صفحة الكاتب : كريم الانصاري

" السيستانيّة "" في رحاب العقل الشيعيّ الفاعل " ( 2 )
كريم الانصاري

ليس من حقّنا ،  بل لسنا - والعياذ بالله -   في مقام الانتقاص والحطّ والخدش بالجهود الكبيرة والمساعي الحثيثة لفقهائنا وعلمائنا ونخبنا ؛ فإنّ عوالي أخلاقهم وشوامخ نتاجاتهم وروائع آثارهم ورواشح أفكارهم وخالد لمساتهم ماهي إلّا دررٌ ناصعة ولآلىء غالية ونجوم ساطعة في فضاءات المعرفة الإنسانيّة والعلوم البشريّة ، ولطالما كان ومازال لأقطابنا ومحاورنا السهم الوافر والدور الفاعل في أنسنة الفكر وعرضه بالشكل الأنيق والاُسلوب الرشيق والمحتوى الدقيق والاستدلال الحقيق القائم على المنطق والعدل والإنصاف بلا تعصّبٍ وحقدٍ وإجحاف ، فجاء مؤكّداً على التلاقح والتلاقي والتآلف والتصافي ، مرحبّاً بحوار المخالف ونقد المآلف من أجل بلوغ الحلول التي تخدم الدين والعالمين .

إنّما يحوم البحث حول أُسٍّ مركزيّ وقيد محوري  ، فحينما نقول : " العقل الشيعي الفاعل " نعني أنّها بوضوح : قضيّة" بشرط " أي بشرط الفاعليّة ، والفاعليّة المقصودة : هي التطبيق والممارسة العمليّة الميدانيّة  التي تجسّد القيم والمبادىء والاُسس والأفكار والتنظيرات والمباني التي يقوم عليها الدين والمذهب تجسيداً سليماً صحيحاً .. بعبارةٍ اُخرى : تحويل القول إلى فعل ، والفكرة إلى عمل ، بأدنى خطأ ممكن .
إنّ الفاعليّة هي التي تنقل الفكر من دهاليز التنظير ومطابخ التفكير إلى أزقّة ودروب وميادين الحركة والديناميكيّة  الملموسة في واقع الحياة .. وإن كانت " وحدة قلوب الإسكندر المقدوني " و " مبادىء كونفوشيوس " و " قيم البوذا " و " تعاليم سقراط " و " اشتراكيّة ماركس " و " رأسماليّة واشنطن " ... قد نالت حظّها من الذكر والبقاء فلأجل إمكانية تناغمها عمليّاً - بنسبٍ متفاوتة - مع الحياة الإنسانيّة الميدانيّة .. وماأكثر الأديان والمذاهب والنظريّات والأفكار التي نالت قسطاً وافراً من النسيان وظلّت مركونةً على رفوف الإهمال بسبب عدم إمكانيّة تحولّها من سكون التنظير إلى حركة التطبيق . 

إنّ الدين الإسلامي بمذهب التشيّع الإثني عشري قد اتّخذ منذ البدء منحىً حواريّاً    قائماً على اُسسٍ استدلاليّة علميّة  واضحة ، غير مهملٍ بالمرّة جوانب الحيطة والحذر ، فامتاز بالتمدّد الهادىء والحركة الموزونة الزاحفة نحو الأمام  ، بالبرمجة المدروسة التي لاتستفزّ ولاتثير حفيظة المناوىء القويّ المهيمن على مقاليد السلطة والحكم طيلة القرون المتمادية . وهذا لايعني أبداً بلوغه مابلغه الآن من رقيٍّ وألَق ورفعة مقام بلا صعابٍ و تضحياتٍ جسام ، بلاثباتٍ وصبرٍ وإخلاصٍ وآلام ، بلا إيمان بقيم السماء ونهج سادات الأنام عليهم السلام .      
 فيحقّ لهذا الفكر أن يعتزّ ويفخر بكلّ مالديه من تاريخٍ ونتاجٍ ورجالٍ وثقافةٍ وفنونٍ ومعارف وحضورٍ مؤثّرٍ فاعلٍ آسرٍ أذعن به العدوّ قبل الصديق والمخالف قبل المآلف ؛ ذلك بفضل العقل الحكيم والاستنباط الرصين والفهم السليم ، بفضل الهداة الميامين الذين علّمونا كيف نسلك الدرب القويم لبلوغ المقصد العظيم .
 أجل هم علّمونا الاُصول والفروع بعد أن مارسوها حقّ الممارسة وعملوا بها حقّ العمل وفعلوا ماينبغي فعله وتركوا ماينبغي تركه على أحسن وجه .

إنّ عصر مابعد آل البيت (ع) يشير إلى عديد تجارب خاضها " العقل الشيعيّ الفاعل " بنسبٍ متفاوتة من النجاح ، نذكر منها على سبيل المصداق و المثال لا الحصر :
الحضور المؤثّر  للمحقّق الكركي صاحب جامع المقاصد والشيخ البهائي رحمهما الله في إطار الحكم الصفوي ، حيث استطاعا اغتنام الفرصة الممكنة في ترجمة المفاهيم الحقّة إلى ممارسةٍ فاعلة لازالت آثارها المباركة باقية حتى يومنا هذا.

ولايمكن تناسي الحركة الفاعلة للميرزا الشيرازي رحمه الله ولاسيّما ثورته المشهورة المعروفة بثورة التنباك وماخلّفته من آثارٍ إيجابيّة على واقع الحياة اليوميّة في إيران.

وتمكّن السيّد الخميني رحمه الله من إحداث تغيّرٍ جوهري تاريخي في إيران ؛ حيث أخذ بنظريّة ولاية الفقيه المطلقة من ثنيّات المدوّنات إلى سوح التطبيق وميادين العمل الفاعل ، فأنشأ حكومةً إسلاميّةً قائمةً على مبنى ولاية الفقيه المطلقة ، وهي حكومة لازالت فاعلة قويّة مؤثّرة باقية منذ مايقارب الأربعة عقود .

أمّا السيّد السيستاني حفظه الله القائل بولاية الفقيه المقيّدة فقد تمكّن من استحلاب الدليل غاية الاستحلاب وبلغ في اغتنام الاستنباط غاية الاغتنام ، وحلّق في فضاءات الاقتناص المشروع عالي التحليق ، فكان أن وصلت به مطيّة البحث والتنقيب تخوم المبنى ولا أبعد ، حتى قيل : إنّ السيستاني قد خرق الإجماع المركّب باستحداثه مبنىً ثالثاً ، كما قيل : إنّه ترك الولاية المقيّدة والتحق بركب المطلقة ، وغير ذلك من الأقوال .. متغافلين - أُولاء  -أو غافلين عن كونه قد استخدم المؤن الكافية السليمة أيّما استخدام ، فصار في وقتٍ واحدٍ محافظاً على المبنى ومستفيداً من مضامينه استفادةً أرقى .. لذا نجده رغم التقييد المبنائي الذي يفرض عليه عدم بسط اليد كما هو المتاح في الولاية المطلقة ، نجده قد أبلى بلاءً حسناً في ميدنة المبنى وعملنة الأفكار وفعلنة الآراء ، فهذا الرجل الذي لايمتلك سلطة دولة ولاحكومة مهيمنة نراه قد امتلك زمام المبادرة وهيمن على العقول والقلوب بفضل العقل السليم الفاعل ..

 و ماأحدثه السيستاني من تعريفٍ جديدٍ للتشيّع قائمٍ على محوريّة العقل الفاعل ، النابض بحبّ الناس والحياة الحرّة القائمة على العدل والمساواة والأمن والسلام .. وماأحدثه من قوّة التأثير والتمدّد المثير والاستقطاب الكبير والاهتمام العظيم بدراسة التشيّع .. قد اختصرا المسافات الشاسعة والأزمان المتباعدة ، فعجّلا في ضرورة معرفة ماهيّة التشيّع ، هذه المعرفة التي قادت ولازالت تقود إلى مزيد فهمٍ واعٍ يضعه في حيث يجب أن يوضع ، يضعه في خانة الحواريّة و الاعتدال والوسطيّة  ، ويضع مذهب التطرّف والعنف والإرهاب والترويع والحذف والتضليل في حيث يجب أن يوضع ، يضعه في خانة العزل والدونيّة .


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


كريم الانصاري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2016/01/18



كتابة تعليق لموضوع : " السيستانيّة "" في رحاب العقل الشيعيّ الفاعل " ( 2 )
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net