أسرعت قطع الظلام تلون جو السماء ،وخيول تعدو خلف فلول النهار المنصرم. تلسعها سياط لا مرئية . الخيول تجر خلفها عرباتها الضخمة ، وتفرغ حمولتها من الضباب الداكن فوق رؤسنا .الخيوط القليلة من الضوء أصبحت محاصرة ،والشمس انكفأت في جانب الأفق معلنة هزيمة النهار وانتصار الليل .تستمر الخيول في افراغ حمولتها ، وتصدر صهيلا مكتوبا تشر أب له أذان الكلاب ، وتطلق مزيدا من مخاوفها من الذئاب الغادرة وبنات أوى المخاتلة.
بزغ من جهة الغرب قمر صغير مراهق ، معلنا على استحياء بدء خلافته الليلية .تنهدت المرأة الواقفة خلف التنور وقالت :كان افول النهار سريعا .. أه أنها أيام الشتاء الأولى
بدأ الضوء الفضي للقمر يداعب سكون الأشياء من تحته ، ويعطيها إشكالا شبحيه .. توحي بالاستغراق التام في هدأة العتمة كما يستغرق الطفل في رحم أمه بانتظار ولادته فتحت كائنات الليل نواويسها ، وخرجت من تحت كل حجر ومدر أصدرت همسها المرعب ، ذلك الهمس الذي لا نستطيع فهمه . نشعر به ونشعر بوجود كائنات الليل دون رؤيتها .. رفرفة جناح .. حفيف أرجل محتكة .. قرقرة حنجرة .. صيحة يتيمة أو أي صوت مكتوم من أجواف تلك الكائنات . انها لغتها الكونية التي تكشف الدفق الخلاق لإ لهٍ مُبدع.
أندست تملا فراغ الأشياء ، وتعطي الليل شكلا أكثِر قتامة , تجعله شيئا قاهرا وقابلا للتصديق على انه موجود
الليل سلطان القلوب المترقبة .. يجثم بخفة الضباب مره ، ومرة بثقل سبع سموات ...يموه وجود كل الكائنات والجمادات ، ويرسم لها صورا مختلفة باختلاف اللحظة التي تظهر بها .
تتعرى الأشياء في رضا صامت عن حقائقها الزمانية والمكانية مستسلمة لريشة هذا الفنان. تتخذ طابعا عشوائيا يفتقد الى التناسق وبالنتيجة تتداخل الصور المرسومة بين الحقيقة والخيال.
وقد يكون ذلك كله لعبة من ألعاب الذهن البشري ينشر أوهامه البصرية والتصورية على الأشياء ... شيء يتخذه الإنسان ليتخلص من مخاوفه الذاتية التي تتورم باستمرار مثل السرطان .
قد يتشارك مع الإنسان بعض الحيوانات الذكية كالكلاب ، فحين تلتقط أذانها صوتا ما أو حين تلتقط حاسة شمها رائحة غريبة تبدأ بعزف سمفونيتها المتصاعدة لتطرد خوفها .صفقت المرأة قرص العجين الأخير ، وبحثت بطرف عينها عن الكلب استقبل نظراتها بمزيد من الرقة ، هز لها ذنبه أكثر من مرة وكانه فهم ذبذبات الخوف التي تنطلق من أعماقها. تمدد باسترخاء في حوش الدار بسط قدميه الأماميتين امام وجهه 0 شعرت المرأة بشيء من الطمأنينة والألفة المؤقتة .أدركت انها ليست وحدها أو ليست كما تتصور نفسها مثل حصاة صغيرة في قعر بئر عميق .هنالك مخلوق ما يشاركها هواجسها الليلية0 أحست بلسعة مؤلمة في يدها 0 تهاوى قرص العجين على النار وهي تحاول الصاقه بجدار التنور . أصدر نشييجا متواليا وهو يلفظ أنفاسه لم تحرك المرأة ساكنا لالتقاطه ..اكتفت بالتحديق فيه وهو يتفحم . لعقت ظاهر يدها المحروقة فعلت ذلك مثل قطه مهملة تلعق جراحها سمرت نظرها على قطعة العجين . أخرجت أخر قرصي خبز من التنور ونشرتها على الطبق حطت بومه برتقالية على سعفة النخلة القريبة 0 كان صوت جناحيها مثل طبطبة على ماء راكد ... طار قلب المرأة مثل عصفور حبيس نزلت قشعريرة باردة الى أحشائها والأعماق الدفينة لأعماقها 0 رفعت رأسها فاصطدمت بوجه البومة الدائري . استدار رأس البومة دورة كاملة بحيث أصبحت عيناها في الأسفل ومنقارها إلى الأعلى 0 تذكرت حكاية جدتها عن البومة المعذبة
- (يمة البومة كانت في قديم الزمان امرأة )
رددت المراة في سرها : حتى في الحكايات يسلببوننا من كياننا الإنساني , يجعلون منا مخلوقات جاءت بمحض الصدفة أو ردة فعل لشيء ما ورغم قناعتي بأن البومة كائن جميل الا أنني من المستحيل أن أغير قناعات تجذرت في أذهان الآخرين .. ثم لماذا لا يشبهوننا بكائن أو طائر أجمل أو على الاقل يكون مقبولا اجتماعيا .
عادت في ذهنها تسأل جدتها : ولماذا صارت المرأة بومة ؟
قالت : (لقد استهانت بنعمة الله .. استهانت بالخبز الذي هو نعمة عظيمة فجعلها الله في هيئة هذا الطائر ، وعذابها الأبدي أنها لا ترى النور فحياتها في ظلمة الليل ) على الأكثر كان ذلك التفكيرإفرازا لجنوح عقلية البدوي الحافي في جعل المرأة محظية ليلية أو الخجل من ظهورها العلني حين يكشفها ضوء النهار .
ضحكت المرأة وقالت : كيف كنا نصدق مثل هذه الحكايات المتوارثة أنا أرى أن البومة خلقت هكذا .. لا يمكن أن تكون ممسوخة أو معذبة ، قد أكون خائفة من وجهها الدائري ونظرتها الإنسانية التي تخترقني ، لكن تبقى طائرا ضمن الكائنات الليلية .
كان هناك دخان أزرق يشكل ما يشبه الغيمة عند قمة النخلة أو أشعة القمر تتسلسل عبر شجرة السرو الشائكة كأنها فضة مصهورة وتعطي غيمة الدخان الزرقاء هالة مضيئة .. تجعل البومة المسكينة تسبح خلالها مثل طائر من عالم أخر . ينذر بالشؤوم والدمار .
أنحنت المرأة تلملم أقراص الخبز التي نشرتها على الحصير . نفضت الطبق المصنوع من الخوص ــ من بقايا الطحين . صفت أقراص الخبز الطازج في منتصفه وعلى أطرافه . البخار لازال يتصاعد من بعض الاقراص .
أمتلأ أنفها الصغير برائحة الخبز .
تنهدت وقالت :شبعت من الرائحة وكأني أكلت كل ماخبزته ولكن فايق سيأتي الليلة ويفتح شهيتي للأكل .
وطارت البومة فجأة .. تركت غيمة الدخان الزرقاء تتلاشى شيئاً فشيئاً .مرت بخفة فوق رأسها المرأة . رفعت قامتها تحمل بيدها طبق الخبز, رأت فايق يتسلق النخلة بصمت ، وقد أسند ظهره الى ليف (تبليتهِ ).
- يستخدمها الفلاحين في صعود النخيل عند جذاذه أو لقطع السعف الزائد , يكون ظهرها من الليف المجدول بعناية وقوة وفي أطرافها سلك معدني غليظ توضع في نهايتهِ الأولى حلقة معدنية ،و توضع في النهاية الثانية قطعة خشب تدخل في الحلقة لتشكل مايشبه القفل .
كان ينظر اليها وعلى وجهه تلك الابتسامة . لم تكن نائمة ،ولم تكن في متاهة حلم .لقد رأته وعيونها مفتوحة صرخت بهِ: فايق ماذا تفعل في الأعلى ياحبيبي .. ياكل أهل واقاربي ليس ذا وقت جني الرطب!!
أبتسم بوجهها يحيط بهِ صمت ملائكي . تلاشت صورته يبتلعها سكون الليل .
تراقصت بعض الظلال بفعل أنفراج أغصان شجرة السرو، كانت نسمة باردة تؤذن ببداية الشتاء. أرتفعت خصلات شعرها من على وجهها .وضعت طبق الخبز على حافة التنور اليمنى . غمست يديها بماء البلالة الموضوع على الحافة اليسرى .نظفت أثار العجين على نهايات أصابعها , بدأت سعفات النخل بالتراقص والحركة بعد أن كانت كل النخلات ساكنة لا ترمش .. هزت جفونها الخضر . أصبح لحركتها هسيس يشبه البكاء.
من ينظر الى حركة السعفات يرى كأنها تلعق وجه السماء أو كأنها تكنس غبار الليل وتطرد بعض الغيمات الى أفق أخر شفت الحركة لأقل من لحظة توقفت كائنات الليل عن معزوفتها الحزينة رددت المرأة المتوحدة مع مخاوفها ترنيمتها :أه..أه على المشه ولا كال مودعكم الله ...أه...أه على النسانه ...
سطعت النجوم في السموات البعيدة .. متلالئة .. متراقصة .أخذت مواقعها الأزلية كأنها كاميرات مراقبة تراقب موجودات العالم السفلي .تلألأت صفحة السماء بقمرها , بنجومها , بالبريق الفضي اللامع .. تلألأت مثل أمرأة مفتونة بجمالها ،ومدركة لتأثيرها الغامض في كل ما يحيط بها.
**********
وقفت شجرة التين بفروعها الثلاث مثل شخص غارق في الابتهال على فرعها القريب من الأرض اصطفت الدجاجات في مجموعة متقاربة . رفرفت أحداهن , وسقطت الى الأرض ضحكت المرأة وقالت: يالكِ من حمقاء في كل يوم أنت الوحيدة التي تسقطين!
كانت المرأة ترى أن الدجاجة الحمقاء غزيرة البيض ،هكذا كانت تعتقد بحكم تجربتها .. عادت الدجاجة الى مكانها بصعوبة .ومن حائط الزمن الغابر اطلت امرأة .. شقت السعفات اليابسة فوق حائط الطين ، لم يكن بالإمكان تمييزها عن لون السعف الاسمر , رأس ويدان , تنوء بسني العمر المضني ، شقت كفن الصمت بصوتها .
- (يمه حنان مايصير تتأخرين بالخبز بعد المغرب) .
- (والله عمه أنتظرت حتى ينام علاوي وبعدين خبزت)0
- (يمة أذا تخافون أجي أبات يمكم) .
رفرفت عيون حنان مثل فراشة في شبكة عنكبوت .فاذا قالت نعم وجب عليها ان تحتمل شخير عمتها وهمهماتها المبهمة عند النوم ،اي لن يكون بأمكانها أن تحلم بعودة فايق أعتقدت أن وجود طرف ثالث سيسد باب الحلم عليها .
أذن احتمل خوفي ..أستأنس بحلمي قالت :
-لا ...لا عمه.. تعودت وحدي وعندي أمل أن فايق سيأتي هذه الليلة .
- (زين يمه هاي ( روبه) لعلاوي وهاي طاسه دهن حر الكم) .
- أشكرك عمة .
انسحبت المرأة كما جاءت مثل سمكة تتقهقر ببط الى الخلف .
نفضت حنان ثوبها الذي كانت بزرقة سماء صافية .أنتفض الطاووس المتربص في حضنها .نشر أجنحته على فخذيها ، فتلألأ ت الخرزات البيض التي ترسم حدود عالمه . أنطفأ لون صدره وبطنه وضاع بريقها في طية الثوب داخل ساقيها .
أستطالت رقبته لتلامس أطراف صدرها وتحت ذقنها الصغير داعبت ريشات رأسه أسفل أنفها قالت:هذا الثوب يحبه فايق يظهر جمالي كما يحلو له أن يقول .
فتحت أزرار الثوب ، ومدت بوزها في جيبها . تشممت رائحة جسدها .
- رائحتي طيبة لا زالت رائحة صابونة ( اللوكس) في جلدي ومن بعيد عبر المبزل وأجمات القصب الكثيفة المتراقصة فوق الماء . علقت الضفادع صمتها على جسد الليل ، واطلقت نقيقها بوتيرة متصاعدة . كانت تودع الصيف وتستقبل رحلة غياب أخرى 0 تلقفت أذناها الأف الأصداء , والأحلام المعلنة , والرغبات تلك الأصداء التي يوقظها الليل ، ويطرحها بين بضائعه العجيبة حاولت أن تنتقي منها شيئاً محدداً ومألوفاً ، لتعطي نفسها شيئاً من العزاء
فابق شارد تحت ضوء القمر عالق في منتصف المسافة قالت :
- من المؤلم أن تسمع صوتا معينا بطريقة رتيبة ومتوالية وانت مجبر على سماعه .لكن الأكثر إيلاماُ أن تسمع خليطا من الاصوات ويتوجب عليك أن تفهم شيئا منها أو أن تنتقي صوتا .. أحيانا أشعر أني سأصاب بالصمم . لا أستطيع التمييز بين تلك الأصوات التي تتماوج في رأسي مثل دوامات الماء .
بحلق فايق مندهشا ،واطلق ضحكة صغيرة
عقدت حاجبيها وقالت بدلال :
- تسخر مني .أنا أتصور أني أقص حكايات روحي الى روحي .. الى مرأتي التي تفهمني ،اليك .
- لا ياروحي أنا لا أسخر منك ولكني أستغرب من أين لك هذه الأفكار؟
- منك أنت الا تذكر أنني كنت استعير كتبا منك .
قال بتخابث مقصود :
- لو أدري تتفلسفين علي لما سمحت لكب أكمال دراستك في معهد المعلمات .
تركت كلماته معلقة في الفراغ ، ورحلت تداعب ذكرى أخرى , جلس أبوها متكئاً على مخدة الصوف المخططة بالآحمر والأصفر .
وجلس أخواها الأكبر سنا منها في الجهة المقابلة ، ولاذت هي وأمها بطرف المجلس
أطلق الأب كلماته دون تردد وكأنها قرار صاغته محكمة عسكرية
- حنان أنت كبرت وليس من اللائق ان تستمري بالدراسة .أكملت المتوسطة .. يعني تقدرين أن تقرأي مراسيل أخوانكِ أذا هم ذهبوا الى الجبهة .
لقد أقتصر دوري حسب رأي أبي في قرأة الرسائل ،وأبقى حبيسة البيت حتى يأتي أبن الحلال ..
لا أعلم حينها ماذا أصابني ؟
أجهشت بالبكاء ولكن بصمت .سالت دموعي في داخلي مثل نهر يجري تحت الارض .كنت اخشى غضب أبي ، ولا آمن أن يضربني أذا سمع صوتي . قالت أمي فيما يشبه الهمس:
- نشفي دموعك .. أستري علينا .
وفي هذه اللحظة بالذات شاء القدر أن يدخل فايق ليفتح لي بابا سريا الى الحياة . يصوغ لي قدرا لم أحلم به .
فايق الذي يكبرني بعشر سنوات وفي كثير من الاحيان كان يملأ جيوبي بالحلويات الملونة .. أنا طفلته الحبيبة .
شهادة أبي بحقي أنني أصبحت أمرأة أطفأت "بريق أحلام الطفولة , شعرت فعلاً أنني كبرت .
لم أستقبل فايق كما كنت أفعل قبل اليوم .. لم أقترب منه .. لم أبحث في جيوبه عن المصقول والمن السما .
أحسست بالدم يصعد سريعا إلى وجنتي . تركت رموشي تمشط عيني مثل عشب كثيف مثقل بالندى يتمايل مع الريح أسند ظهره الى شجرة التوت .
ساد الصمت لبرهة حسبتها دهراً .قال فايق:
- ما الخبر كأني جئت في وقت غير مناسب ؟
خرج أبي صمته وقال:
- لا ولدي فايق هذا بيتك لكنني قررت قبل ان تاتي أن حنان لن تكمل دراستها ..
- لماذا يا عمي (حنونة شاطرة ) وتحب المدرسة
- أبني فايق البنت أذا كبرت سترها بيت زوجها . يكفي أنها تعلمت القرأة والكتابة
عاد الصمت يضرب الوجوه ، لم يجرؤ أحد على مناقشة أبي .
ومضت عيون فايق بشي ما . مد يده إلى جيب دشداشتهِ وأخرج علبة سجائر نوع( ديمورية) وقدمها لآبي
قال أبي :
-أشعل لنا سجارتين .
أشعل فايق السيجارتين وقدم أحداها لأبي .. مجّ دخان سجارته بسرعة وقال:
- عمي تقصد أن حنان أذا أصبحت على ذمة رجل وسمح لها أن تكمل دراستها فأنت موافق؟
مرت أمي بصينية الشاي من بيننا .أستوى أبي في جلسته نزع بشماخه وعقاله عن رأسه .. بقي في طاقيته التي حال لونها الى الاصفرار بعد أن كانت بيضاء.
زفر أبي دخان سجارتهِ وقال:
- المهم أن تكون على ذمة رجل وهو حر (يسمحلها تكمل دراستها أو لا يسمح)
عبث فايق بشاربه وقال:
- عمي أسمح لي أن أطلب أيد حنان للزواج .
- ماذا ..كيف؛
- أنا أبن عمها وأحق بان أحافظ عليها فإذا وافقت سنعقد عند الشيخ وبعدها نكمل إجراءات المحكمة. وتبقى الزفة حتى تكمل حنان دراستها ، وأنا متكفل بكل مصاريفها
- أبني فايق كلك فلوس
- عمي أنت تدري انا عندي مزرعة خمسين دونم وأن شاء الله بس يطلع الأنتداب أرجع أداوم بالمستوصف
- على بركة الله .
لذت بظهر أمي ، وتمنيت أن تبتلعني الارض من الخجل ، وفي ذات الوقت تمنيت أن أطير من الفرح.
اليوم صاغني القدر صياغة ً جديدةً . كتب على صفحات طفولتي البيضاء لقد نزعت ثوب طفولتي في هذه الجلسة ، ولبست ثوبا أخر ، ثوبا فضفاضاً يتسع أحلامي كأمرأة .
تركت خلفي ركضي في حقول الذرة ، حيث نقطع عرانيص الذرة لنشويها ليلاً على النار . تركت تسميتي ( حنونة الشهبه) حيث يتراقص الزغب الأصفر لشعري أمام وجهي . تخليت الآن عن سلاح طفولتي ـ دموعي ــ أتذكر كيف كان فايق يمسحها لي بمندليه المعطر .
- شكرا لك يافايق , أنت منقذي ومؤنسي في عالم يكاد ينساني, أنت فتحت لي بابا للنور ، بفضلك أصبح أبي يستشيرني في بعض الأمور بأعتبار أني فاهمة ومتعلمة . أبي الذي لم يكن يسمح لأمي المسكينة بمناقشتةِ ..مرة واحدة .. نعم مرة واحدة تجرأت أمي واعترضت على كلام أبي ، كاد الأمر يتحول الى كارثة مفزعة . لازال المنظر عالقاً في مخيلتي التي أشعر أنها طرية وأنا اترقب عودة فايق من الجيش جلس ابي وشلح دشداشتهِ ثم رفع أكمامها الى مرفقيه وبين قدميهِ يرقد دن الرقي بخضرته الناعمة . غرس السكينة في منتصفه فانشق دوب جهد بصوت مفاجيء يشبه فرقعة الأصابع نضح منها سائلها الحلو . قال أبي:
- حنان أرسلي الى بيت عمك نصف دن الرقي .
وبدون سابق أنذار قالت أمي :
- لماذا ترسل لهم شيئاً ومتى ذكرونا بقليل أو كثير (قابل ) هم فقراء .
لحظة واحدة هي الحد الفاصل ، وجه ابي الذي تلبد بالغضب والسكينة التي رأيتها مغروسة في كرشة ساق أمي . أنفتحت ساقها مثل دن الرقي وسال دمها . وكذبنا بعدها وقلنا أنها سقطت على وتد الثور . خوفاَ على أبي من مسائلة الشرطة .
مرت ومضات الذكريات في ذهنها بلحظات .. مجرد صور تراكمت في نفسها وكادت ان تخنقها .
علاوي يصرخ في الحجرة ، وقد غسل وجهه بدموعه ، كان يستشعر خوف أمه وهواجسها ، روأها التي أنبتقت تهدهد قلقها .
الكلب المنبطح على الأرض يبصبص بعينه الذليلتين .قطعت رغيف خبز ورمته له . التهمه الكلب بأشتهاء وأمتنان .
قال تحدثه وقد وضعت أصبعها امام وجهه :
- أياك أن تتحرك من مكانك الليلة .. لا تذهب مع الكلاب في جولاتهم الجماعية .
هز الكلب ذنبه الاشعث 0 هرولت حنان تحمل ماء البلالة ، سكبته تحت الباب الخارجي لتطرد الشر . كان ثمة فتحه تسمح بدخول وخروج الكلب.
*************
ضحكت بوجه الطفل وخطت الى داخل الحجرة .
- (ها ماما علاوي جوعان .. حبيبي علاوي)0
سكت الطفل عن البكاء . احتظنته ورفعته الى صدرها ، شمت عنقه الصغير . مسحت وجهه بكم ثوبها . استكشفت الحجرة بعينيها المصباح اليتيم يغرق الحجرة بلونه الاصفر . رتجت الباب وضغطته مرتين بيدها لتتأكد من احكام رتاجه
هي والليل وعلاوي وفايق..
أنزلت علاوي من حضنها فتأوه أستعداد للبكاء . ابتسمت بوجهه.
- لا حبيبي لا تبكي سأعد العشاء ، وقلبي يحدثني أن أباك سيأتي الليلة .
قربت الصينية الفافون ووضعت طاستين في وسطها . طارت مثل فراشة ثملة بالرحيق . أحضرت خيارة وشقتها نصفين ثم ذرت عليها قليلا من الملح . اعطت علاوي نصفها .
- (علاوي حك سنونك حتى ما تعظني عند الرضاعة) .
أنشغل الطفل عنها بقطعة الخيار . قطعت الخبز قطعا صغيرة في طاسة علاوي ، صبت فوقها قليلا من مرقة العدس .
صبت لنفسها مثل ذلك . بدآت تلقم الطفل لقيمات صغيرة يزدردها بشهية . ويعض على اطراف أصابعها . شعرت بدغدغة أسنانه .
كانت منتشية بترقبها الليلي لعودة فايق ، في قلبها ثمة سعادة ملبدة بغيوم القلق ، وهي بين ذينك الحالين مثل أعواد القصب حين تأرجحها الريح .. فتبدو كأنها توشوش بعضها البعض .
ضحك الطفل .. لوح بيديه .. هز رأسه يمنه ويسره قالت:
- (شبع حبيبي علاوي .. بابا سيأتي الليلة) .
مد الطفل أصبعه مشيراً الى شماعة الملابس .. كانت ملابس فايق مرتبة ومعلقة بعناية . أندهشت المرأة لآنها المرة الأولى التي يفهم فيها كلمة (بابا) ، لقد شاركها فرحتها.
كادت المرأة أن تذوب من الفرح . لقد نطق كلمة ( با..با)وهو يشير الى الملابس.
مسحت فمه الذي سال من جوانبه خيطان من المرق .. مسحت يديه اللطيفتين وقبلتهما تثائب الطفل بعمق قالت:
- (حبيبي بعده نعسان . أبقى مع أمك ورد وحشتها) .
وضعته في مهده الخشبي . بدات تهدهده .. ركز عينيه في وجهها , وحين تعب سمّر عينيه في سقف الحجره.
بدت عيناه مثل بندول ساعة قديمة . تتأرجح الى الجانبين 0
- (دللول يالولد يابني دللول)0
كان صوتها رغم سعادتها يبدو وكأنها على وشك البكاء وهناك عبر الحقول التي تراكمت الظلمات فيها ، حيث تتشابك سعفات النخل .تعالت أصوات بنات أوى بالعواء ردت الكلاب برشقات من النباح المتقطع قالت:
- كم تحت جنحك من جريمة ياليل
أكملت أكلها في صمت تنظر في وجه ملاكها النائم .
- مااطيب الطعام وما أكثر نعم الله علينا لولا الهموم التي تسد بيبان الروح.
بقيت كلماتها الأخيرة تتماوج في صمت الحجرة الموحش ، و المصباح الأصفر ينز ضوءه مثل ذرور أصفر.
رفعت أبريق الشاي الفرفوري . صبت لها(أستكان) شاي مهيل تأوهت محلقة مع صوت ملعقة الشاي ورنتها المألوفة .
قالت : فايق كيف تتحملون الفراق أنتم الجنود ؟
نفث دخان سجارته بعيدا عن وجهها . شعر أن سؤالها المفاجيء يحتاج الى جواب من نوع خاص.
- للرجال طرقهم في التغلب على الفراق.
- كيف؟
- بعضهم يتحججون بالمرض ليحصلوا على أرسال للمستشفى ويكتفون بمشاهدة النساء كيفما كن جميلات .. قبيحات المهم أنهن نساء والبعض الأخر لا يكفيه ذلك .
- ماذا يفعلون ؟
- أنت حقا بريئة ، أكيد يذهبون الى البيوت المشبوهه ليطفؤا جوعهم , يغمسون أرواحهم في برك الرذيلة , ويعودون برائحة أثمهم التي لا تفارقهم حتى بعد أغتسالهم.
- وانت ماذا تفعل؟
فترت شفتاه عن أبتسامة وقال:
- من أين لي بأمرأة مثلك ؟ حتى لو وجدت أمرأة تشيه بعض ملامحك . فمن أين لها روحك الطيبة ؟
- يعني الا تنظر الى النساء؟
- قد أنظر الى بعض النسوة اللواتي أجد فيهن بعضا من ملامحك .أنتفخت روحها كالبالون.أرضت كلماته غرور الأنثى وكبريائها .
أغمضت عينيها تتشرب كلماته . سبحت في أعماق روحها المستلبة نحو شواطئه الأمنة .أوجزت كل رقة الأنثى وجمالها في كلمتين .. ياروحي ... ياقلبي. حلقت كلماتها في فضاء روحه، مثل فراشة ملونه مثقلة بحبوب الطلع أشتعلت لها حدائق الورد .. الأرض اليباب( روحه) أمطرتها الكلمات ماءاً غدقاً ، قالت:
- يجب أن نأخذ صورة ملونة أنا وأنت
- ومن قال أنني أحتاج الى صورة لآتذكرك .. أنت مرسومة هنا وهنا ( أشار بأصبعه الى رأسه وقلبه)
((السّفط الذي حاكته امي 0
بالخوض الملون ودموع الأغاني المرتجلة ))
أعادها الى الواقع صوت طلق ناري تلته أطلاقات أخرى جعلت الهواء يهتز , وتتخلخل الرئة الكونية 0 خمنت ..امرأة مافي مكان ما تغتصب الليلة بطريقة شرعية 0
أخرجت سفطها الأثير - ( يصنع من الخوص الملون تضع المرأة فيه زينتها وأشياءها الخاصة يشبه علبة المكياج التي تستخدمها النساء في زماننا ) - . رفعت الغطاء الدائري .. تضوعت منه روائح مختلفة , تطايرت الأسرار الصغيرة, والذكريات مضغت قطعة الديرم .
أحست بطعمه اللاذع يدغدغ لثتها وأسنانها . مررت عود المكحلة بين جفنيها .وقفت أمام المرأة ومسدت شعرها المشدود الى الخلف . أعادت الزغب الأصفر لشعرها الى ماخلف أذنيها ضمخت وجهها وصدرها بالعطر0 شكها منقار الطاووس المشرئب الى الأعلى , لمعت عيته الوحيدة ببريق خاطف قالت : لماذا أنا خائفة؟ متحصنة خلف الباب وجدران الحجرة .
كل الأشياء تهمس لي .. الليل وبنات أوى .. الأنثى المغتصبة الأن تداري خزي ليلتها بمنديل الشرف.. العيون المتلصصة .. الأذان المترقبة لأدنى صوت .. علاوي الذي ينام بوداعة وعلى وجهه أبتسامة ولكن لمن ؟ لآمه أم لابيه الغائب أم لملائكة أحلامه ؟ وضعت أذنها على الباب .. أنصتت للهمس المتواصل .. لا شيء .. أنها مهجورة رغما عنها.أستلقت بجانب المهد على مفرش الأسفنج .
فكرت .. حلمت أن فايق في طريق العودة . يحمل حقيبتة الصغيرة المملوءة بأحلام مؤجلة .. أغفت , وحلق طاووسها الى حيث فايق 0.بقيت ممددة كالقربان تنتظر نهاية الليل.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat