لماذا هزمتهم عاشوراء؟!
محمد قاسم الطائي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
محمد قاسم الطائي

لعاشوراء الحسين رنة مدوية في صميم الاسلام، أن وقفت توقف قلبه، وأن واصلت تواصلت شرايينه في مهج الحياة الزاهر! . وراء دماء كربلاء عبرة مختنقة لا يمكن لزبر التاريخ أن تحجبها .ورائها عويل تلك النساء والأطفال العطاشى وكل مآسي العائلة النبوية .يتصدر مشهدها حضرة أبي الضيم وحده فهو سيد الفاجعة الكبرى، وأن تفاصيل الطف بكل ما جرى فيها من أحداث ومواقف غابرة كانت بحق مبكية ومحزنة للغاية، تضمر في طياتها مشاهداً دامية يكاد لا ينقطع حديثها، ولا يكف شجينها المثخن بالجراح . وبغمرة الأسى، عجيب لكتب التاريخ التي قصت طفولة أبناء السلاطين والجواري ببراعة! كيف تختفي براعتها عن السهام التي تسددت نحو قلب أبي عبد الله ؟! وكيف يختفي رواتها عن قصة بطل العلقمي؟! وعن ذاك حديث زينب المفعم بالبسالة والشموخ التي قالت ما رأيتُ إلا جميلا وهي التي رأت بأم عينيها جثث الهواشم القتلى؟! ورأت كيف تسابقت خيول الطغاة على سحق صدر ابن الرسالة، ورأت كيف ذبحوه من الوريد إلى الوريد، ورأت كيف حملوا رأسه فوق القنا لأميرهم الفاجر، ثم كيف عاشت لحظات الوداع الأخير مع توديع ذلك الجثمان الطاهر المرمل بالدماء قائلة بلسان الحال واللوعة: "ودعتك الله يعيوني، خويه يردون عنك يا خذوني" فيالله ولفواجع التاريخ الدامية!، ويالله وللمشاهد المثقلة بتعب المسيرة!، ينقطع القلب لفداحة هولها، سنطوي عنها كشحا وبالعين قذى، وفي الحلق شجى، والصبر على هاتا احجى، ولا حول ولا قوة إلا بالله . أجل أن رواية كربلاء تختلف عن كل الروايات الثورية من حيث سمو المبدأ والظرف المناسب ومن حيث الآثار والأهداف المترتبة عليها .
تميزت نهضة الامام الحسين (عليه السلام) عن غيرها من الثورات التاريخية بأمور أولاً: بأنها مستندة لمبدأ عقائدي رصين ألا وهو مبدأ الامامة الالهية الناظر بنور الله تعالى، والهادي لصراطه القويم، والذي لا تعيقه كل أجواء الملابسات والمشابهات الزمانية أو المكانية أو أقوال الرجال المتضاربة، فالثابت في محلّه أن الامامة حافظة للدين والشاهدة عليه والمبلغة عنه بأتم صورة وأمانة .
الأمر الثاني : القيم الرسالية المنسجمة مع قانون الفطرة البشرية وأهداف الاسلام العليا من قبيل إنكار الظلم وإنصاف المظلوم، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ونصرة الحق، وتصحيح القيم الأخلاقية، فالنهضة الحسينية بالنهاية تنتمي لهذه الأرض لا يمكن تجريدها عن العوامل التاريخية والاجتماعية التي حفت بها، ولو جردت عن ذلك لفقدت قيمة مشروعيتها ولأصبحت أشبه بحادثة خيالية لا واقع لها . إذن النهضة الحسينية تضمنت أهدافاً سامية كانت سبباً في ترسيخها وتثبيتها في النفوس . فأي هدف أو مشروع بقدر ما كان موافقاً للفطرة السليمة كان أبقى وأنجع، والمسار البشري عموماً ميال بطبيعته لنصرة الحق والعدل ولكل شيء موافق للفطرة السليمة والعكس كذلك . وهذا ما يفسر لنا سبب فشل أغلب الثورات السياسية القديمة والمعاصرة لأنها في الغالب تنحرف عن مسار الفطرة المستقيم نتيجة الطغيان والفجور الذي تبتلى به .
الأمر الثالث :إخلاص التضحية وتضحية الإخلاص التي اتسمت بها نهضة الامام الحسين (عليه السلام) والتي كانت أعظم كلمة قالها الامام يوم العاشر من محرم" هون عليّ ما نزل بي أنّه بعين الله" فكل شيء لله وكل ما أصابه لله وبعينه تعالى، يحتوي الاخلاص على سر ديمومة بقاء العمل . ويتضمن سر البركة الإلهية. الاخلاص كلمة الله الطيبة، التي أصلها ثابت وفرعها في السماء، فكيف إذا كان الاخلاص وجوداً ومعنى وصفة متسق بشخص الامام صلوات الله عليه، فعندئذٍ يكون تلك الواقعة التي حفظت الدين بكل معانيه الشريفة .وهذا ما يوضح سر توكيد أئمتنا الهداة صلوات الله عليهم على أحياء المجالس الحسينية بكل وضوح لأنها تُحي الدين بإحيائها لذكر الحسين "صلوات الله عليه" .المجالس الحسينية هي مدارس تعليمية روحية عقائدية أسسها أئمة أهل البيت عليهم السلام لإحياء دين الاسلام في نفوس المؤمنين .في المجالس الحسينية خاصية ورابطة جذرية هي إبقاء الدين حياً في كل عصر .
ولذا روي عن الإمام جعفر بن محمد الصادق (عليه السلام) أنه قال للفضيل بن يسار: يا فضيل: « أتجلسون وتتحدثون؟ » قال: نعم جعلت فداك. قال الإمام الصادق : «إن تلك المجالس أحبها. فاحيوا أمرنا، فرحم الله من أحيا أمرنا » [ بحار الأنوار ج44، ص282] وفي حديث آخر قال الهروي سمعت الإمام أبا الحسن علي بن موسى الرضا "عليه السلام" قال :«أحيوا أمرنا، رحم الله من أحيا أمرنا. قلت: يا بن رسول الله وكيف يحيا أمركم؟ قال: أن يتعلم علومنا ويعلمها الناس؛ فإن الناس لو علموا محاسن كلامنا لتبعونا»[ بحار الأنوار ج44- ص32] ورد أيضاً عن الإمام الصادق عليه السلام: قال « رَحِمَ اللَّهُ شِیعَتَنَا، شیعتُنَا واللَّهِ همُ الْمُؤْمِنُونَ ، فقد وَاللَّهِ شَاَرکُونَا فِي الْمُصِیبَةِ بِطُولِ الحزنِ و الحَسرة.» [ ثواب الأعمال، للصدوق ص217]؛ نعم أن استمرارية البكاء على الحسين عليه السلام هو أحد الأسرار الدخيلة في إبقاء الدين الحق حياً ومزهراً بهذا العنوان المتألق، لعمري لقد بكى على الحسين كل شيء، لقد بكى عليه الحجر والمدر، إذن فلماذا يستكثر عليه هذه الدموع التي هي علاج لأنفسنا ومشاعرنا الروحية؟! .ويبدو أن سر التفاوت في الروايات الداعية لإحياء ذكرهم- مثلاً بعض الروايات الحاثة على إحياء ذكرهم بالعاطفة والدموع، وبعضها من خلال سلاح العلم والمعرفة كما تقدم في رواية الهروي، وبعضها من خلال المشاركة في مجالس عزائهم ذلك بالنظر لطبيعة الأجواء التي يتفاوت بها المؤمنون، فهناك مواقف وحالات تعالج من خلال العاطفة والبكاء على مصائبهم، وثمة مواقف تعالج من خلال المعرفة والعلم المستند لأصولهم "عليهم السلام" والدفاع عنهم بالفكر والمعرفة، ونشر علومهم ومعارفهم، ومواقف أخرى تعالج بمجرد المشاركة في مجالسهم وعزائهم..وبحمد لله تعالى المجالس الحسينية في الأعم الأغلب والأكثر عامرة بذكر أحاديثهم ومعارفهم ومصائبهم، والتذكير بحقانية منهجهم الساطع الذي لا شك ولا ريب يعد مفتاح النجاة في الدنيا والآخرة .
ثلاث أعمدة للتشيع : القضية الحسينية والعقيدة المهدوية، والمرجعية الدينية ولكل واحدة من هذه الثلاث مساحتها في جوهر العقيدة الشيعية .كما أن هذه الثلاث مترابطة بأسس الامامة الالهية، وأن خط الامامة لا يمكن فكاكها بحال عن خط النبوة.
ولذا كان الأعداء والمشككون والمتربصون يدركون قيمة هذا الترابط الوثيق فيتوجهون للطعن إما بأصل الدين أو بأصل الامامة أو من خلال الغمز والطعن بقضية الامام المهدي "عج" أو من خلال استهداف النهضة الحسينية بكلمات التشكيك والطعن والتمييع بغية تضعيفها واسقاط شرعيتها! لأنهم يدركون أن أيام عاشوراء ستهدم كل ما بنوه وبذلوه من جهود معادية الدين وللمتدينين، يقال في أيام الستينيات من القرن الماضي إبان المد الشيوعي الأحمر في العراق كانت بعض الأفكار الشيوعية والماركسية تلقي من خلال القصائد الحسينية لأنهم لما فشلوا وافلسوا بترجمتها للواقع لم يجدوا طريقاً للذهاب أقرب من نفس القضية الحسينية لنشرها! لكن ذلك لم يدم طويلاً.
تروى كلمة لطيفة للمرجع الكبير السيد محسن الحكيم "قدس" أنه قال أنّه كل ما لدينا من الحسين أو من عاشوراء، إشارة لهذه المعنى العميق - فعاشوراء عبارة عن عنوان لكل التأصيلات لعقائدية التي جاء بها الاسلام . لا ريب أن هزيمة أعداء الدين والانسانية بتكريس هذه العقائد المقدسة والتفاعل بها مع الجمهور المؤمن . ولن يوجد طريق أقرب لتبليغ أحكام الدين ونشره في جميع الآفاق والأقطار مثل طريق الشعائر الحسينية. وببركة دم سيد الشهداء أصبح ما من بقعة في العالم إلا وفيها حسينية ومجلس عزاء للحسين صلوات الله عليه؛ أرأيت كهذه العظمة؟! السلام على الحسين وآل الحسين .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat