كثيراً ما كنت أتمنى وأنا أقلب النسخ المتوفرة لدي من مجلة "ناشينال جيوغرافيك" الأميركية، أن تقوم جمعية جغرافية وطنية بدراسة المدن والأرياف العراقية بطريقة عصرية. وتقوم بالتعريف بالظواهر الطبيعية والمناخية والسكانية في البلاد. لتقدمها بعد ذلك إلى القارئ والباحث على طبق من ورق، موفرة بذلك قاعدة بيانات متكاملة للدوائر والمؤسسات الاقتصادية والعسكرية والثقافية في العراق.
والواقع أن العراقيين عموماً يفتقرون إلى معلومات دقيقة عن البيئة التي يعيشون فيها، ولا يكادون يلمون بخصائص الأقضية والنواحي والقرى التي تقع بعيداً عنهم. فضلاً عما تتميز به من طبيعة، وتضاريس، ومزروعات، وحيوانات برية، وقبائل، وأديان، ومذاهب، وآثار. وبسبب ذلك كانت مهمة الكتاب والباحثين العراقيين، الذين يكلفون بإعداد ملفات عن هذه البقاع، شاقة وعسيرة. وهي في الغالب جهود فردية محضة.
لقد قامت مديرية المساحة العامة بتكليف إحدى المؤسسات البريطانية في أوائل الخمسينات بمسح البلاد من الجو، وإعداد خرائط مفصلة بمقياس رسم 1: 100000 . وهذه الثروة الهائلة التي امتلكتها مديرية المساحة العامة هي التي يسرت إقامة مشاريع عملاقة في العراق. وهي التي أمدت الوزارات والإدارات المحلية والدوائر الخدمية بما تحتاجه من معلومات.
ولكن هذه الخرائط لا تغني عن الصور والاستطلاعات الميدانية والدراسات والتقارير التي تنقل من الأرض مباشرة. لأن الخرائط مجموعة من الرسوم التي تهم ذوي الاختصاص ليس إلا. ولا يستطيع فك رموزها غيرهم من المواطنين.
وقد لا يفطن البعض إلى أن الجغرافية التفصيلية هي شأن ثقافي في المقام الأول. وأن دورها لا يقتصر على إعطاء تصور عن حجم البلاد وعدد السكان وتوزيع الثروات، بل يتجاوز ذلك إلى تيسير الانتقال من حال لأخرى، ومن مستوى حضاري لثان. ويقدم المعلومات اللازمة لتقدير ما يمكن فعله في هذا الاتجاه.
وأود التذكير أن عملاً ثقافياً ضخماً هو الاستشراق، بدأت ملامحه تتضح لأول مرة بسلسلة رحلات تعريفية قام بها أكاديميون وكتاب وشعراء ومفكرون وآثاريون إلى دول الشرق الأدنى، وأن تراثاً هائلاً دون في بحر ثلاثة قرون، عن هذه المناطق بمختلف اللغات. ومن هؤلاء الرحالة لامارتين وماسينيون وجب ورينان وبيرتون وكبلنغ ونولدكه.. وغيرهم كثير.
وقد أدى عمل جغرافي ضخم، هو حفر قناة السويس في ستينات القرن التاسع عشر، إلى تغييرات ثقافية هائلة في أوربا. فتصاعدت حركة الترجمة والنقل من اللغات الشرقية إلى الأوربية. وأدرك الأوربيون أن الشرق سبقهم إلى الحضارة بآلاف السنين، وأن الحديث عن تفوق الجنس الأبيض إن هو إلا وهم كبير.
وإذا ما عجزت جمعية جغرافية مفترضة عن الاضطلاع بهذه المهمة، فلا شك أن في وزارة الثقافة خير كثير، ومال وفير. وهي قادرة على تعزيز اللحمة الوطنية بمثل هذه المبادرة الجريئة، التي تشكل دون شك، انعطافة كبرى في الثقافة العراقية نحو البناء والعمران والعقلانية.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat