تمضي الأيّام والأعوام ... دورةٌ أو دورتان في دروس الأُصول ، ولربما دورة فقهيّة كاملة .. حضورٌ دائمٌ في حلقات الدرس ، متابعةٌ قلّ نظيرها ، لايثني رجلَ الدين المرضُ والسفرُ وغيرهما عن التواصل المعرفي الفاعل .. والحصيلة : خزينٌ علميٌّ هائل .
بل قد تتصرّم السنون والتلقّي مستمرٌّ دون تصريف .. هذا حال غير القليل من رجال الدين ، فلاتدريس ولاتأليف ولاتحقيق ولاتبليغ ولانشر لقيم الدين ومبادئ الحقّ المبين ..
للأسف ، هذا هو واقع الكثير من طلبة علوم الدين ، والأشدّ إيلاماً أن يرى البعض منهم : أنّ مجرّد التمثّل والتمظهر بزيّ رسول الله والأئمّة المعصومين صلوات الله عليهم أجمعين والولاة الصالحين ومراجع الدين العاملين والعلماء المكرّمين ، فيه الكفاية وكفى ، متناسياً أنّ اُولاء الأبرار استفرغوا ولازالوا يستفرغون الوسع لحفظ وترسيخ ونشر كلمة الرسالة بكلّ مااُوتوا من علمٍ وحكمةٍ وإيمانٍ وإخلاصٍ على غايةٍ من الصبر والقدرة والعزم والثبات .
إنّ الخزين العلميّ إن لم يجد مخرجاً واستهلاكاً ميدانياً وفضاءً معرفيّاً تحلّق فيه الأفكار وتتحاور به الآراء فإنّ روح الإبداع تأفل رويداً رويداً ثم تضمحلّ و تموت ، حينها لامراتب عليا ولاأمل بالملكة المبغى - أعني الاجتهاد - التي تقرّ بها عين الملّة والشريعة السمحة ، فلازيادة إذن ، ومَن لم ير الزيادة في نفسه فهو إلى النقصان ، ومَن كان إلى النقصان فالموت أولى به .
إنّ حال الخزين العلميّ لعلّه كحال االنتاج والبضائع التجاريّة من زوايةٍ ما ، فلولا السوق والاستهلاك لَما حصل الربح وتكثّر الإنتاج وتنوّع وتطوّر ونما ، بل تكدّس وتلف وفسد وهوى .
تعلّمنا أنّ طالب العلوم الدينيّة بما هو طالب علومٍ دينيّة وظيفته هي نشر علوم آل البيت (ع) سواء عبر التدريس أو التأليف أو التبليغ أو التحقيق أو البحث ، أوبكلّ آليّةٍ ووسيلةٍ مشروعةٍ مقرّرةٍ من شأنها ترويج القيم والمبادئ السامية النبيلة .. فلايمكنه تبرير عدم ممارسة المهامّ المشار إليها أعلاه - بما أنّه رجل دين وطالب علومٍ دينيّة - بممارسة النشاطات الاُخرى وصبّها في قالب خدمة المذهب والدين ، رغم ما فيها من الأجر والثواب ؛ حيث بإمكان سواه النهوض بها وليست متوقّفةً عليه بالضرورة .. إنّما الضرورة هي وظيفة حفظ ونشر وترويج تعاليم الدين والمذهب الحقّ ، التي لايستطيع غيره النهوض بها ، فلامسوّغ لترك الواجبات بذريعة المستحبّات .
ولعلّ بعض طلبة العلوم الدينيّة يرون أنّ الخدمات الاجتماعيّة والخدماتيّة تجعلهم أقرب إلى قلوب الناس وعقولهم .. لكنّ الواقع أثبت خلاف ذلك ، فالناس كانت ولازالت تجد في رجل الدين : الرائد والقائد والمرشد والموجّه والمعلّم والمربّي والناصح الأمين نحو دروب الخير والنجاة والفلاح .. وكثيراً ماسبّب ولوجه بعض المضامير التي لاتتناسب مع شأنه وتخصّصه الإشكاليات التي باعدت بينه وبين الناس .
وحينما يتغيّر الحال ويتعطّل الواجب الذي ينبغي لرجل الدين القيام به ، يتأسّس ذلك الشاهق الطويل الفاصل ، فلاتُعَد له تلك الكلمة المسموعة ولا الرأي المطاع ، فتنأى عنه العقول وتجفو بحقّه القلوب ؛ كونه خرج ممّا ينبغي إلى مالاينبغي .
ولايمكن لنا تصوّر وتصديق الدين بلا رجال الدين بما هم رجال الدين ؟!
لذا علينا جميعاً استفراغ الوسع وبذل غاية الجهد كي تحافظ هذه الطبقة الشريفة والشريحة العظيمة والثلّة النبيلة على دورها الرياديّ المقدّس في صون الرسالة والذبّ عن ثوابت أهل العصمة والطهارة .. كي تبقى المؤسّسة الدينيّة بكيانها ونهجها ورسالتها وأهدافها وقادتها ورجالها ، كما هي عليه منذ غابر الأيّام وقديم الأعوام ، ملاذ الاُمّة الأمين وكهفها الرصين الآخذ بها صوب الهداية والفوز المبين.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat