فاطمة أم أبيها؟ تذكّر بمناسبة مولد السيدة الزهراء عليها السلام
محمد الرصافي المقداد
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد الرصافي المقداد

أردنا أن نتحدّث في مجال الفضائل والمراتب بين الجيل الأول من المسلمين، فإنّنا سنواجه أحاديث صحيحة، صرّح بها النبي صلى الله عليه وآله، وبنى عليها العارفون اعتقاداتهم، في مقابل روايات غريبة، مثيرة الرّيب في مضامينها، لكنّها بقوة السلطان الأموي وجدت من اعتبرها حقيقة صادرة عن الوحي، بينما هي وهْمٌ مُخترعٌ، جاء به وعاظهم، ليكون لهم ذريعة يرفعونها، من أجل بقاء سلطانهم قائما على رقاب المسلمين بالظلم والعدوان، وطمس حقوق الأولياء الحقيقيين الواجبة مودّتهم على جميع أجيال الأمة الإسلامية.
كتابتي اليوم على سيّدة اصطفاها الله سبحانه، لتكون أمَتَهُ الصالحة بين نساء خلقه، فيتّخذون منها ومن سيرتها قدوة، تأخذهم إلى طاعته ورضوانه، عُرفت بألقاب عديدة منها الزهراء، ومنها البتول، ومنها الصدّيقة، ومنها المحدَّثّة، ومنها الطاهرة، ومنها سيدة نساء العالمين، ولعلّ أهمّ هذه الألقاب لقب أمِّ أبيها، فمن أخّرها عن مقامها جاهلا أو متعمّدا، مدّعيا قلّة ما جاء بشأنها من سيرة وأحاديث خاصة بها، فليس معذورا أبدا، فما جاءنا عنها على قلّته، كاف لوضعها موضعها الذي تستحقّه في الأمّة، فيكفي أن أقول إنّها تربية أبيها وتلميذته الأولى من النساء، واستحقّت بعد ذلك أن تنال مقاما انفردت فيه مع أمّها، قال بشأنهما النبي صلى الله عليه وآله: (كمُل من الرجال كثير، وكمُل من النساء أربع، هنّ أسيا بنت مزاحم امرأة فرعون، ومريم بنت عمران، وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد.)(1)
أضاءت كنور بهر من رآها، وتعرّف على مخزون علمها ومنطقها في جيلها ومجتمعها، ومع ما كانت تحظى به من إكبار وتبجيل من أبيها، وهو نبي الله ورسوله إلى العالمين، لم تجدْ بعده سوى الاستهانة والتأخير، فلم يراعى لها شيء تقريبا، وغصبت حقوقها في ميراثها من أبيها، بعدما غصب حق زوجها علي بن أبي طالب وما أدراك ما عليّ، في ولايته على الأمّة قاطبة، منتهزين فرصة انشغاله في تجهيز أخيه خاتم الرسل صلى الله عليه وآله، فعقدوا عقودهم وتحالفوا على صرف الحكم عنه، وانتهى أمره إلى ما تمخضت عنه أحداث سقيفة بني ساعدة.
كلمحة ضياء خاطفة مرّت على جيل عرفها، لكنّه لم يكن مقدّرا حقّها، وحقّ زوجها وابنيها أئمة الهدى عليهم السلام، لكنّ ما نُقِلَ عنها كان كافيا لإظهار مقامها العالي، والعصيّ على أن تدركه غيرها من النساء، أمّا مظلوميتها، فحجّتها التي ألقتها على المسلمين في مسجد أبيها، أخرج من ادّعى عليها وتطاول على مقامها، من الصّادق إلى مقام المُفتري الكذّاب، لو عقل خطبتها عميان القلوب، ولكن أنّى لمن عمي قلبه أن يعي احتجاج امرأة طهّرها الله فأنزل بشأنها: (إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا) (2) وقال بشأنها أبوها: (فاطمة بهجة قلبي، وابناها ثمرة فؤادي، وبعلها نور بصري، والأئمة من ولدها أمانتي، والحبل المدود، فمن اعتصم بهم فقد نجا، ومن تخلف عنهم فقد هوى) (3)
من قال من ابنته المُجمّع على حقيقة بنوّتها؟ قيل له: إنها فاطمة وحدها فقط وغيرها ممن ألصق ببنوّته مجرّد ادّعاء، فلا تعدو بقيّة البنات عن كونهنّ ربيباته من هالة أخت خديجة، ومن قال من أحبّ النساء إليه إجمالا؟ لم يُمهلهم الجواب عن التيه في البحث، فقد أجراها أبوها سيرة وسلوكا قبل أن ينطق بها، وجرَتْ في فهم وقناعة من عاشروا النبي صلى الله عليه وآله، وقد سألتْ عمّة جميعٌ بن عمير عائشة: من كان أحب إلى رسول الله صلى الله عليه وآله؟ فقالت: فاطمة عليها السلام قلت: إنما أسألك عن الرجال، قالت: زوجها، وما يمنعه؟ فوالله إن كان ما علمت صواما قواما جديرا أن يقول بما يحب الله ويرضى. (4)
وقد سأل على عليه السلام النبي صلى الله عليه وآله يوما فقال: يا رسول الله أنا أحب إليك أم فاطمة؟ فقال: أنت عندي أعز منها، وهى أحب منك (5)
محاولات التغطية على مظلومية السيدة فاطمة عليها السلام وصل إلى الكذب والتلفيق، وكان مفضوحا ومكشوفا، لا يقبله عاقل، بإمكانه التمييز بين ما هو مفترى، يراد به تضليل عامة المسلمين، وصرْفِهم عن منزلة أهل البيت عليهم السلام، وبين ما هو واقع من كون منزلة هذه السيدة الجليلة، لا ترقى إليها امرأة أخرى، سوى أمّها السيّدة خديجة عليها السلام، فلا الرواية التي حرّ فها نهج بني أميّة - وقد أوردناها صحيحة في أوّل المقال- جاء فيها: (كَمَلَ مِنَ الرِّجالِ كَثِيرٌ، ولَمْ يَكْمُلْ مِنَ النِّساءِ إلَّا مَرْيَمُ بنْتُ عِمْرانَ، وآسِيَةُ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ، وفَضْلُ عائِشَةَ علَى النِّساءِ كَفَضْلِ الثَّرِيدِ علَى سائِرِ الطَّعامِ)(6) وأي فضل لعائشة أمام خديجة عليها السلام؟ فضلا عن فاطمة سيدة نساء العالمين؟ وما وجه المقايسة هنا بين الثريد وسائر الطعام، حتى يمكن اعتباره صحيحا؟ وهل يصح من النبي صلى الله عليه وآله مثل هذا القول والقياس، على ما يحتمله من تهمة دسّ، ليس من عادته اتخاذه أسلوبا لبعده عن الإستدلال المنطقي؟ ومع وجود الحديث الصحيح، الذي اورته في أول مقالي، فضح الوضّاعين وكشف مدى جناية الأفاكين على النبي صلى الله عليه وآله بالأقوال العاطلة، فلا مجال لهذه الرواية أن تصمُدَ أمام الحديث الصحيح، الذي برهن على منزلة شخصيات من اصطفاهم الله، وجعلهم حملة آدابه وأحكامه وحفظة دينه، وأثبت أن كل تلك التحريفات والتزييفات، كانت من صنائع معاوية، والأساس الأول في كلّ ما وقع تحريفه، خصوصا في ما اطلقوا عليه من باب الفضائل.
ولنا فيما صرّحت به عائشة نفسها، رغم اعترافها بغيرتها من خديجة، وقذفها لها وهي ميّتة، في بيان فضل سيدة نساء العالمين كفاية لمن يعي: عن عائشة قالت: استأذنتْ هالة بنت خويلد أخت خديجة، على رسول الله، فعرف استئذان خديجة فارتاع لذلك، فقال: اللهم هالة. فغِرْتُ فقلت: ما تذكر من عجوز من عجائز قريش، حمراء الشدقين، هلكت في الدهر أبدلك الله خيرا منها؟ فتغير وجهه عليه الصلاة والسلام، وزجر عائشة غاضبا: والله ما أبدلني الله خيرا منها، آمنت بي حين كفر الناس، وصدقتني إذ كذبني الناس، وواستني بمالها إذ حرمني الناس، ورزقني منها الله الولد دون غيرها من النساء. (7)
إنّ من نقل روايات باطلة مدّعية صرْفَ حبّ النبي صلى الله عليه وآله إلى غير فاطمة وعلي عليهما السلام، وهي مفضوحة في مقصدها الأموي، الذي أسّسه معاوية، القاضي بصرف فضائل عن أهل البيت عليهم السلام، ونسبتها لغيرهم، تهوينا للمسلمين بحقوقهم، وحجب ما تعلّق بحياتهم مع النبي صلى الله عليه وآله، وصرف فضائلهم والصاقها بغيرهم، عمل سياسي خبيث، أراد منه مقترفوه استنقاصهم، مقابل الرفع من شأن من غصبوهم حقهم في قيادة الأمة الإسلامية الناشئة، بعد رحيل النبي صلى الله عليه وآله.
فقد جاء في كتاب الأحداث للمدائني: (ثم كتب معاوية إلى عماله أن الحديث في عثمان قد كثر وفشا في كل مصر وفي كل وجه وناحية، فإذا جاءكم كتابي هذا فادعوا الناس إلى الرواية في فضائل الصحابة والخلفاء الأولين، ولا تتركوا خبرا يرويه أحد من المسلمين في أبي تراب إلا وتأتوني بمناقض له في الصحابة، فإن هذا أحب إلي وأقر لعيني وأدحض لحجة أبي تراب وشيعته وأشد إليهم من مناقب عثمان وفضله. فقرئت كتبه على الناس فرويت أخبار كثيرة في مناقب الصحابة مفتعلة لا حقيقة لها، وجد الناس في رواية ما يجري هذا المجرى، حتى أشادوا بذكر ذلك على المنابر، وألقي إلى معلمي الكتاتيب، فعلموا صبيانهم وغلمانهم من ذلك الكثير الواسع ،حتى رووه وتعلموه كما يتعلمون القرآن، وحتى علّموه بناتهم ونساءهم وخدمهم وحشمهم، فلبثوا بذلك ما شاء الله.) (8)
ما استخلصناه -على قلّته- من سيرة النبي صلى الله عليه وآله بخصوص علاقاته بابنته فاطمة الزهراء عليها السلام، يؤكّد انفرادها بخصوصيات لم تتحمّلها فيها بعض نسائه، فركبتها غيرة فتّاكة، حادت بها وبغيرها عن واجب مودّتها، وقد جاء في السيرة عن عائشة قولها: ما رأيت أحدا كان أشبه سِمْتًا وهدْيًا ودَلّاً برسول الله صلى الله عليه وآله من فاطمة، كانت إذا دخلت عليه، قام إليها وأخذ بيدها وقبّلها، وأجلسها في مجلسه، وكان إذا دخل عليها، قامت فأخذت بيده فقبّلته، وأجلسته في مجلسها.(9)
لكنّ الذي استخلصناه من ركام اختلط الغث فيها بالسمين، أشكل مجموعه على أجيال من أمّتنا، حوّلتهم من مقام المعرفة بهم وبحقوقهم، إلى مقام تجاهلهم والإستهانة بهم، وتقديم غيرهم عليهم، في مقام الولاية خصوصا، ولم يُحارَب بيت طُهْرٍ في التاريخ، مثلما حورب أهل بيت النبي صلى الله عليه وآله، وعجبي كيف تظلم فاطمة عليها السلام، وهي التي أذهب الله عنها الرجس وطهّرها تطهيرا، فلا تقبل دعواها في ميراثها، وتردّ بشهودها غاضبة على من ردّها، وقد ذكر البخاري أنها ماتت واجدة عليه، فكيف يرجو رحمة الله من أغضب فاطمة كائنا من كان، وأبوها الذي قال: فاطمة بضعة مني فمن أغضبها اغضبني . (10) كيف تنتهك حرمتها فيعتدى عليها في بيتها، بعد أن هُدّد المعتدون بإحراقه، إذا لم يخرج من فيه للبيعة مرغمين (11).
من أجل أن يُعْطى هؤلاء الأطهار، وفي مقدّمتهم هذه السّيّدة المظلومة حقوقهم، يجب على كل عارف بمقاماتهم، أن يرشد المسلمين إلى حقائق أشخاصهم وما يمثّلونه من قِيَم إسلامية، خدمة لله ورسوله صلى الله عليه وآله، فليس هناك أجدى من إظهار وإبراز حقيقة دينية، لها فائدة في رفع مظلمة عن مؤمن، وإحقاق حقّ مشروع له.
لم تعش أمّ أبيها - وهو افضل لقب تحبّه - سوى ثمانية عشرة عاما، منها ما يقارب الخمس وسبعين يوما بعد رحيل أبيها، فكانت أول أهل بيته لحوقا به، مضروبة مأذيّة بضربة تلقتها، أسقطت بسببها جنينها محسن، موصية زوجها وإمام زمانها عليّا عليه السلام، بأن لا يأذن لمن ظلمها حضور جنازتها، ففعل ودفنها ليلا سرّا، فقبْرها إلى اليوم غير معروف، سوى ما قاله النبي صلى الله عليه وآله: (ما بين قبري ومنبري روضة من رياض الجنة) (12) يرجّح أن يكون الإمام علي عليه السلام قد قام بدفن فاطمة عليه السلام في بيته، تطبيقا لوصيّتها، وتأمينا لعدم مشاركة الإنقلابيين عليه، والمعتدون على زوجته في مراسم الوداع والجنازة، وهو داخل في مساحة ما بين القبر والمنبر على الأرجح.
كنيتها بأمّ أبيها التي شرّفها بها والدها هي أحبّ الألقاب إليها، فقد كانت أعطته عاطفة ومشاعر الأمّ، وكان احساسه منها كذلك، مما جعله يكنّيها بتلك الكنية العزيزة عليها، فسلام عليها يوم ولدت وهذه مناسبة مولدها 20 جمادى الآخرة، وسلام عليها يوم استشهدت مظلومة منتهكة الحقوق، وسلام عليها يوم تبعث طالبة حقوقها ممن ظلمها ومن غبنها حقّها متعمّدا.
المصادر
1 – مجمع البيان الطبرسي ج 10 ص 480
2 – سورة الأحزاب الآية 33
3 – بحار الأنوار المجلسي ج 23 ص 143/
4 – كشف الغمّة الابي الفتح الأربلي ج 2 ص 90
5 – المصدر السابق
6 – جامع أحاديث البخاري كتاب أحاديث الأنبياء ج4ص158ح3411وص164ح3433 وفضائل الصحابة ج5ص29ح3770 ومختصرا فضل عائشة على النساء كفضل الثريد على سائر الطعام. كتاب الأطعمة ج7ص75ح5419
7 – جامع أحاديث البخاري كتاب مناقب الأنصار ج5ص39ح3821/ مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل خديجة أم المؤمنين ج7ص134ح2437
8 – بحار الأنوار المجلسي ج33 ص 191 / شرح نهج البلاغة ابن أبي الحديد ج11 ص45
9 – سنن الترمذي أبواب المناقب ج6ص175ح3872/ سنن أبي داود أول كتاب الآداب ج5ص245ح5217
10 – جامع أحاديث البخاري كتاب فضائل الصحابة ج5ص21ح3714 وص 29ح3767
11 – ابن قتيبة الدينوري ج1ص19
12– جامع أحاديث البخاري باب فضل الصلاة ج2ص61ح1195/ مسلم كتاب الحج ج4ص 123ح1391
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat