليس بهذه السهولة المزعومة فالعصمة والعلم والمقامات الكمالية الأخرى محفوظة بأشد درجات الحفظ والمراتب، وإنما منشأ الشبهة جاءت نتيجة عدم التفرقة بين الأثنين فلاحظ .

وبهذا المعنى يمكن حمل نصائح ومقترحات أولئك الذين اقترحوا على الامام بعدم الذهاب للعراق كإبن عباس ومحمد بن الحنفية وغيرهم على المعنى الأول دون الثاني، وأن كانت من منطلق التوجس والخوف على شخص الامام إلّا أنّها كانت محدودة من حيثية تجاربهم ورؤاهم والمناشىء التي قاسوا عليها نهضة الامام (عليه السلام)، ولذا تقدم سابقاً أن السيد المرتضى "قدس" عدّها من باب الأمارات التي هم رأوها وليس كذلك كانت في منظور الامام، قال "قدس":« وأما مخالفة ظنّه (عليه السلام) لظن جميع من أشار عليه من النُّصحاءِ كابن عباسٍ وغيره، فالظّنون انما تغلب بحسبُ الامارات، وقد تقوى عند واحدٍ وتضعفُ عند آخر، لعلّ ابن عباس لم يقف على ما كوتب به من الكوفة، وما تردد في ذلك من المكاتباتِ والمراسلاتِ والعهود والمواثيق»(٩)

وأما مسألة أن الامام (عليه السلام) أخذ عيالاته من باب الخوف عليهم من المخاطر الاُموية بحال لو أبقاهم في المدينة، فهي وإن كانت معقولة وممكنة إلا أنها ضعيفة من هذه الجهة بالخصوص لوجود المعارض الأقوى مضافاً أن المعطيات التاريخية لا تساعد عليها . فقد روى الشيخ الشيخ الصدوق وابن شهر آشوب عن الامام الحسين (عليه السلام)" أن القومَ يطلبونني ولو ظفِروا بي لما طلبوا غيرِي "(١٠) وهذا المقطع الروائي قد تكرر أكثر من مرة في كلماته بل حتى قالها ليلة العاشر من محرم لأصحابه وأهل بيته مما يستشف منها أن مسألة الدافع الأمني، وأن كانت مطلوبة لدى الامام، لكن لم تكن بهذه الدرجة والأهمية الباعثة خصوصاً إذا لاحظنا إزائها كثرة المخاطر المضعفة لهذه المسألة مع إمكان قدرة التخلّص .وثانياً : لو كان كذلك كان بإمكانه (عليه السلام) إرجاعهم للمدينة أو أي مكان آخر ولو مع بعض أهل بيته وأنصاره حين وصول خبر مقتل مسلم بن عقيل وهانىء بن عروة و قد علم بتفرق الشيعة الذي انتهى أمرهم بين جليسٍ وسجين وضعيف لا يقدر على مناصرته، فأين الأمن الذي يمكن ضمانه للنساء والأطفال كما يدعى؟! ومن ثم إذا كانت مسألة حمل العيال بهذه الدرجة المذكورة بالشكل الذي ألحّ على الامام بدافع أمنهم وحفظهم من المخاطر المحدقة، كان بإمكان الامام (عليه السلام) وضعهم في مكان أكثر أماناً وبُعداً عن الانظار لا أن يأخذهم معه وهو يعلم أنّه مقتول لا محالة خصوصاً لما تضح ليس بالمستطع -حسب الظاهر- الدخول للكوفة، وقد بات موقف المجابهة أقوى من السلامة، ومن ثم الامام (عليه السلام) مر بمواطن عديدة وتكلّم فيها وخطب- كما هو الثابت عنه - وحتى لما التقى بعمر بن سعد وجرت المفاوضات بينهما لم تكن مسألة أمن العيال مطروحة كخيار لدى الامام ولم يثبت ذلك عنه؛ نعم روت بعض كتب المقاتل أنّه لما كان في ساحة القتال قال: « أنا الذي أقاتلكم و أنتم تقاتلونني، و النساء ليس عليهن جناح، فامنعوا عتاتكم و جهّالكم عن التعرّض لحرمي ما دمت حيّا» وطبيعي التوجس في مثل هكذا موقف حرج، فالاستشعار بهذا الحال يمكن أن يدركه كل إنسان غيور فضلاً عن الامام الذي كله حنان ورأفة وغيرة وشهامة لا شبيه لها ولا مثيل بالتالي لا خصوصية للمعنى المذكور .

أما النتائج البعديّة المترتبة حول خروج سبايا آل محمد لا شك أنها كانت ثورة متأججة في ذاتها من نوعٍ آخر، أنها ثورة الحق المهضوم - ثورة الامام المذبوح، ثورة المظلومية الهاتفة في ضمائر المسلمين وقلوبهم التي تجلت بمقتل سبط النبوة وآل بيته وصُحبه الأخيار، وبذلك أيّ مصيبةٍ عظمى قد مُني بها الاسلام وأهل الاسلام!

بَيدَ أن فاجعة سبي نساء بيت النبوة كانت الوجه الأكثر حزناً ومأساة لمآلات هذه الواقعة، بل أن فاجعة السبي كانت المحرك لهذه المظلومية، ولولا ذلك لكانت في مطاوي الماضي الذي لم يذكر، ولأصبحت في سجل الاخبار المندثر، وكم لذلك من نظير في غابر الأحداث السالفة .

بلى، وبعد أن وصلت السبايا للكوفة ومعهن الرؤوس الشريفة قد جاءوا بهن قسراً الزمر الأموية والايفاد بهن لأميرهم الفاجر بغيّة التشفي والتشمت بما جرى على بيت النبوة، ذكر الشيخ المفيد في كتاب (الإرشاد) قال: (وأُدخِل عيالُ الحسين(عليه السلام) على ابن زياد، فدخلت زينب أخت الحسين في جملتهم متنكّرةً وعليها أرذل ثيابها، فمضت حتّى جلست ناحيةً من القصر، وحفّت بها إماؤها.
فقال ابن زياد: من هذه التي انحازت ناحيةً ومعها نساؤها؟! فلم تُجبْه زينب، فأعاد القول ثانيةً وثالثةً يسأل عنها؟ لما سألها اللعين عبيد الله بن زياد: كيف رأيتِ صنع الله بأخيكِ؟!
فقالت: ما رأيتُ إلّا جميلاً، هؤلاء قومٌ كتب الله عليهم القتل، فبرزوا إلى مضاجعهم، وسيجمع الله بينك وبينهم فتحاجّون إليه وتختصمون عنده، فانظر لمن الفلجُ يومئذٍ، ثكلتك أمّك يابن مرجانة!!

وهنا وقفت بطلة كربلاء بنت حامي عرين الاسلام بخطبٍة غراء صاعقة قد ايقظت فيها العقول والقلوب حول فداحة وعظمة هول الفاجعة .

في الختام

قال بشير بن خزيم الأسدي:« ونظرتُ إلى زينب
بنت علي يومئذٍ فلم أرَ خفرة قط والله أنطق منها، كأنّها تفرع من لسان أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام)، وقد أومأت إلى الناس أنِ اسكتوا فارتدّت الأنفاس وسكنت الأجراس، ثمّ قالت: الحمد الله والصلاة على جدي محمد وآله الطيّبين الأخيار..»(١١) إلى أن قالت وهي تقرع جموع الناس بكلمات تهتز لها الجبال الأشم ومعانٍ توحيدية مثكلة تأخذ بسمو الألباب والأرواح، قد انهالت عليها العيون بالنحيب والبكاء

أتبكون وتنتحبون؟! إي والله فابكوا كثيراً،
واضحكوا قليلاً فلقد ذهبتم بعارها وشنارها، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً، وأنّى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة، ومعدن الرسالة، وسيّد شباب أهل الجنة، وملاذ حيرتكم، ومفزع نازلتكم، ومنار حجّتكم، ومدرة سنتكم.

ألا ساء ما تزرون وبُعدًا لكم وسُحقاً، فلقد خاب السعي، وتبّت الأيدي، وخسرت الصفقة وبؤتم بغضب من الله، وضُربت عليكم الذلّة والمسكنة .

ويلكم يا أهل الكوفة، أتدرون أيّ كبدٍ لرسول الله فريتم؟! وأيّ كريمةٍ له أبرزتم؟! وأي دمٍ له سفكتم؟! وأي حرمة له انتهكتم؟! لقد جئتم بها صلعاء عنقاء سوداء فقماء [وفي رواية أُخرى] خرقاء شوهاء كطلاع الأرض أو وملاء الأرض .
أفعجبتم أن مطرب السماء دماً، ولعذاب الآخرة أخزى، وأنتم لا تنصرون، فلا يستخفّنكم المهل، فإنّه لا يحفزه البدار ولا يخاف فوت الثأر، وإنّ ربّكم لبالمرصاد
قال الراوي: فوالله لقد رأيتُ الناس يؤمئذ حيارى يبكون، وقد وضعوا أيديهم في أفواههم، ورأيتُ شيخاً وافقاً إلى جنبي يبكي حتّى اخضلّت لحيته وهو يقول: بأبي أنتم وأُمّي كهولكم خير الكهول، وشبابكم خير الشباب، ونساؤكم خير النساء، ونسلكم خير نسل، لا يخزى ولا يبزى».:(١٢)

_______________
١- الأبيات للشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، انظر مجلة الأصلاح الحسيني العدد الرابع، ص٢٠٥

٢-الأمالي للصدوق ص ٢٢٩

٣- اللهوف في قتلى الطفوف ص ١٢٩

٤- سورة المنافقون -آية: ١، ٤

٥-سورة التوبة -آية :١٠١

٦- بحث لم ينشر لكاتب السطور حول أهداف الامام الحسين عليه السلام

٧- بحار الأنوار ج٤٤/ ص ٣٢٩

٨- سورة الحديد آية ٢٥

٩- تنزيه الأنبياء ص ٢٢٩-٢٣٠

١٠- الأمالي للصدوق ص٢٢٢- وأيضاً جاء في تاريخ الطبري ص٣-٣١٥ وفي البداية والنهاية ج٨-ص ١٩١

١١- اللهوف في قتلى الطفوف ص١٩٣-١٩٤

١٢-المصدر السابق
 


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


محمد قاسم الطائي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/07/18



كتابة تعليق لموضوع : كلمة حول سبايا بيت النبوة
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net