الدين ... و عقلية القطيع ( حلقة 5 )
السيد مصطفى الجابري

 

عندما شعر البعض بان موقفه بهذا الاستشهاد – تعليم وتحفيظ الاطفال – قد يبدو ضعيفا وغير تام، حاول ان يعمم هذا المنهج – منهج التلقين و القولبة - ليعطيه معنى اوسع، وليشمل جميع مراحل التعلُم والمعرفة، بل يجعل منه منهجاً منصوصاً عليه وماموراً به في النص الديني الاول، الا وهو القران الكريم، فكما هو المشهور في التراث الديني ان اول اية نزلت على الرسول الكريم (صلى الله عليه و اله و سلم) هي ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {العلق/1}) ومن المعلوم ان العملية المعرفية لا تتوقف عند القراءة وإلا اصبحت عملية صماء بل لابد ان يصاحبها الفهم والإستيعاب والقدرة على استخدام أدوات العقل من التحليل والنقد، و لذا كان حرياً أن ترفق كلمة  (إفهم ) بجوار كلمة ( إقرأ). 

و لكي نبين الجواب بشكل واضح نستعين بقصة بسيطة يمكن ان تساعدنا على فهم مستويين للاجابة:

تصور ان معلم او اب او مربي ما، قد اعطى لشخص كتاب او نص مكتوب و قال له (اقرأ) فما الذي نفهمه من هذا الامر؟.

قد يقول احدهم ان الامر بالقراءة يمكن ان يكون بمعنى احفظ هذا النص، بينما اخر يفهم من ذلك معنى مختلف وهو افهم هذا النص، و ثالث ينصرف ذهنه الى قيم هذا النص، و اخر حلل هذا النص، صحح، انقد، عدل، ... الخ، وكل واحد من هذه المعاني محتملة ومقبولة ويمكن ان تفهم من طلب او الامر بالقراءة.

و هذا يعني ان لفظ (اقرأ) يحتمل كل هذه المعاني فلا معنى لحمله على احدها من دون قرينة او توضيح او بيان نوعية القراءة المطلوبة.

و هذا هو المستوى الاول من الاجابة، فنحن نقول: لماذا نحمل لفظ ( أقرأ) على الحفظ و التلقين مادام في اللغة يحتمل كل هذه المعاني، فلا وجه لحصره بنوع معين من القراءة دون غيرها، فهو لفظ عام يحتمل جميع انواع القراءة.

 بل لابد من حمله على هذا المعنى العام لكونه اول خطاب للرسول الاكرم (صلى الله عليه و اله)، و لكون القراءة الة و طريق لكل هذه الانواع و المعاني، فهي تدل على كل واحد من هذه المعاني بنسبة متساوية.

و اذا رجعنا الى قصة المعلم او الاب، فان الامر بقراءة النص او الكتاب يمكن ان يفهم منه احد هذه المعاني المتعددة مع القرينة، فان المعلم اذا اتبع قوله للتلميذ ( اقرأ هذا النص) بقوله (سوف اسمعه لك غداً) او قال له ( سوف اسئلك بعض الاسئلة عن مضمونه) او قال ( صحح ما به من اخطاء ) او قال ( تفكر به ) او تدبر، تعقل، تفهم، تعرف ...الخ فان العبارة الثانية سوف تحدد المعنى المراد و المقصود من الامر بالقراءة الاول، و هو ما اقترح المعترض في معرض تقرير دليله.

و هنا ياتي المستوى الثاني من الاجابة: فان القران الكريم لم يترك لفظ ( اقرأ ) بدون تحديد ولم ينتظر من هذا المقترح المتغافل ان يدلي باقتراحه، حيث تم تحديد المعنى المراد من القراءة بطريقين :-

الاول: متصل، من خلال سياق نفس السورة التي ورد فيها الامر بالقراءة، فبمجرد اكمال ايات السورة المباركة سوف يتضح جلياً ان المراد هنا هو القراءة بكل اشكالها و معانيها، فقال تعالى : اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ {العلق/1} خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ {العلق/2} اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ {العلق/3} الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ {العلق/4} عَلَّمَ الْإِنسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ {العلق/5}.

و بالخصوص الايات 4 و 5 حيث فيها دلالة واضحة على ان المراد من القراءة هو المعنى العام و الشامل المتضمن لكل انواعها.

الثاني: منفصل، من خلال عشرات الايات التي تحث الانسان على اتخاذ مختلف المناهج المعرفية للحصول على العلم و الوصول الى الحقيقة، فهناك ايات تامر بالتعقل و اخرى بالتفكر و الثالثة بالتدبر و رابعة بالفهم و خامسة بالمشاهدة و سادسة بالتجربة و سابعة بالتامل وووو.. الخ و لولا خوفي من الاطالة لذكرتها جميعا، لكن ايجادها و استقصائها سهل و متيسر للجميع، فكتاب الله عز و جل معروف و واضح لكل من تجرد عن العصبية والتحامل.

فيظهر من كل ماتقدم بطلان كون منهج الدين الوارد في القران الكريم مختص بالحفظ و التلقين  ... يتبع

الموضوع السابق مَصْدُومُونَ؟ لِمْاذْا؟!

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat