صفحة الكاتب : موفق هاشم عبيد

ابن عربي ونقد مبدأ الحتمية (طروحات سبقت التنظير العلمي الغربي المعاصر)
موفق هاشم عبيد

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

 من المألوف جدا أن تنكشف أهمية مفكر ما، وتبرز طروحاته السامية أثناء حياته، أو بعد مماته بجيل أو جيلين أو بضعة أجيال، لكن أن يظل مفكر مغمورا مدى سبعة قرون متتالية، يُنظر إليه بشيء من الريبة والدونية بسبب قراءات وترجمات مغلوطة فهذا من غير المألوف وغير الطبيعي بالمرة! وهذا ما كان مع المفكر العربي والفيلسوف المتصوف محمد بن علي الحاتمي الطائي، الذي نعته الباحث الدكتور وليام تشيتيك في (موسوعة ستاندفورد للفلسفة) بأنه ربما يُعد أعظم فيلسوف مسلم على الإطلاق!! مشترطا فهم الفلسفة بمعناها الواسع والحديث، وليس فهمها وفاقا للفهم التقليدي الكلاسيكي الممثل بما لدى الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد، ولم يعترض على هذا الإطلاق محررو الموسوعة وعلى رأسهم مؤسسها ومحررها الرئيس إدوارد زالتا الفيلسوف الأمريكي الشهير[1].

ومما يجدر بنا ذكره أن هذا الحكيم يُعرف بابن عربي، وهو يختلف عن ابن العربي الفقيه المالكي، والاثنان معروفان بهذا اللقب، لكن الفرق بين اسميهما المشهورين بهما الألف واللام، واستغرب أن بعض الباحثين يذكرون ابن عربي مع الألف واللام فيقولون(ابن العربي)!

ولد الحكيم الطائي في بلاد الأندلس عام 1165م، وتلقى العلوم فيها ودرس على يد أكفأ العلماء، ونال الحكيم الطائي شرف مقابلة الفيلسوف العربي الشهير ذائع الصيت ابن رشد الأندلسي، ولم يكن متفقا مع منهجه الفلسفي المعتمد على العقل الى حد بعيد جدا، وتنقل حكيمنا بين أقاليم العرب والمسلمين حتى حلّ بجيرة البيت الحرام في مكة، بعدها استقر في الشام حتى مات سنة 1240م، ودفن أسفل سفح جبل قاسيون وبني على قبره مسجد، وكان الحكيم الطائي صوفيا ومتفلسفا في ذات الوقت، ويحق لنا وفقا لذلك أن نطلق عليه فيلسوف المتصوفة أو صوفي الفلاسفة.

أمسى حكيم العرب في وقته زعيم مدرسة ورئيس مذهب خاص، فقد قامت مدرسته في بداية القرن الثالث عشر الميلادي، وظلت عامرة زهاء ما يقرب من قرنين، وكان الحكيم العربي هذا كثير الكتابة والتأليف والإنتاج، ولاقى بسبب طروحاته الكثير من العنت والاضطهاد والعداء، وكان لعبقريته الكبيرة أثر في سبينوزا الهولندي، أحد مفكري البشرية الكبار الذين ما زالت طروحاتهم حتى اليوم تُبحث وتُذكر بالمدح والإعجاب والتبجيل، وقد أكد كل من نيكلسون وريفو وأسين بلسيوس على وجود ذلك الأثر والتأثير[2].

وما ذكرناه في الفقرة السالفة فيما يتعلق بتأثير ابن عربي - الذي وصل الى أوربا الغربية، وتحديدا هولندا موطن سبينوزا - لا يتناقض مع ما ذُكر قبل ذلك من أن الحكيم الطائي لم يكن معروفا لدى فلاسفة أوربا ومفكريها حتى مجيء القرن العشرين؛ لأن أفكاره لم تنسب إليه إلا لاحقا وفي عصرنا الحالي، فأفكاره إنما ترشحت بشكل غير مباشر، إذ ظلت كتاباته ((غير معروفة عند الغرب حتى العصر الحديث، رغم أنها جابت العالم الإسلامي وأخذت في الانتشار خلال قرن واحد من وفاته. بداية، لم يعره المستشرقون الأوائل اهتماما [...] ذلك لأنه لم يكن له تأثير ملموس في أوربا [...] بقي الأمر هكذا حتى جاءت كتب هنري كوربان (ت1958) وتوشيهيكو إيزوتسو (ت1966)، وبسببهما تجاوزت شهرته الآفاق، واعتُرف به أنه مفكر من طراز أصيل، وله مساهمة عظيمة في الفلسفة العالمية))[3].

أضف الى ذلك فإن حكيمنا المسلم كان مواطنا أندلسيا معاصرا لابن ميمون اليهودي المتأثر بالفكر والفلسفة الإسلامية، وعاصر كذلك يهودا كثيرين في الأندلس في وقت كانت الترجمة نشطة جدا من العربية الى العبرية ومنها الى اللاتينية، وأغلب الظن أن سبينوزا قد قرأ ما ترشح عن الفيلسوف الطائي من أفكار في هاتين اللغتين اللتين تعلم سبينوزا من خلالهما ومتح كثير من الأفكار عن طريق تتبعه لآثار مفكري اليهود في العصور الوسطى[4].

يُقدم حكيمنا ـ كما هو المعتاد ـ على أنه رجل صوفي، ويُنظر إليه كأي صوفي معادٍ للتفكير العقلاني، وأنه خصم لدود للعقل، كل ذلك لأنه كان يدعو الى اعتماد الكشف والتحذير من النظر خشية من الضلال والتيه والوقوع في الخطأ والزلل، ولأجل ذلك تم إقصاؤه من زمرة الفلاسفة والمفكرين، لكن التأمل في تراث الحكيم الطائي يبين لنا مدى تطرف البعض في تقييم الرجل، فقد كانت له رؤى فلسفية متماسكة وله قراءة للعالم تتسم بالحبك الذاتي القائم والمستند على قواعد فلسفية ومنطقية صلبة، نعم هنالك إشارات رمزية طرحها الطائي فهمها البعض من خلال اسقاطاته المسبقة عن الرجل، والإصغاء المتأني لتلك الرمزيات يوضح كيف أنه كان يحاول تصحيح العلاقة بين النص والعقل، مرمّما تلك العلاقة المشوهة التي شكلها بعض الفلاسفة المؤمنين إيمانا مطلقا بالعقل، فبرزت الحاجة الى ميدان آخر أو منطقة أخرى من ((مناطق الفكر الديني هي منطقة التصوف لدراسة تلك العلاقة بين الفكر والنص الديني))[5].

ولابد من القول أن هنالك نقدا كان يوجهه الفيلسوف الطائي للفلسفة، وهو نقد موجه بالأصل نحو وسائل الفلسفة لا الفلسفة ذاتها، فهو يرى أنها عاجزة في الإلهيات عجزا عظيما؛ وذلك لقصور وسائل العقل في هذا المجال ومحدوديته، ومن أبرز وسائل الفلسفة التي نقدها فيلسوف العرب الأكبر الاستقراء، فالاستقراء لا يصح في العقائد والإلهيات، فالمعرفة الاستقرائية لا تلائم معرفة الحق سبحانه، لا في الأحوال ولا في المنازلات، لذلك يقول[6]:

فلا تحكم بالاستقراء قطعا  .......    فما عين الغزالة كالغزال

وإن ظهرت بالاستقراء علوم ......  فما حكم التضمر كالهزال

وقد ضرب الحكيم الطائي مثالا ينقد فيه الاستقراء من خلال قوله: ((فإنه لو استقرأنا كل من ظهرت منه صنعة وجدناه جسما ونقول: إن العالم صنعه الحق وفعله وقد تتبعنا الصناع فما وجدنا صانع إلا ذا جسم فالحق جسم، تعالى الله على ذلك علوا كبيرا))[7]. مع ذلك نجد حكيمنا الطائي يؤكد أن للفيلسوف دور إيجابي، مدافعا عنه ورادا التهم التي أُلصقت به بقوله: ((وأما قولك أن الفيلسوف لا دين له فلا يدل كونه لا دين له على أن كل ما عنده باطل وهذا مدرك بأول عقل عند كل عاقل))[8].

ومن يقرأ مفهوم الحكمة عند الحكيم الطائي يجد أنه هو مفهوم الفلسفة نفسه، المفهوم الذي حدده فيلسوف العرب الكندي والشيخ الرئيس ابن سينا وبقية الفلاسفة المسلمين، إذ يقول: ((إن معنى الفيلسوف هو محبة الحكمة وصوفيا باللسان اليوناني هي الحكمة وكل عاقل بلا شك يحب الحكمة))[9]، وعبارته الأخيرة هي بالتأكيد دفاع عن الفلسفة بتصريح لا يقبل التأويل.

 وكان حكيمنا من السبّاقين في الحديث عن حدود العقل وعجزه عن تعديها، فمنذ عصر النهضة الى منتصف القرن العشرين كان فلاسفة الغرب يعطون العقل والعلم السيادة والسلطة المطلقة، حتى تمخض عن ذلك الإيمان بالحتمية المطلقة أو مبدأ العلّية، وبرزت جراء ذلك نتائج مذهلة، نافعة وضارة على السواء، لكن بعد حدوث الحرب العالمية الثانية تفطنت الفلسفة الغربية بالتفكير للوقوف بوجه سلطة العلم وكبح جماحه، وسقوط مبدأ الحتمية وبروز مبدأ اللاحتمية، وكان ذلك على يد علماء الفيزياء المعاصرين، أبرزهم هايزنبورغ (ت1976م)، بينما كان حكيمنا الطائي قد وضع حدا لسلطة العقل منذ ما يقرب من ثمانية قرون!!

ويقوم مبدأ الحتمية على إمكانية التوقع والتنبؤ بحدوث شيء نتيجة لوجود شيء آخر، أي إن بعض الظواهر نتوقع حدوثها بعد توافر أسبابها وشروطها، فتوافر ذات الأسباب وذات الشروط تعطي ذات النتائج كلما تكررت، وهذا الشيء هو الذي جعل العلماء الكلاسيكيين أن يقولوا بمبدأ الحتمية، فهم لم يتركوا أي مجال للصدفة أو الاحتمال أن يكون له دور في حدوث الظواهر والأشياء، فمنذ نيوتن وشيوع الفيزياء الميكانيكية تصور الكون على أنه آلة كبيرة يمكن توقع كل ما ممكن أن يحدث فيه بناء على ذلك، وهذا ما أشار إليه لابلاس وبوانكاريه في طروحاتهم العلمية.

وتمثل الحتمية أساسا للقوانين العلمية التي تستنتج من خلال الاستقراء المتكرر لحالة ما، فخطوات المنهج التجريبي الرئيسة هي: الملاحظة والفرضية والتجربة، لنصل بعد ذلك الى القانون المتحكم بالظاهرة، أي الانتقال من الأحكام الجزئية الى الأحكام الكلية، وهذا الشيء جعل العلماء والفلاسفة يختلفون حول الظواهر، فهل تخضع كلها للتنبؤ والتوقع أم أن هنالك بعضا منها لا يعترف بالمبدأ الحتمي بتاتا؟ وهنا يثور سؤال وهو: هل أن الكون بكائناته يخضع لنظام ثابت؟

 غير أن لعلماء الفيزياء في القرن العشرين رأيا آخر، ولاسيما المختصين منهم في (الميكروفيزياء)، الذين رأوا أن كل التجارب العلمية والملاحظات لم تجرِ بمنتهى الوضوح والدقة، وبالتالي فالمعرفة الناتجة عنها تقريبية، والتوقعات بذلك تكون تقريبية أيضا، ففي المجال الذري وفيزياء الكوانتم يلاحظ العلماء أن الجسيمات تأخذ نوعا من الحرية التي لا يمكن معها توقع ما ستؤول إليه النتائج! ويرى هايزنبرغ أن القياس الجزئي يمتنع ويتخلف حينما نحاول معرفة موقع الجسيم وكمية حركته.

لقد كان الفيلسوف الطائي سبّاقا في تبنيه مبدأ اللاحتمية، ورأى أن العالم يخضع لمبدأ عدم التعاين لأن المعارف الكونية تعتمد على العقل القاصر والمحدود أصلا عند حكيمنا، ودعا الى أن القطيعة شرط الموضوعية عن طريق تفضيله النفس الناطقة على القوى الأخرى العاطفية والشهوانية، وقد أكد على ضرورة عدم الاكتفاء بنقل الأفكار بالتواتر، بل لابد من أخذها من ينبوعها الأم، والنظر في لب الأشياء لا في قشورها[10]، فهو ههنا يدعو الى إبطال المعارف التي تؤخذ بالتسليم والتجرد من الذاتية حينما تجمع الخبرات، وبهذا يكون الحكيم العربي المسلم قد سبق الفيلسوف الفرنسي غاستون بشلاير (ت1964م) مبدع هذه النظرية وفقا للمتعارف عليه.


[1] ـ ينظر: مجلة حكمة, مقال مترجم عن ابن عربي في موسوعة ستانفورد للفلسفة، نص: د. وليام تشيتيك, ترجمة: عبد العاطي طلبة, 2019م: 2. 

[2] ـ ينظر: في الفلسفة الإسلامية (منهج وتطبيقه), الكتاب الثاني، تأليف: ابراهيم مدكور، دراسة تقديمية: منى أحمد أبو زيد، دار الصدى المصري: القاهرة، الاسكندرية: مكتبة الاسكندرية، دار الكتاب اللبناني: بيروت، ط1، 2015م: 126 ـ 128.

[3] ـ مجلة حكمة, نص ترجمه عبد العاطي طلبة عن موسوعة ستانفورد للفلسفة, مؤلفه: د. وليام تشيتيك: 2.

[4] ـ ينظر: المصدر نفسه: 129.

[5] ـ فلسفة التأويل (دراسة في تأويل القرآن عند محيي الدين ابن عربي)، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، المغرب، ط5، 2003م: 5.

[6] ـ الفتوحات المكية، محيي الدين ابن عربي، تحقيق: عثمان يحيى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1982م: ج4/ 292.

[7] ـ المصدر نفسه: ج4/ 294.

[8] ـ المصدر نفسه: ج1/ 146.

[9] ـ نظرية المعرفة عند ابن عربي، ساعد خميسي, دار الفجر للنشر والتوزيع، ط1، 2001م: 42.

[10] ـ ينظر: الفتوحات المكية: ج3/ 218 و 124.


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


موفق هاشم عبيد
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2023/04/06


  أحدث مشاركات الكاتب :

    • جدلية تأثُرْ النحو العربي بالمنطق والفلسفة أتأثَرَ نحْوِيّو العرب القدامى باليونان أم تأثرَ باحثوهم المحدثون بالمستشرقين؟  (ثقافات)

    • الألسنية التاريخية بين العلمية والعنصرية والدارونية  (المقالات)

    • أرسطو عظيم الفلاسفة الذي طرق معظم أبواب المعارف والعلوم!  (المقالات)

    • حينما يُستغل العلم عنصريا لقتل الآخرين (التطورية أنموذجا)!!  (المقالات)

    • الإسلام والحضارة الغربية بين التقاطع والتواصل!  (المقالات)



كتابة تعليق لموضوع : ابن عربي ونقد مبدأ الحتمية (طروحات سبقت التنظير العلمي الغربي المعاصر)
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net