وسطية الفقهاء بين إفراطين
عبد الناصر السهلاني
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
عبد الناصر السهلاني

وسطية العلماء العدول الذين نذروا انفسهم لتبليغ الدين والدفاع عنه انما هي وسطية الاسلام وسطية النبي وآله (صلوات الله وسلامه عليهم) والتي طالما وصفوا انفسهم بها وحثوا شيعتهم على الاتصاف بها اعتقاداً وعملاً، فعن أمير المؤمنين (عليه السلام):
" الْيَمِينُ وَالشِّمَالُ مَضَلَّةٌ وَالطَّرِيقُ الْوُسْطَى هِيَ الْجَادَّةُ عَلَيْهَا بَاقِي الْكِتَابِ وَآثَارُ النُّبُوَّةِ وَمِنْهَا مَنْفَذُ السُّنَّةِ وَإِلَيْهَا مَصِيرُ الْعَاقِبَةِ "(1)
وعنه (عليه السلام)" نَحْنُ النُّمْرُقَةُ الْوُسْطَى بِهَا يَلْحَقُ التَّالِي وإِلَيْهَا يَرْجِعُ الْغَالِي"(2)
وعنه (عليه السلام) في عهده لمالك الاشتر (رضوان الله عليه):
"وَلْيَكُنْ أَحَبَّ الْأُمُورِ إِلَيْكَ أَوْسَطُهَا فِي الْحَقِّ وَأَعَمُّهَا فِي الْعَدْل"(3)
وعن الباقر(عليه السلام): "يا معشر الشيعة شيعة آل محمد كونوا النمرقة الوسطى يرجع إليكم الغالي، ويلحق بكم التالي"(4)
وعن الصادق (عليه السلام): "عندما سئل عَنْ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وجَلَّ- وكَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ- قَالَ: نَحْنُ الْأُمَّةُ الْوُسْطَى ونَحْنُ شُهَدَاءُ اللَّهِ عَلَى خَلْقِهِ وحُجَجُهُ فِي أَرْضِهِ"(5)
وعن الرضا (عليه السلام): "نَحْنُ آلَ مُحَمَّدٍ النَّمَطُ الْأَوْسَطُ الَّذِي لَا يُدْرِكُنَا الْغَالِي ولَا يَسْبِقُنَا التَّالِي"(6)
هذا وضوح حديثهم (عليهم السلام) واما سيرتهم فهي اوضح وأجلى لكل ذي لب .
وعلى هذا سار غالب العلماء العدول في هذه الطائفة الحقة، ومن امثلة هذه الوسطية التي هي محل ابتلاء لدى بعض العقول مسالة التفريق بين المعاند للحق والمقصِّر من جهة وبين القاصر من جهة اخرى، فقد عزَّ على بعضهم التفصيل في الحكم عليهم فقسمٌ تَطرَّف من جهة التصحيح والحقانية كما هو حال بعض المتمرجعين الذي (أفتى) بجواز التعبد بكافة الاديان والمذاهب بل كافة الملل والنحل، فبمجرد ان يدعي شخص الدليل على حقانية النصرانية او اليهودية او البوذية او ... فتكون عقيدته صحيحة يجب الايمان بها وهو محق ومعذور ومتى ماكان تقياً في عقيدته أياً كانت فهو مشمول بقوله تعالى "ان اكرمكم عند الله اتقاكم" !!!
ويظن هذا الصنف برأيه هذا انه مسالم محب للخير لا يكن بغضا لاحد!!!
ونجد بعضاً آخر على عكس الاول فقد تطرف من جهة التخطئة والبطلان كما هو حال من ساوى بين بطلان العقيدة والعمل وعدم المعذورية مطلقاً، فهو وان اعترف بالمسالة نظريا على مضض الا انه يرفضها عملياً فكل انسان على وجه الارض مخالف للحق سواء بالاصول او الفروع فهو غير معذور عنده ويرتب عليه كافة اللوازم التي تكون للمعاند والمقصِّر.
ويظن هذا الصنف برأيه هذا بانه شديد في الحق كامل الايمان لا يقبل ابداً بالباطل والانحراف!!!
أما نهج العلماء العدول فهو التفريق فليس كل ذي عقيدة باطلة يكون غير معذور، وليس كل منكر للضروري يحكم بكفره مباشرة فيجب إعمال القضية الشرطية في المسألة وهي: ( إن كان عالماً بباطله، او جاهلاً مقصراً فهو غير معذور) وتصديقا لهذا النهج نورد على سبيل المثال لا الحصر قولين لفقيهين كبيرين من فقهاء الامامية:
الاول: ما ذكره استاذ الفقهاء والمجتهدين السيد الخوئي (طاب ثراه) حيث قال:
"...المعروف بينهم أنّ الجاهل القاصر غير مستحق للعقاب وهو الصحيح، إذ العقل مستقل بقبح العقاب على أمر غير مقدور، وأنّه من أوضح مصاديق الظلم، فالجاهل القاصر معذور غير معاقب على عدم معرفة الحق بحكم العقل إذا لم يكن يعانده، بل كان منقاداً له على إجماله. ولعل هذا ظاهر"(7)
وقال (قدس سره) في موضع آخر: "أنّ إنكار الضروريّ بمجرّده ومن حيث هو لا يستوجب الكفر، وإنّما يستوجبه من حيث رجوعه إلى تكذيب النبيّ (صلّى اللََّه عليه وآله)، المؤدّي إلى إنكار الرسالة، وهو يختصّ بما إذا كان المنكر عالماً بالحكم وبضروريّته، فلا يحكم بكفر الجاهل بأحدهما، لكونه جديد العهد بالإسلام، أو نحوه ممّن ليس له مزيد اطّلاع بالأحكام"(8)
الثاني: ما ذكره فقيه أهل البيت(ع) السيد محمد سعيد الحكيم (طاب ثراه) حيث قال:
"إنكار الضروري من الدين إن رجع إلى عدم الاقرار به بعد العلم بانزاله من قبل الله تعالى، أو إلى تكذيب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) في تبليغه به بعد العلم بتبليغه له كان موجباً للكفر، وإن رجع إلى عدم العلم بثبوته في الدين أو بتبليغ النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) له، لم يوجب الكفر، كما إذا نشأ من الجهل بتحريمه أو من شبهة اعتقد معها عدم التحريم."(9)
والحمد لله اولاً وآخراً وصلى الله على محمد وآله أبدا
وأسألكم الدعاء
عبدالناصر السهلاني.
_________
(1) (نهج البلاغة: خطبة 16)
(2) (نهج البلاغة: حكمة 109)
(3) (نهج البلاغة: كتاب 53)
(4) (الكافي ج2 ص75)
(5) (الكافي ج1 ص 190)
(6) (الكافي ج1 ص 101)
(7) (مصباح الاصول: ج1، ص276)
(8) (المستند في شرح العروة الوثقى: ج11، ص5)
(9) ( منهاج الصالحين: ج1، مسألة 418 )
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat