صفحة الكاتب : د . اسامة محمد صادق

وحدها شجرة الرمان
د . اسامة محمد صادق

لم يكن من السهل على أي قارئ أن يتم قراءة رواية من (256) صفحة في يوم واحد الا اذا كانت تلك الرواية تحمل في طياتها واقع يعيشه القارئ ويأمل أن يجد فيه ضالته بأن لا يعيد الواقع تكرار أحداثه بالطريقة ذاتها!! ..هذا ما حصل معي ووحدها شجرة الرمان تعرف كيف حدث ..ولا مناص أن تعرفوا انتم أيضاً..أذ انني وفي صبيحة يوم عراقي نازح ، وقعت بيدي رواية الكاتب العراقي الدكتور سنان انطون والصادرة عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت.

وقد أعتدت كقارئ أن تكون (عتبة العنوان)المحرك الاول التي تدفعني الى القراءة وأن اقف وقفة متأنية أستلهم منها آلية التأويل والبحث عن صلة النص بالعنوان ، و(عتبة العنوان) كما يقول الدكتور الناقد محمد صابر عبيد .. (هي تاج عتبات الكتابة، إنّها من دون أدنى شكّ العتبة الأظهر والأقوى والأكثر استفزازاً لمحرّكات القراءة وميكانيزماتها)..

أن عنوان الرواية (وحدها شجرة الرمان ) كان له خاصية جذب فريدة مكنني من الغوص في متن النص الذي أُستهل بكابوس يستيقظ فيه البطل (لاهثاً ومبللاً بالعرق) وهو نفس الكابوس الذي كان يتكرر عليه منذ أسابيع مع تغيرات طفيفة ..لكن هذه المرة فهم دلالته إذ يقول :

(لعله الموت يضحك علي ويقول لي : ظننت أنك تستطيع الهرب مني أيها الاحمق )!!

الرواية باختصار تسجل لنا تاريخ العراق الحديث بكل أحزانه واتراحه وفواجعه منذ بدء الحرب على أيران والى الان .

الراوي فيها البطل(جواد كاظم) الرسام والنحات الذي كان يتمنى أن يصبح مشهوراً سيما وأنه يملك الموهبة التي مكنته لأن يكمل دراسته في كلية الفنون التشكيلية رغم رفض الاب في أن يخرج الابن مدرساً للرسم خاصة وأن معدله يؤهله للقبول في كليات أخرى غيرها وأنه كان يتمنى لو أنه أمتهن (غسل الموتى ) الموروثة عن أجداده فهي أضافة الى كونها مهنة تمنحه أجراً عظيماً عند الله يكون فيه العبد في طمأنينة ، كذلك هي توفر قوت دائم للعيش بكرامة في هذه الحياة .

(جواد كاظم ) رغم إتقانه المهنة بعد إستشهاد أخيه الكبير الدكتور أموري المساعد الاول لأبيه أثناء فترة صباه وحتى دخوله الكلية وتخرجه منها والالتحاق بالجيش ، ألا أنه لم يحبها أبداً وكان يجد فيها مهنة غير لائقة عند الاخرين وكان مضطراً لأثبات حبه لأبيه وأنه لا يختلف عن أموري بشيء فكان يؤثر على نفسه الذهاب والمساعدة حتى تم إتقانها بمرور الزمن .

يقع البطل أثناء دراسته بحب ريم التي أستشهد زوجها وأصبحت أرملة ثم لم يلبث أن يخطبها رغم الفارق الكبير بين العائلتين إذ انها تنتمي لعائلة غنية جداً لأب تاجر ،إضطر الأب للموافقة درءاً للمشاكل التي كانت تقع بين ريم وزوجة الأب السليطة ..

الا إن الامر ينتهي عند اختفاء (ريم) وسفرها المفاجئ وقد تبين له من خلال رسالة واحدة وصلته منها إنها أصيبت بسرطان الثدي وأنها لا تريد ان تعيش معه بنقص مثير من جسدها ولا تحتمل الشفقة منه.

ثم تتوالى عليه المصائب إذ ما يلبث بعد تلك الواقعة حتى يجد أبيه مرمياً على سجادته أثناء صلاة الصبح ميتاً في غرفة المعيشة و في ظرف صعب للغاية يمر به البلد ينتهي باحتلاله عام (2003) للتوالى بعدها سلسلة أخرى من المآسي من قتل وفتك وتدمير لكل مؤسسات الدولة وبث الفتنة الطائفية بين الشيعة والسنة وبقية المذاهب والطوائف والاديان ..ولطالما حاول (جواد كاظم ) أن يبتعد عن مهنة أبيه وأجداده إلا انه يجد نفسه بعد رحيل والده واختفاء (حمودي) مساعد أبيه الذي تبنى العمل بعده وكان يشاطرهم اكراميات الغسل .محاطاً بديون كثيرة ترتبت بعد تلك الاحداث قبول جواد مضطراً للعودة الى العمل بمساعد جديد فرض عليه من قبل السيد (الفرطوسي ) صاحب المرحوم ويعمل أيضا على دفن الموتى مجهولي الهوية طمعاً بالأجر وإيفاء بنذر قطعه على نفسه حيث كان شاهداً على مجازر تعرض لها الجيش العراقي بعد انسحابه من الكويت كان فيها جندياً وهبت له الحياة مع صديق له بأعجوبة ..

كانت صورة الموتى التي تصل (للمغيسل) تحمل أبشع طرق القتل ، جسداً مقطعاً ، وأخر بلا رأس ، ورأس بلا جسد ،وأخرى جثة لشاب لم يتجاوز عمره (24)عاماً قضي بسبب تناوله الحبوب المخدرة ..وصورة اخرى كثيرة وجميعها مأخوذة من واقع إستطاع الروائي أن يوظفها بطريقة مرعبة ولتكون نداء استغاثة للعالم أجمع يطلب منهم أن يوقفوا تلك المجازر بحق شعب كريم طيب معطاء محب للحياة ..

كانت الحياة اليومية للبطل تتحول الى كابوس دائم يلاحقه في نومه فمرة يأتيه الكابوس بهيئة شيخ هرم بحلية بيضاء يطلب منه كتابة اسماء ستقطف أرواحهم غدا وعليه أن يغسلها وصورة اخرى لدم يسيل من التلفاز ويغطي المكان وصورة لدكة طولها عشرات الامتار تصطف عليها جثث كثيرة وصوت يصرخ (ماذا تنتظر؟ ) وإذا بأبيه يجلس في الزاوية وعلى كرسيه وبيده مسبحته ثم ما تلبث أن تتكرر صورته في اماكن مختلفة ثم تختفي ...

ظهور العم صبري الشيوعي الذي ترك العراق بعد حكم البعثيين أعطى للرواية صورة أخرى يفضح من خلالها صور الابطال الذين كان يقتدي بهم وينتظر منهم مواقف مشرفة بعد أن حانت لهم فرصة التغير لواقع فرضه الاحتلال واذا به ينصدم لأفعالهم وطريقة ادارتهم لحزب آمن ذات يوم بفكره وانتهى لأن يكون جزء من منظومة حكم صنعها الامريكي الغاصب لتعطي الوجه المزري في حكم العراق ولتاريخ حزبه ..العم صبري ينتهي به الامر بالعودة الى ألمانيا حاملا ً وثائق مأساوية لبلد الحضارات ...

ظهور غيداء كحب جديد مع جواد من خلال عائلة نزحت بفعل الطائفية الهوجاء لتستقر مؤقتاً في بيته فتأنس أمه الوحيدة بهم وينتهي أمرها بأن يتزوجها فيرفض بحجة أن حياته لا تصلح لهذا الامر منحت الرواية جمالاً أخر يريح القارئ بعد قراءة مستفيضة للقتل والتهجير وصور الموت ..

 

 

الرواية تنتهي عندما يعزم جواد ترك العراق نهائياً بعد توسلات أمه التي ينتهي بها الامر لأن تكون ضيفة عند أخته وزوجها ثم ما يلبث أن يعود مرغماً بعد أن منعته الحدود الاردنية من الدخول كونه عازب لا عائلة له ..لينتهي به المطاف عند شجرة الرمان التي بقت منتصبة في مكان عمله تعيش وتورق ثمراً من ماء غسيل الموتى فتكون شاهداً على جريمة كل العصور على مر التاريخ لبلد ظهرت فيه أول الحضارات ونسلت منه الأمم لتحيا بعز وشموخ وزهو ويندثر هو بمصائب لا تنتهي وتتجدد بين فينة وأخرى ...أن اختيار الروائي (المغيسل ) أو محل تجهيز الموتى كمكان تتشعب من خلاله كل أحداث الرواية اختيار موفق يفضح من خلاله كل جرائم الساسة الدخلاء والقادة والعصابات التي راحت تهتك بكل معاني الحياة وتسفك بدم الابرياء وتعيد البلد الى عصور القتل فيها السمة البارزة للبقاء ، كما أن الحوارات التي تعمد فيها الروائي أن تكون بلهجة عراقية بغدادية تعطي دلالة أنها رواية عراقية خالصة تحمل اوجاعهم دون كل البشر وتدعوهم لتجاوز كل الفتن (وأن لا تكون قلوبهم كرمانة يابسة تنبض بالموت وتسقط في كل لحظة في هاوية بلا قرار)..


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


د . اسامة محمد صادق
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2015/07/27



كتابة تعليق لموضوع : وحدها شجرة الرمان
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net