مدرسة عاشوراء {18} *المواجهة السياسة للأرستقراطية الأموية في خطاب عقيلة الوحي*
السيد ابراهيم سرور العاملي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
لقد صرّحت العقيلة زينب بمعرفتها المسبقة بواقعة كربلاء في الحديث الذي نقله ابن قولوية القمي ( المتوفى سنة : 367 هـ أو 368 هـ ) في كتابه ( كامل الزيارة ) وهو كتاب اعتمد كبار العلماء على رواياته وأسانيده ,والحديث مروي بسند متصل إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام قال : (إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا ، وقتل أبي عليه السلام، وقتل من كان معه من ولده وإخوته وساير أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر إليهم صرعى ، ولم يواروا ، فيعظم ذلك في صدري ، ويشتد لما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيّنت ذلك مني عمتي زينب بنت علي الكبرى ، فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي ؟ .
فقلت : وكيف لا أجزع ولا أهلع ، وقد أرى سيدي وأخوتي وعمومتي ، وولد عمي وأهلي مصرّعين بدمائهم مرّملين بالعراء ، مسلّبين لا يكفّنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر ، وكأنهم أهل بيت من الديلم والخزر ؟.
فقالت : لا يجزعنك ما ترى : فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله صلي الله عليه و آله إلى جدك وأبيك وعمك ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معرفون في أهل السماوات ، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة ، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يدرس أثره ، ولا يصفو رسمه ، على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر ، أشياع الضلالة ، في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلا علواً .
فقلت : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟
فقالت : حدثتني أم أيمن ـ مولاة رسول الله ـ أن رسول الله صلي الله عليه و آله زار منزل فاطمة في يوم من الأيام . وتستمر السيدة زينب في حديثها الطويل لابن أخيها زين العابدين نقلاً عن أم أيمن وهي تعدد ما يجري على أهل البيت من حوادث بعد رسول الله صلي الله عليه و آله حسب ما أخبر به رسول الله صلي الله عليه و آله ومن بين تلك الحوادث واقعة كربلاء ,ثم تعقب السيدة زينب على ما نقلته عن أم أيمن بقولها : (فلما ضرب ابن ملجم لعنه الله ) أبي عليه السلام ورأيت أثر الموت منه قلت : يا أبة حدثتني أم أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك,فقال : يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن وكأني بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد ـ أي الكوفة ـ اذلاء خاشعين) .
ولأجل هذه المعرفة الكامنة في ذهن ومشاعر السيدة زينب عليها السلام نجدها قد أخذت موقعها التاريخي بوعي وإدراك مسبق جنباً إلى جنب ابن أخيها الإمام المعصوم زين العابدين عليه السلام وأنها كانت المبادرة للمشاركة, كما احتفظت بزمام الأمر في مختلف المواقع والوقائع الثورية .
وللسيدة زينب في الكوفة تاريخ وذكريات ، فقد كانت سيدة الكوفة أيام خلافة أبيها أمير المؤمنين علي عليه السلام قبل عشرين سنة من دخولها الآن . فلابد من موقف بطولي يعيد لها هيبتها ووقارها كأبنة خليفة للمسلمين قد جار الزمان عليها,عن حذلم بن كثير قال : (قدمت الكوفة سنة 61 هـ عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة ومعه النسوة، وقد أحاط بهم الجنود ، وقد خرج الناس للنظر إليهم ، وكانوا على جمال بغير وطاء، فجعلن نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن, ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلة، وفي عنقه الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه ، وهو يقول بصوت ضعيف : إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا ؟ ! قال حذلم بن كثير : ورأيت زينب بنت علي ، ولم أر خفرة أنطق منها, كأنها تفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين، وقد أومأت إلى الناس أن أسكتوا ، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأصوات ، فقالت : (الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار . . أما بعد : يا أهل الكوفة, يا أهل الختل والغدر ,أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ,إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ,ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف ، والكذب والشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ,أو كمرعى على دمنة ، أو كقصة على ملحودة ,ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون ,أتبكون وتنتحبون ؟ أي والله, فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ,فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً,وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ، ألا ساء ما تزرون ! وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ورسوله وضربت عليكم الذلة والمسكنة , ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ؟,وأي كريمة له أبرزتم ؟ وأي دم له سفكتم ؟ ,وأي حرمة له انتهكتم ؟ لقد جئتم شيئاً إدّا ! تكاد السماوات يتفطّرن منه ، وتنشقّ الأرض ، وتخرّ الجبال هدّا ,ولقد جئتم بها خرقاء ، شوقاء ، كطلاع الأرض ، وملء السماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون, فلا يستخفنكم المهل ، فإنه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثأر ، وإنّ ربكم لبالمرصاد, قال الراوي : فوالله لقد رأيت الناس حيارى يبكون ، قد ردّوا أيديهم في أفواههم ، ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته بالدموع ، ويده مرفوعة إلى السماء وهو يقول : بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير النسل ، لا يبور ولا يخزي أبداً , فقال لها الإمام : علي بن الحسين : (أسكتي يا عمة فأنت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة).
لم تكتفي الحكومة الأُموية بقتل الحسين عليه السلام فحسب, بل دعتهم أحقادهم القديمة وموروثاتهم القبلية إلى هتك ستر البيت المحمدي, وذلك من خلال تسييره وعرضه على القاصي والداني , وكانوا يرومون من خلاله استعراض قدراتهم العسكرية, وبث الرعب في قلوب من يحاول التجرئ على مملكتهم ,إلاّ أن هذا الركب أحدث في قلوب الناس بركاناً من الغضب وهم يسمعون كلام الرأس الشريف وهتاف الأطفال بصرخة الإباء, فكان حقاً تظاهرة إعلامية تؤجج المشاعر وتلهب العواطف ضد السلطة الظالمة .
ولم تترك العقيلة زينب موسعاً من جهدها إلاّ وجسدته بخطاب تلهب من خلاله القلوب الغاضبة على بني أمية طيلة رحلتها الشاقة المؤلمة إلى الكوفة ومنها إلى الشام مروراً بسائر البلدان والمناطق .
وحتى في مجلس يزيد بن معاوية والذي قد خطط ليكون دخول السبايا إلى مجلسه مهرجاناً يحتفل فيه بانتصاره على الحسين ، فأحضر كبار قادة جيشه وزعماء الشام ، وأحاط نفسه بأجواء من الهيبة المصطنعة .
لكن العقيلة زينب أفسدت عليه كل ما صنع, وأفشلت مهرجانه الضخم حين نظرت إلى رأس أخيها الحسين بين يدي يزيد ، فانتصبت قائمة وأجهشت بالبكاء، وأهوت إلى جيبها فشقته ، ونادت بصوت حزين يقرح القلوب : (يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا بن مكة ومنى ، يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، يا بن بنت المصطفى, قال الراوي : فأبكت والله كل من كان في المجلس ويزيد ساكت), ثم وثبت كاللبوة الجريحة فقالت: (أَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلىَ مُحَمّدَ وآلِهِ أَجْمَعِيَن، صَدَقَ اللهُ كَذَلكَ يَقُولُ: (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السؤى أن كذبوا بأيات الله وكانوا بها يَسْتَهْزِؤُونَ) الروم: 10. ، أَظَنَنْتَ - يَا يَزِيدُ- حَيْثُ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الأَرْضِ وَآفَاقَ السَّمَاءِ فَأَصْبَحْنَا نُسَاقُ كَمَا تُسَاقُ الإِمَاءِ - أَنَّ بِنَا عَلَى اللهِ هَوَاناً، وَبِكَ عَلَيْهِ كَرَامَةٍ!! وَأَنَّ ذَلِكَ لِعَظِيمَ خَطَرِكَ عِنْدَهُ!! فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ في عَطْفِكَ، جَذْلانَ مَسْرُوراً، حِينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً، وَالأُمُورَ مُتَّسِقَةً، وَحِينَ صَفَا لَكَ مُلْكُنَا وسُلْطَاننَا، فَمَهلاً، أَنَسِيتَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) آل عِمران: 178.
أَمِنَ الْعَدْلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإمَاءَكَ وَسُوقَكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ سَبَايَا؟! قدْ هَتَكْتَ سُتورَهُنَّ، وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدِ إلى بلدٍ، وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَازِلِ وَالمَنَاهِلِ، وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالبَعِيدُ، وَالدَّنِيُّ وَالشَّرِيفُ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالهِنَّ وَلِيُّ، وَلاَ مِنْ حَمَاتِهنَّ حَمِيُّ,وَكَيْفَ تُرْتَجىَ مُرَاقبَةُ مَنْ لَفَظَ فُوهُ أَكْبَادَ الأَزْكيَاءِ، وَنَبَتَ لَحْمُهُ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ؟!وَكَيْفَ لاَ يَسْتَبطِأُ فِي بُغْضِنَا أَهلَ الْبَيْتِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْنَا بَالشَّنَفِ والشَّنَآنِ وَالإِحَنِ وَالأَضْغَانِ؟!
ثُمَّ تَقُولُ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ وَلاَ مُسْتَعْظِمٍ: لأَهَـــــلُّوا وَاســـــْتَهَلُّوا فَــــرَحاً ثُــــمَّ قَـــالُوا يَـــا يَزِيدُ لاَ تُشَلْ
مُنْتَحِياً عَلىَ ثَنَايَا أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَنْكُتُهَا بِمِخْصَرَتِكَ,وَكَيفَ لاَ تَقُولُ ذَلكَ، وَقَدْ نَكَأُتَ الْقَرْحَةَ، وَاسْتَأْصَلْتَ الشَّأْفَةَ، بإِرَاقَتِكَ دِمَاءَ ذُرَّيَّةِ مُحَمَّدٍ صلي الله عليه و آله وَنُجُومِ الأرْضِ مِنْ آلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! وتَهْتِفُ بِأَشْيَاخِكَ، زَعَمْتَ أَنَّكَ تُنَادِيهِمْ!فَلَتَرِدَنَّ وَشِيكاً مَوْرِدَهُمْ، وَلَتَوَدَّنَّ أَنَّكَ شُلِلْتَ وَبُكمْتَ وَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ مَا قُلتَ وَفَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ,أَللَّهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا، وَانتَقِمْ مِمَّنْ ظَلَمَنَا، وَاحْلُلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا وَقَتَلَ حُمَاتَنَا
فَوَاللهِ مَا فَرَيْتَ إِلاَّ جِلْدَكَ، وَلا حَزَزْتَ إِلاَّ لَحْمَكَ، وَلَتَرِدَنَّ عَلى رَسُولِ اللهِ صلي الله عليه و آله بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ ذُرّيَّتِهِ، وَانْتَهكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ فِي عِتْرَتِهِ وَلُحْمَتِهِ، وَحَيثُ يَجْمَعُ اللهُ شَمْلَهُمْ وَيَلُمُّ شَعْثَهُمْ وَيَأْخُذُ بِحَقِّهِمْ (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءعِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران: 163,وَحَسْبُكَ بِاللهِ حَاكِماً، وَبِمُحَمَّدٍ صلي الله عليه و آله خَصِيماً، وَجَبِرَئيلَ ظَهيراً، وَسَيَعْلَمُ مَنْ سَوَّلَ لَكَ وَمَكَّنَكَ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ، بِئْسَ للِظَّالِمِينَ بَدَلاً وَأَيُّكُمُ شَرُّ مَكَاناً وأَضْعَفُ جُنْداً,وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ، إِنِّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ، وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ، لَكِنِ الْعُيُونُ عَبْرىَ، وَالصُّدَورُ حَرّىَ,أَلاَ فَالعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجبَاءِ بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاءِ، فَهَذِهِ الأَيْدِي تَنْطِفُ, مِنْ دِمَائِنَا، وَالأَفْوَاهُ تَتَحَلَّبُ مِنْ لُحُومِنَا، وَتِلكَ الْجُثَثُ الطَّوَاهِرُ الزَّوَاكِي تَنْتَابُهَا الْعَوَاسِلُ,وَتَعْفِرُهَا أُمَّهَاتُ الْفَرَاعِلِ,، وَلَئِنِ اتَّخَذْتَنَا مَغْنَماً لَتَجِدُنَا وَشِيكاً مُغْرَماً، حِينَ لاَ تَجِدُ إِلاَّ مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وَمَا ربُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ، فَإلَى اللهِ الْمُشْتَكىَ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ,فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُوَنَّ ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا,وَهَلْ رَأْيُكَ إِلاَّ فَنَداً، وَأَيَّامُكَ إِلاَ عَدَداً، وَجَمْعُكَ إِلابَدَداً، يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ: أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ,فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَتَمَ لأَوَّلِنَا بِالسَّعَادةَ وَالمَغْفِرةِ، وَلآخِرنَا بِالشَّهَادَةِ وِالرَّحْمَةِ,وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُكْمِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ، وَيُوجِبَ لَهُمُ الْمَزِيدَ، وَيُحْسِنَ عَلَيْنَا الْخِلافَةَ، إِنَّهُ رَحِيمُ وَدُودُ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل).
تأمّل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة، وأساليب الفصاحة، وبراعة البيان، وبين معاني الحماسة، وقوة الاحتجاج، وحجّة المعارضة، والدفاع في سبيل الحرية والحقّ والعقيدة، بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب، وأحدّ من وقع الأسنة في الحشا، والمهج في مواطن القتال، ومجالات النزال، وكان الوثوب على أنياب الأفاعي، وركوب أطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ, الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أُمية, وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية والارستقراطية الكريهة، ثمّ إنّ هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية، وسيبقى هذا الأدب الحيّ صارخاً في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال, وفي كل ذكرى لواقعة الطفّ الدامية المفجعة.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
السيد ابراهيم سرور العاملي

لقد صرّحت العقيلة زينب بمعرفتها المسبقة بواقعة كربلاء في الحديث الذي نقله ابن قولوية القمي ( المتوفى سنة : 367 هـ أو 368 هـ ) في كتابه ( كامل الزيارة ) وهو كتاب اعتمد كبار العلماء على رواياته وأسانيده ,والحديث مروي بسند متصل إلى الإمام زين العابدين علي بن الحسين عليه السلام قال : (إنه لما أصابنا بالطف ما أصابنا ، وقتل أبي عليه السلام، وقتل من كان معه من ولده وإخوته وساير أهله، وحملت حرمه ونساؤه على الأقتاب يراد بنا الكوفة ، فجعلت أنظر إليهم صرعى ، ولم يواروا ، فيعظم ذلك في صدري ، ويشتد لما أرى منهم قلقي ، فكادت نفسي تخرج ، وتبيّنت ذلك مني عمتي زينب بنت علي الكبرى ، فقالت : ما لي أراك تجود بنفسك يا بقية جدي وأبي وإخوتي ؟ .
فقلت : وكيف لا أجزع ولا أهلع ، وقد أرى سيدي وأخوتي وعمومتي ، وولد عمي وأهلي مصرّعين بدمائهم مرّملين بالعراء ، مسلّبين لا يكفّنون ولا يوارون ، ولا يعرج عليهم أحد ، ولا يقربهم بشر ، وكأنهم أهل بيت من الديلم والخزر ؟.
فقالت : لا يجزعنك ما ترى : فوالله إن ذلك لعهد من رسول الله صلي الله عليه و آله إلى جدك وأبيك وعمك ولقد أخذ الله ميثاق أناس من هذه الأمة لا تعرفهم فراعنة هذه الأرض ، وهم معرفون في أهل السماوات ، إنهم يجمعون هذه الأعضاء المتفرقة فيوارونها ، وهذه الجسوم المضرجة ، وينصبون لهذا الطف علماً لقبر أبيك سيد الشهداء ، لا يدرس أثره ، ولا يصفو رسمه ، على كرور الليالي والأيام ، وليجتهدن أئمة الكفر ، أشياع الضلالة ، في محوه وتطميسه فلا يزداد أثره إلا ظهوراً ، وأمره إلا علواً .
فقلت : وما هذا العهد وما هذا الخبر ؟
فقالت : حدثتني أم أيمن ـ مولاة رسول الله ـ أن رسول الله صلي الله عليه و آله زار منزل فاطمة في يوم من الأيام . وتستمر السيدة زينب في حديثها الطويل لابن أخيها زين العابدين نقلاً عن أم أيمن وهي تعدد ما يجري على أهل البيت من حوادث بعد رسول الله صلي الله عليه و آله حسب ما أخبر به رسول الله صلي الله عليه و آله ومن بين تلك الحوادث واقعة كربلاء ,ثم تعقب السيدة زينب على ما نقلته عن أم أيمن بقولها : (فلما ضرب ابن ملجم لعنه الله ) أبي عليه السلام ورأيت أثر الموت منه قلت : يا أبة حدثتني أم أيمن بكذا وكذا ، وقد أحببت أن أسمعه منك,فقال : يا بنية الحديث كما حدثتك أم أيمن وكأني بك وببنات أهلك سبايا بهذا البلد ـ أي الكوفة ـ اذلاء خاشعين) .
ولأجل هذه المعرفة الكامنة في ذهن ومشاعر السيدة زينب عليها السلام نجدها قد أخذت موقعها التاريخي بوعي وإدراك مسبق جنباً إلى جنب ابن أخيها الإمام المعصوم زين العابدين عليه السلام وأنها كانت المبادرة للمشاركة, كما احتفظت بزمام الأمر في مختلف المواقع والوقائع الثورية .
وللسيدة زينب في الكوفة تاريخ وذكريات ، فقد كانت سيدة الكوفة أيام خلافة أبيها أمير المؤمنين علي عليه السلام قبل عشرين سنة من دخولها الآن . فلابد من موقف بطولي يعيد لها هيبتها ووقارها كأبنة خليفة للمسلمين قد جار الزمان عليها,عن حذلم بن كثير قال : (قدمت الكوفة سنة 61 هـ عند مجيء علي بن الحسين من كربلاء إلى الكوفة ومعه النسوة، وقد أحاط بهم الجنود ، وقد خرج الناس للنظر إليهم ، وكانوا على جمال بغير وطاء، فجعلن نساء أهل الكوفة يبكين ويندبن, ورأيت علي بن الحسين قد أنهكته العلة، وفي عنقه الجامعة، ويده مغلولة إلى عنقه ، وهو يقول بصوت ضعيف : إنّ هؤلاء يبكون وينوحون من أجلنا فمن قتلنا ؟ ! قال حذلم بن كثير : ورأيت زينب بنت علي ، ولم أر خفرة أنطق منها, كأنها تفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين، وقد أومأت إلى الناس أن أسكتوا ، فارتدت الأنفاس، وسكنت الأصوات ، فقالت : (الحمد لله والصلاة على أبي محمد وآله الطيبين الأخيار . . أما بعد : يا أهل الكوفة, يا أهل الختل والغدر ,أتبكون ؟ فلا رقأت الدمعة ، ولا هدأت الرنة ,إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون أيمانكم دخلاً بينكم ,ألا وهل فيكم إلا الصلف والنطف ، والكذب والشنف ، وملق الإماء وغمز الأعداء ,أو كمرعى على دمنة ، أو كقصة على ملحودة ,ألا ساء ما قدمت لكم أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون ,أتبكون وتنتحبون ؟ أي والله, فابكوا كثيراً واضحكوا قليلاً ,فلقد ذهبتم بعارها وشنارها ، ولن ترحضوها بغسل بعدها أبداً,وأنى ترحضون قتل سليل خاتم النبوة ، ومعدن الرسالة ، وسيد شباب أهل الجنة ، وملاذ خيرتكم ، ومفزع نازلتكم ، ومنار حجتكم ، ألا ساء ما تزرون ! وبعداً لكم وسحقاً ، فلقد خاب السعي ، وتبت الأيدي ، وخسرت الصفقة ، وبؤتم بغضب من الله ورسوله وضربت عليكم الذلة والمسكنة , ويلكم يا أهل الكوفة ! أتدرون أي كبد لرسول الله فريتم ؟,وأي كريمة له أبرزتم ؟ وأي دم له سفكتم ؟ ,وأي حرمة له انتهكتم ؟ لقد جئتم شيئاً إدّا ! تكاد السماوات يتفطّرن منه ، وتنشقّ الأرض ، وتخرّ الجبال هدّا ,ولقد جئتم بها خرقاء ، شوقاء ، كطلاع الأرض ، وملء السماء ، أفعجبتم أن مطرت السماء دماً ؟ ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون, فلا يستخفنكم المهل ، فإنه لا يحفزه البدار ، ولا يخاف فوت الثأر ، وإنّ ربكم لبالمرصاد, قال الراوي : فوالله لقد رأيت الناس حيارى يبكون ، قد ردّوا أيديهم في أفواههم ، ورأيت شيخاً واقفاً إلى جنبي يبكي حتى اخضلت لحيته بالدموع ، ويده مرفوعة إلى السماء وهو يقول : بأبي أنتم وأمي كهولكم خير الكهول ، وشبابكم خير الشباب ، ونساؤكم خير النساء ، ونسلكم خير النسل ، لا يبور ولا يخزي أبداً , فقال لها الإمام : علي بن الحسين : (أسكتي يا عمة فأنت بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة).
لم تكتفي الحكومة الأُموية بقتل الحسين عليه السلام فحسب, بل دعتهم أحقادهم القديمة وموروثاتهم القبلية إلى هتك ستر البيت المحمدي, وذلك من خلال تسييره وعرضه على القاصي والداني , وكانوا يرومون من خلاله استعراض قدراتهم العسكرية, وبث الرعب في قلوب من يحاول التجرئ على مملكتهم ,إلاّ أن هذا الركب أحدث في قلوب الناس بركاناً من الغضب وهم يسمعون كلام الرأس الشريف وهتاف الأطفال بصرخة الإباء, فكان حقاً تظاهرة إعلامية تؤجج المشاعر وتلهب العواطف ضد السلطة الظالمة .
ولم تترك العقيلة زينب موسعاً من جهدها إلاّ وجسدته بخطاب تلهب من خلاله القلوب الغاضبة على بني أمية طيلة رحلتها الشاقة المؤلمة إلى الكوفة ومنها إلى الشام مروراً بسائر البلدان والمناطق .
وحتى في مجلس يزيد بن معاوية والذي قد خطط ليكون دخول السبايا إلى مجلسه مهرجاناً يحتفل فيه بانتصاره على الحسين ، فأحضر كبار قادة جيشه وزعماء الشام ، وأحاط نفسه بأجواء من الهيبة المصطنعة .
لكن العقيلة زينب أفسدت عليه كل ما صنع, وأفشلت مهرجانه الضخم حين نظرت إلى رأس أخيها الحسين بين يدي يزيد ، فانتصبت قائمة وأجهشت بالبكاء، وأهوت إلى جيبها فشقته ، ونادت بصوت حزين يقرح القلوب : (يا حسيناه ، يا حبيب رسول الله ، يا بن مكة ومنى ، يا بن فاطمة الزهراء سيدة النساء ، يا بن بنت المصطفى, قال الراوي : فأبكت والله كل من كان في المجلس ويزيد ساكت), ثم وثبت كاللبوة الجريحة فقالت: (أَلْحَمْدُ للهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ، وَصَلَّى اللهُ عَلىَ مُحَمّدَ وآلِهِ أَجْمَعِيَن، صَدَقَ اللهُ كَذَلكَ يَقُولُ: (ثم كان عاقبة الذين أساؤوا السؤى أن كذبوا بأيات الله وكانوا بها يَسْتَهْزِؤُونَ) الروم: 10. ، أَظَنَنْتَ - يَا يَزِيدُ- حَيْثُ أَخَذْتَ عَلَيْنَا أَقْطَارَ الأَرْضِ وَآفَاقَ السَّمَاءِ فَأَصْبَحْنَا نُسَاقُ كَمَا تُسَاقُ الإِمَاءِ - أَنَّ بِنَا عَلَى اللهِ هَوَاناً، وَبِكَ عَلَيْهِ كَرَامَةٍ!! وَأَنَّ ذَلِكَ لِعَظِيمَ خَطَرِكَ عِنْدَهُ!! فَشَمَخْتَ بِأَنْفِكَ وَنَظَرْتَ في عَطْفِكَ، جَذْلانَ مَسْرُوراً، حِينَ رَأَيْتَ الدُّنْيَا لَكَ مُسْتَوْسِقَةً، وَالأُمُورَ مُتَّسِقَةً، وَحِينَ صَفَا لَكَ مُلْكُنَا وسُلْطَاننَا، فَمَهلاً، أَنَسِيتَ قَوْلَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ: ( وَلاَ يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِّأَنفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُواْ إِثْماً وَلَهْمُ عَذَابٌ مُّهِينٌ ) آل عِمران: 178.
أَمِنَ الْعَدْلِ يَا بْنَ الطُّلَقَاءِ تَخْدِيرُكَ حَرَائِرَكَ وَإمَاءَكَ وَسُوقَكَ بَنَاتِ رَسُولِ اللهِ سَبَايَا؟! قدْ هَتَكْتَ سُتورَهُنَّ، وَأَبْدَيْتَ وُجُوهَهُنَّ، تَحْدُو بِهِنَّ الأَعْدَاءُ مِنْ بَلَدِ إلى بلدٍ، وَيَسْتَشْرِفُهُنَّ أَهْلُ الْمَنَازِلِ وَالمَنَاهِلِ، وَيَتَصَفَّحُ وُجُوهَهُنَّ الْقَرِيبُ وَالبَعِيدُ، وَالدَّنِيُّ وَالشَّرِيفُ، لَيْسَ مَعَهُنَّ مِنْ رِجَالهِنَّ وَلِيُّ، وَلاَ مِنْ حَمَاتِهنَّ حَمِيُّ,وَكَيْفَ تُرْتَجىَ مُرَاقبَةُ مَنْ لَفَظَ فُوهُ أَكْبَادَ الأَزْكيَاءِ، وَنَبَتَ لَحْمُهُ بِدِمَاءِ الشُّهَدَاءِ؟!وَكَيْفَ لاَ يَسْتَبطِأُ فِي بُغْضِنَا أَهلَ الْبَيْتِ مَنْ نَظَرَ إِلَيْنَا بَالشَّنَفِ والشَّنَآنِ وَالإِحَنِ وَالأَضْغَانِ؟!
ثُمَّ تَقُولُ غَيْرَ مُتَأَثِّمٍ وَلاَ مُسْتَعْظِمٍ: لأَهَـــــلُّوا وَاســـــْتَهَلُّوا فَــــرَحاً ثُــــمَّ قَـــالُوا يَـــا يَزِيدُ لاَ تُشَلْ
مُنْتَحِياً عَلىَ ثَنَايَا أَبِي عَبْدِ اللهِ عليه السلام سَيِّدِ شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ تَنْكُتُهَا بِمِخْصَرَتِكَ,وَكَيفَ لاَ تَقُولُ ذَلكَ، وَقَدْ نَكَأُتَ الْقَرْحَةَ، وَاسْتَأْصَلْتَ الشَّأْفَةَ، بإِرَاقَتِكَ دِمَاءَ ذُرَّيَّةِ مُحَمَّدٍ صلي الله عليه و آله وَنُجُومِ الأرْضِ مِنْ آلِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ؟! وتَهْتِفُ بِأَشْيَاخِكَ، زَعَمْتَ أَنَّكَ تُنَادِيهِمْ!فَلَتَرِدَنَّ وَشِيكاً مَوْرِدَهُمْ، وَلَتَوَدَّنَّ أَنَّكَ شُلِلْتَ وَبُكمْتَ وَلَمْ تَكُنْ قُلْتَ مَا قُلتَ وَفَعَلْتَ مَا فَعَلْتَ,أَللَّهُمَّ خُذْ بِحَقِّنَا، وَانتَقِمْ مِمَّنْ ظَلَمَنَا، وَاحْلُلْ غَضَبَكَ بِمَنْ سَفَكَ دِمَاءَنَا وَقَتَلَ حُمَاتَنَا
فَوَاللهِ مَا فَرَيْتَ إِلاَّ جِلْدَكَ، وَلا حَزَزْتَ إِلاَّ لَحْمَكَ، وَلَتَرِدَنَّ عَلى رَسُولِ اللهِ صلي الله عليه و آله بِمَا تَحَمَّلْتَ مِنْ سَفْكِ دِمَاءِ ذُرّيَّتِهِ، وَانْتَهكْتَ مِنْ حُرْمَتِهِ فِي عِتْرَتِهِ وَلُحْمَتِهِ، وَحَيثُ يَجْمَعُ اللهُ شَمْلَهُمْ وَيَلُمُّ شَعْثَهُمْ وَيَأْخُذُ بِحَقِّهِمْ (وَلاَ تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُواْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْوَاتًا بَلْ أَحْيَاءعِندَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ) آل عمران: 163,وَحَسْبُكَ بِاللهِ حَاكِماً، وَبِمُحَمَّدٍ صلي الله عليه و آله خَصِيماً، وَجَبِرَئيلَ ظَهيراً، وَسَيَعْلَمُ مَنْ سَوَّلَ لَكَ وَمَكَّنَكَ مِنْ رِقَابِ الْمُسْلِمِينَ، بِئْسَ للِظَّالِمِينَ بَدَلاً وَأَيُّكُمُ شَرُّ مَكَاناً وأَضْعَفُ جُنْداً,وَلَئِنْ جَرَّتْ عَلَيَّ الدَّوَاهِي مُخَاطَبَتَكَ، إِنِّي لأَسْتَصْغِرُ قَدْرَكَ، وَأَسْتَعْظِمُ تَقْرِيعَكَ، وَأَسْتَكْثِرُ تَوْبِيخَكَ، لَكِنِ الْعُيُونُ عَبْرىَ، وَالصُّدَورُ حَرّىَ,أَلاَ فَالعَجَبُ كُلُّ الْعَجَبِ لِقَتْلِ حِزْبِ اللهِ النُّجبَاءِ بِحِزْبِ الشَّيْطَانِ الطُّلَقَاءِ، فَهَذِهِ الأَيْدِي تَنْطِفُ, مِنْ دِمَائِنَا، وَالأَفْوَاهُ تَتَحَلَّبُ مِنْ لُحُومِنَا، وَتِلكَ الْجُثَثُ الطَّوَاهِرُ الزَّوَاكِي تَنْتَابُهَا الْعَوَاسِلُ,وَتَعْفِرُهَا أُمَّهَاتُ الْفَرَاعِلِ,، وَلَئِنِ اتَّخَذْتَنَا مَغْنَماً لَتَجِدُنَا وَشِيكاً مُغْرَماً، حِينَ لاَ تَجِدُ إِلاَّ مَا قَدَّمَتْ يَدَاكَ، وَمَا ربُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ، فَإلَى اللهِ الْمُشْتَكىَ، وَعَلَيْهِ الْمُعَوَّلُ,فَكِدْ كَيْدَكَ، وَاسْعَ سَعْيَكَ، ونَاصِبْ جَهْدَكَ، فَوَاللهِ لاَ تَمْحُوَنَّ ذِكْرَنَا، ولاَ تُمِيتُ وَحْيَنَا، وَلاَ تُدْركُ أَمَدَنَا، وَلاَ تَرْحَضُ عَنْكَ عَارَهَا,وَهَلْ رَأْيُكَ إِلاَّ فَنَداً، وَأَيَّامُكَ إِلاَ عَدَداً، وَجَمْعُكَ إِلابَدَداً، يَوْمَ يُنَادِي الْمُنَادِ: أَلاَ لَعْنَةُ اللهِ عَلَى الظَّالِمِينَ,فَالْحَمْدُ للهِ الَّذِي خَتَمَ لأَوَّلِنَا بِالسَّعَادةَ وَالمَغْفِرةِ، وَلآخِرنَا بِالشَّهَادَةِ وِالرَّحْمَةِ,وَنَسْأَلُ اللهَ أَنْ يُكْمِلَ لَهُمُ الثَّوَابَ، وَيُوجِبَ لَهُمُ الْمَزِيدَ، وَيُحْسِنَ عَلَيْنَا الْخِلافَةَ، إِنَّهُ رَحِيمُ وَدُودُ، وَحَسْبُنَا اللهُ وَنِعْمَ الْوَكِيل).
تأمّل معي في هذه الخطبة النارية كيف جمعت بين فنون البلاغة، وأساليب الفصاحة، وبراعة البيان، وبين معاني الحماسة، وقوة الاحتجاج، وحجّة المعارضة، والدفاع في سبيل الحرية والحقّ والعقيدة، بصراحة هي أنفذ من السيوف إلى أعماق القلوب، وأحدّ من وقع الأسنة في الحشا، والمهج في مواطن القتال، ومجالات النزال، وكان الوثوب على أنياب الأفاعي، وركوب أطراف الرماح أهون على يزيد من سماع هذا الاحتجاج الصارخ, الذي صرخت به ربيبة المجد والشرف في وجوه طواغيت بني أُمية, وفراعنتهم في منازل عزّهم ومجالس دولتهم الهرقلية والارستقراطية الكريهة، ثمّ إنّ هذه الخطبة التأريخية القاصعة لا تزال تنطق ببطولات الحوراء الخالدة وجرأتها النادرة، وقد احتوت النفس القوية الحساسة الشاعرة بالمثالية الأخلاقية الرفيعة السامية، وسيبقى هذا الأدب الحيّ صارخاً في وجوه الطغاة الظالمين على مدى الدهر وتعاقب الأجيال, وفي كل ذكرى لواقعة الطفّ الدامية المفجعة.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat