قد لا يحتاج المرء لأكثر من وقفة قصيرة أمام عالمنا المترامي الأطراف، ليدرك مدى التناقض العجيب الذي تعيش فيه البشرية، من بناء وعمران وتقدم ومدنية، بلغت مدارج رفيعة في الرقي والتقدم، فاقت حدود التصور والخيال في جانب، وقتل تدمير وافناء يثير أقصى مشاعر الرعب والفزع والاشمئزاز من جانب آخر..! ولا يقف الأمر عند هذا الحد، ففي كل يوم وساعة، بل في كل لحظة من حياتنا، يُقتل إنسان بيد أخيه الانسان، أو يُعتدى على سلامته البدنية أو عرضه أو يتجاوز على حقوقه وماله أو أمنه.
والجريمة ظاهرة قديمة عرفتها جميع المجتمعات البشرية المنتشرة في أصقاع المعمورة، سواء المتقدمة منها أو المتأخرة، فهي آفة اجتماعية مخرّبة للكيان الاجتماعي، فضلا عن كونها تعد معول هدم، وأداة تخريب في بنائه، تستنزف امكانياته وتهدر طاقاته، حيث يذهب ضحية هذا المرض الاجتماعي الفتاك، كثير من الأبرياء، فضلا عما يحدثه من رعب وهلع بين ابناء المجتمع، يبقى ينخرُ في جسد الأمة، فيضعف مقاومتها، ويوهن عزيمتها في مواجهة الأخطار والتحديات التي تواجهها.
وقد بدأت مشكلة الجريمة في السنوات الأخيرة تزداد حدة يوما بعد يوم، وتحمل في طيّاتها خطرا كبيرا، فالجريمة إلى جانب هدرها الأنفس والأموال والحقوق، واخلالها بأمن المجتمع وطمأنينته واستقراره، صارت باهظة التكاليف، وعبئا ثقيلا على الاقتصاد، تنوء أية دولة في العالم بحمله، لذا فان أكبر تحد واجه المفكرين قديما وحديثا، هو مسألة البحث عن سبب الجريمة؛ لأن فيها مفتاح علاجها، والطلسم السحري الذي يستعان به على قبرها؛ ولأن إغفال عوامل نشوئها في عملية البحث عن وسائل الوقاية أو الحد منها، يجعلنا نخفق في اختيار العلاج المناسب لها، بنفس الطريقة التي يخفق فيها الطبيب في علاج المريض، عندما يهمل التحري عن سبب مرضه الحقيقي.
غير ان وجهات النظر بخصوص الجريمة تختلف باختلاف المجتمعات والعصور، فما يعد جريمة في مجتمع قد لا يعد كذلك في مجتمع آخر، وما كان يعد جريمة في زمن ما لا يعد كذلك في زمن اخر، فضلا عن أن تطور المجتمعات بأنظمتها وهيئاتها ومؤسساتها المختلفة، وتعقد أساليب الحياة فيها، وتشعبها، ادى الى ظهور انماط جديدة من الجرائم، لا وجود لها في مرحلة سابقة من تاريخ المجتمعات، وهذا يعني ان الجريمة مشكلة قديمة حديثة في آن واحد.
ومما يجعل دراسة الجريمة، ووضع الحلول الناجعة لها، عملية لا تخلو من صعوبة، هو كون هذه الظاهرة الاجتماعية كأي ظاهرة انسانية اخرى متغيرة، لا يمكن اخضاعها للتجريد والملاحظة، بنفس الطريقة التي تخضع لها الظواهر الطبيعية، وبالتالي فأنه من العسير التوصل إلى قوانين ثابتة بشأنها، فكلما سدّ المختصون ثغرة، وجد الاجرام لنفسه ثغرة اخرى، ينشر من خلالها الهلع واليتم والضياع في ضحاياه الكثيرين.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat