صفحة الكاتب : السيد اسعد القاضي

وأبدى ربيب النفاق نصيحته
السيد اسعد القاضي

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
بيت الله الحرام.. يقصده الناس من كلّ فجّ عميق.. تزدحم عنده الأبدان.. يكثر فيه الضجيج.. ينظر الناظر إليهم فيحدّث نفسه: ما أكثر الحجيج!.. ثم يعود لرشده فيعترف: بل ما أقلّ الحجيج وأكثر ضجيجهم!.. إن أكثر هؤلاء تميل قلوبهم نحو من اتّخذ سبيل الغيّ سبيلاً؟! فهم ليسوا بحجيج.. لا وجود لهم.. بل الوجود فقط لضوضائهم.. لضجيجهم.. أما من اتّخذ سبيل الرشد سبيلاً فقليل ما هم.. لا يخلو منهم زمان.. لو لا أن منّ الله علينا بهم لخسف بنا..
 لم يكن موسم الحج عام (٦٠) للهجرة مختلفاً عن الأعوام السابقة.. فهو مجمع للناس ومُلتقى.. على اختلاف توجّهاتهم وأفكارهم وثقافاتهم.. يجتمع الشريف والوضيع.. السيد والمسود.. الحر والعبد.. سوى أن موسم الحج هذا العام يحمل طابعاً مختلفاً.. يتّسم بِسِمَة خاصة.. حيث الحسين (ع) سبط رسول الله (ص) متوجّه تلقاء مكة.. عسى ربه أن يهديه سواء السبيل.. معه عدد ليس بالقليل من أهل بيته.. نسائه وأطفاله.. حلّ الوقت المناسب ليقف (ع) ضد الطغاة.. ليرفع شعاراً ما رُفع من قبل.. حيث لم تكن الظروف مؤاتية.. لا للحسين (ع) ولا لمن قبله.. مثلي لا يبايع مثل يزيد.. معلناً للكافّة عدم أهلية يزيد للخلافة والولاية.. مبيّناً أن الخلافة حيث يضعها الله.. لا حيث يختارها الناس بأنفسهم.. كي لا تكون دولة بين جبابرتها.. ولا يتسلّط قويّ على ضعيف.. ولا يُبخس حقّ في هذه المعمورة..
لم يترك الحسين (ع) فرصة الا انتهزها.. صرّح ـ وبكل وضوح ـ بموقفه من خلافة يزيد أمام ملأ المعتمرين والحجيج.. حاول بعض أصحاب المصالح الوقتيّة أن يُثنوا الحسين (ع) عن عزمه.. من أجل يضع يده بيد يزيد صاغراً.. لكنّ حرص السبط الشهيد على الدين وعلى مستقبل الأمّة لا يسمح بذلك.. الظرف مناسب.. الفرصة مؤاتية.. وقبل كل ذلك وصية الجليل سبحانه وعهده لسيد الشهداء (ع) بعدم السكوت في هذا الظرف بالخصوص.. في حين عهد له بالسكوت في فترة حكم معاوية.. هذا هو شأن الأنبياء والأوصياء مع ربّهم.. يسيرون وفق التخطيط الإلهيّ.. فما كان من داعٍ ــ والحال هذه ــ إلى السكوت.. بل العوامل كلها داعية إلى موقف صريح.. خطوات جادّة.. إعلام مدروس.. إيصال الصوت إلى أبعد نقطة في المعمورة لا يكون إلا عَبْر آلاف الحجّاج والمعتمرين.
عبد الله بن عمر لم يُحسن شيئاً.. حتى طلاق امرأته.. هكذا وصفه أبوه.. قدم نصيحته لسيد الشهداء (ع) في بيعته ليزيد.. حينما جمعه مجلس مع الحسين (ع) وعبد الله بن عباس.. أشار ابن عمر عليه أن يبايع.. يدخل في ما دخل الناس فيه.. تجاهل أن الحسين (ع) ليس كعامة الناس.. تناسى أن الحسين (ع) هو الإمام الحق.. وهو أولى بقيادة الأمة من يزيد وأمثاله، بل من كل أحد.. ليس فقط لأنه المنصوب من قِبل الله تعالى.. الحسين (ع) يحمل مؤهّلات ترقى به نحو الكفاءة في قيادة الأمة..
ابن عمر: أبا عبد الله! رحمك الله، اتق الله الذي إليه معادك، فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت لكم وظلمهم إياكم... وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه الناس، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل، فلعل الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين.
لقد آن الأوان للمصارحة.. للمكاشفة.. للتذكير بالحقائق المرّة.. حقائق لا يطيقها سمع من سار في ركاب أرباب السقيفة.. هذا هو وقت الحجج الدامغة.. وإن كان الحسين (ع) يدرى أن الحجّة والموعظة لا تنفع.. إلا لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد..
الحسين (ع): أبا عبد الرحمن! أنا أبايع يزيد وأدخل في صلحه، وقد قال النبي (ص) فيه وفي أبيه ما قال؟.
لم يُطق ابن عمر سؤال الحسين (ع)، فهل تراه مجيباً والحال هذه؟.. انتقل الحوار إلى ابن عباس.. بدوره أجاب بالحقّ.. نطق بالصدق..
ابن عباس: صدقت أبا عبد الله، قال النبي (ص) في حياته: ما لي وليزيد؟! لا بارك الله في يزيد، وإنه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين، والذي نفسي بيده لا يقتل ولدي بين ظهرانيّ قوم فلا يمنعونه إلا خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم.
بكى ابن عباس.. أعادته الذكريات إلى الوراء.. كأن رسول الله (ص)حاضر الآن يخبر عما سيُرتكب في حق سبطه الشهيد.. بكى الحسين (ع) معه.. التفت السبط إلى ابن عباس.. أراد أن يُسمع ابن عمر.. يؤكّد بالحجّة عليه..
الحسين (ع): يا بن عباس، تعلم أني ابن بنت رسول الله (ص)؟.
ابن عباس: اللهم نعم، نعلم ونعرف أن ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله (ص) غيرك، وأن نصرك لفرض على هذه الأمة كفريضة الصلاة والزكاة، التي لا يقدر أن يقبل أحدهما دون الأخرى.
الحسين: يا بن عباس، فما تقول في قوم أخرجوا ابن بنت رسول الله (ص) من داره وقراره ومولده وحرم رسوله ومجاورة قبره ومولده ومسجده وموضع مهاجره، فتركوه خائفاً مرعوباً، لا يستقرّ في قرار، ولا يأوي في موطن، يريدون في ذلك قتله وسفك دمه، وهو لم يشرك بالله شيئاً، ولا اتخذ من دونه ولياً، ولم يتغير عما كان عليه رسول الله (ص) والخلفاء من بعده؟.
لم يعُد للمجاملة موضع.. ولا للمداهنة محل.. ذاك زمان ابتلينا به من قبل.. يوم كان ابن عباس يداهن هذا ويجاري ذاك من أجل أن يلقي بحجته البالغة عليهم.. كي يذكّرهم بأنهم أبطلوا الحقّ وأقاموا الباطل.. اليوم تبدّل الظرف.. أراح الله من جور ذلك الزمان.. فإذا كان حجة الله في أرضه يتكلّم بصريح البيان، فكيف بابن عباس؟!.. أقبل نحو الحسين (ع) مجيباً له على سؤاله.. هما عالمان بالسؤال وجوابه.. لكن الغاية هي إسماع من لا يرغب الاستماع..
ابن عباس: ما أقول فيهم إلا (انهم كفروا بالله وبرسوله ولا يأتون الصلاة إلا وهم كسالى) (يراؤون الناس ولا يذكرون الله إلا قليلاً*مذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً)، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى.
وأردف يدلي بقناعته التي انطوى عليها قلبه.. هدفه إسماع ابن عمر..
ابن عباس: وأما أنت يا بن بنت رسول الله فإنك رأس الفخار برسول الله (ص)... أنا أشهد أن من رغب عن مجاورتك وطمع في محاربتك ومحاربة نبيك محمد (ص) فما له من خلاق.
الحسين (ع): اللهم اشهد.
لا يزال ابن عمر يُصغي وقلبه محتدم.. خشى أن يضيف ابن عباس إلى قوله قولاً.. أن يستخرج كل ما في قلبه من كلام انطوت عليه نفسه سنين طوال.. عبّر ابن عباس عن استعداده لبذل مهجته في سبيل الحسين (ع).. في سبيل دين جده (ص)..
ابن عباس: جعلت فداك يا بن بنت رسول الله، كأنك تريدني إلى نفسك، وتريد مني أن أنصرك؟! والله الذي لا إله إلا هو أن لو ضربت بين يديك سيفي هذا حتى انخلع جميعاً من كفّي، لما كنت ممن أوفّي من حقك عشر العشر، وها أنا بين يديك، مُرني بأمرك.
 تصريحات ومواقف أحرجت ابن عمر.. لا يسعه السكوت وهو يرى ابن عباس يبدي استعداده للتضحية بين يدي السبط.. كما لا يسعه أن يُبدي رأيه بما يجري.. صمت الجميع.. ينظرون أيّ كلمة ستكسر جدار الصمت.. وجّه ابن عمر بكلماته نحو ابن عباس يقرّعه على تصريحاته..
ابن عمر: مهلاً، ذرنا من هذا يا بن عباس.
وتوجه نحو سيد الشهداء (ع).. يمنّيه السلامة.. يعرض عليه الرجوع إلى المدينة.. يحاول إقناعه ببيعة يزيد..
ابن عمر: أبا عبد الله، مهلاً عما قد عزمت عليه، وارجع من هنا إلى المدينة، وادخل في صلح القوم، ولا تغب عن وطنك وحرم جدك رسول الله (ص)، ولا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على نفسك حجة وسبيلاً، وإن أحببت أن لا تبايع فأنت متروك حتى ترى برأيك، فإن يزيد بن معاوية عسى أن لا يعيش إلا قليلاً، فيكفيك الله أمره.
الحسين (ع): أفٍ لهذا الكلام أبداً ما دامت السماوات والأرض، أسألك بالله يا عبد الله أنا عندك على خطأ من أمري هذا؟ فإن كنت عندك على خطأ فردني، فإني أخضع وأسمع وأطيع..
يعلم سيد الشهداء (ع) أن ابن عمر لا يمكنه أن يتّهمه بالخطأ..
ابن عمر: اللهم لا، ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسوله على خطأ، وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول (ص) على مثل يزيد بن معاوية باسم الخلافة، ولكن أخشى أن يُضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف، وترى من هذه الأمة ما لا تحب، فارجع معنا إلى المدينة، وإن لم تحب أن تبايع فلا تبايع أبداً واقعد في منزلك.
الحسين (ع): هيهات يا بن عمر! إن القوم لا يتركوني، وإن أصابوني وإن لم يصيبوني فلا يزالون حتى أبايع وأنا كاره أو يقتلوني، أما تعلم يا عبد الله أن من هوان هذه الدنيا على الله تعالى أنه أتي برأس يحيى بن زكريا (عليه السلام) إلى بغية من بغايا بني إسرائيل، والرأس ينطق بالحجة عليهم؟.
لم يكن الحسين (ع) ليترك ابن عمر دون أن يطوّقه بالحجّة الصريحة البالغة.. ليأتي يوم القيامة وليس له من جواب.. ليحملوا أوزارهم كاملة يوم القيامة .. دعاه إلى نصرته صريحاً..
الحسين (ع): اتّق الله أبا عبد الرحمن ولا تدعن نصرتي.
إن الذي ينمى إلى النفاق والشقاق لا تُرتجى له الهداية والميل نحو الحقّ.. ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم.. على أبصارهم غشاوة من النظر بعين الصواب.. لا تنفع فيهم موعظة.. لا تهزّهم عِبرة.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


السيد اسعد القاضي
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/11/26



كتابة تعليق لموضوع : وأبدى ربيب النفاق نصيحته
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net