تأملات في آيات: الارض يرثها عبادي الصالحون
جعفر المحمدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
جعفر المحمدي

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
(وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ (105) إِنَّ فِي هَذَا لَبَلَاغًا لِقَوْمٍ عَابِدِينَ (106) وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِلْعَالَمِينَ (107)) الانبياء
لقد اعتدنا ان نفتح المصحف المبارك واول اية تجذب انتباهنا نتأملها من باب التعلم –متعلم على سبيل نجاة- وهذه الآيات المتقدمة حقيقة لم اود ان اخوض في مفرداتها وذلك لعمقها وقوة دلالتها فهذه الآيات ترتبط ارتباطا وثيقا بخلافة الارض وامامة الامة –وسنخوض في تأمل هذه المعاني في مقال اخر نخصصه لذلك- لكننا سنأخذها على رأي مجمل بعد التوكل على الله.
(في اللغة الواو استئنافية والجملة مستأنفة مسوقة لتقرير ان الارض للصالحين لها ولاستغلال مواردها وطاقاتها المكنوزة فيها , واللام جواب لقسم محذوف وقد حرف تحقيق وكتبنا فعل وفاعل وفي الزبور متعلقان بـ(كتبنا) ومن بعد متعلقان بمحذوف حال من الزبور وان وما في حيزها مفعول كتبنا, أي: كتبنا وراثة الارض وان واسمها وجملة يرثها خبر وعبادي فاعل والصالحون صفة) «[1]»
وبما ان حرف التحقيق قد اتى قبل فعل ماض فهو مؤكدا لتحقيق الوعد الالهي ولام القسم لزيادة هذا التأكيد بمعنى اخر ان هذا الوعد الالهي لابد ان يتحقق وتكون الارض للصالحين من عباده.
والفعل كتبنا له معان متعددة منها سجلنا وامضينا وجعلنا وعهدنا والاخير هو الاقرب للمعنى العام من الآية المباركة.
وإذا تسائلنا اين كان هذا العهد والكتابة والتسجيل جاء الجواب القرآني سريعاً لا لبس فيه (فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ) وهنالك اراء واهواء في بيان كلمتي الزبور والذكر فقالوا الزبور ليس المقصود به زبور داوود فحسب بل هو كل كتاب او صحف عهد بها على نبي من الانبياء واما الذكر فهي صحف ادم وابراهيم وتوراة موسى –عليهم سلام الله جميعاً- .
وحتى لو اقتصرنا هذا العهد والوعد الالهي على زبور داوود وما نزل قبله من صحف وكتب نزلت (الذكر) فضلا عن تكرار هذا الوعد في القران في اكثر من اية, اذن هو وعد الالهي متجدد يعد فيه البشرية ان الارض لابد ان تكون نهايتها موروثة من قبل عباده الصالحين الذين لطالما استضعفوا ويبين صاحب الامثل«[2]» ان الاستضعاف هو جر الانسان الى الضعف مقيداً مكبلاً وليس بارادته.
وفي هذه الوعد الذي كتبه الله -عز وجل- اشارات عديدة لاحتمالات ممكنة ومنها ان سكان الارض يرتقوا فكريا بحيث يكونوا على وعي تام بالاحكام الالهية والرجوع الى المولى الحق –عز وجل- بحيث تعيش البشرية في رخاء ونعمة دائمة وهذا الكمال الفكري العقلاني كان محور الجمهورية الفاضلة لافلاطون ومن جاء بعده من الفلاسفة وهذه المدينة الفاضلة او الجمهورية الفاضلة قابلة للتحقق حسب الوعد الالهي لكن ليس على يد الفلاسفة وانما على يد المطبق للشريعة السماوية , امام اخر الزمان , الرجل الذي انتظرته البشرية على اختلاف مشاربها, المخلص الذي يخلص الأمم من كل مآزق التفرقة والتشظي ويجعلهم أمة واحدة فاضلة.
يرى المفسرون عموماً واخص بالذكر منهم صاحب تفسير الكشاف الشيخ محمد جواد مغنية ان معنى هذه الآية هو وعد انتقال الحكم والسلطان في الارض ايدي الطغاة الفجرة الى ايدي الاخيار البررة «[3]» ويذكر رواية حول الامام المهدي المنتظر-عجل الله فرجه الشريف- وهذا الانتقال واقع لا محالة وسيعم الامن والعدل الكرة الارضية دون ان يتطرق الى وصول الفكر الانساني الى حالة مثالية من الرقي الحضاري للاهتمام بمصلحة المجتمع الفاضل قبل كل شيء, والسبب في هذه النظرة ان اغلبية المجتمع الشيعي بل المجتمع الاسلامي وحتى غير المجتمع الاسلامي –لأن العديد من المجتمعات تنتظر المصلح والمخلص- ينظرون الى ان الامام المهدي –عجل الله فرجه الشريف- او المخلص بتعبير المجتمعات الاخرى هو من يوصل المجتمعات للارتقاء وليس لدى اغلبهم ان المجتمع لابد له من النهوض للارتقاء والامام صاحب العصر والزمان هو من يتمم هذا الارتقاء كما اتم النبي الاكرم –صلى الله عليه وعلى اله- ارتقاء الاخلاق في مجتمعه انذاك فقد روي عنه انه قال: (انما بعثت لأتمم مكارم الاخلاق).
وقد أشارت بعض الايات الكريمة على هذا الرقي الفكري والحضاري منها (وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آَمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (96) الاعراف)
إذن الشرط الاساسي لتحقق الوعد الالهي هو ان نغير انفسنا نحو الافضل قال تعالى (لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ(11)الرعد) واما وجود الامام الحجة –عليه السلام- ليس هو الشرط وانما هو من يجعلنا نطبق هذه الشروط التي تجعلنا ننعم في الحياة الدنيوية والاخروية –حسب الاستقرائي القاصر للآيات والله العالم- , وبعد ان مرت البشرية بمراحل متعددة حيث تمت تجربة العديد من النظريات الوضعية لكنها لم تصل للكمال والرقي الذي اريد لها , اذن بقي علينا الالتزام بسيرة النبي المصطفى -ص- ومنهجية اله الاطياب -ع- لكي نمهد لدولة العدل الالهي وانا على يقين انما الامام –روحي فداه- هو (المُنتَظِر) وليس (المُنتَظَر) بتعبير اخر أي انه هو من ينتظر البشرية للوصول الى مرحلة يمكنه العمل بعدها لإيجاد المجتمع الفاضل وليس المجتمع من ينتظره ليصلح كل شيء..
اذن علينا ان نكون ممهدين لدولة امامنا من خلال تثقيف مجتمعاتنا وليس معنى ذلك هدايتهم للدين فحسب بل بناء الروح الاسلامية العاملة التي تهتم بالانسان وليت شعري كم نحتاج من سنين وسنين لبناء المجتمع الفاضل الذي يكون قاعدة قوية لبناء دولة العدل الالهي.
اَللّـهُمَّ اِنّا نَرْغَبُ اِلَيْكَ في دَوْلَة كَريمَة تُعِزُّ بِهَا الاْسْلامَ وَاَهْلَهُ، وَتُذِلُّ بِهَا النِّفاقَ وَاَهْلَهُ، وَتَجْعَلُنا فيها مِنَ الدُّعاةِ اِلى طاعَتِكَ، وَالْقادَةِ اِلى سَبيلِكَ، وَتَرْزُقُنا بِها كَرامَةَ الدُّنْيا وَالآخِرَةِ.
واخر دعوانا ان الحمد لله رب العالمين.
31/12/2019
3/جمادى الاولى/1441ه
[1] اعراب القران الكريم وبيانه/ محي الدين الدرويش/قم –ذوي القربى /ط2/1435ه / الجزء الخامس /ص 81.
[2] مختصر الامثل في تفسير كتاب الله المنزل/لجنة التحقيق والتأليف في مؤسسة التاريخ العربي/ بيروت ط1/ص388.
[3] راجع تفسير الكشاف/ محمد جواد مغنية/ دار الانوار/بيروت/ط4/ المجلد الخامس/ ص302.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat