دفاع عن تاريخ شيعة العراق المشرق
السيد جعفر البدري
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
السيد جعفر البدري

اتهم أهل العراق في اخلاصهم وولائهم لأهل البيت عليهم السلام، ومن العراقيين الذين اتهموا في اخلاصهم وتسليمهم للأئمة عليهم السلام هو الصحابي الجليل حجر بن عد الكندي (رض) اتهم بأنه كان من المعارضين لصلح الامام الحسن (ع) مع معاوية، فتارة اتهم بأنه قال للإمام الحسن (ع) بعد الصلح: (السلام عليك يا مذل المؤمنين)، والصحيح أن القائل غيره، وهو أحد الاثنين؛ إما سفيان بن أبي ليلى الهمداني، أو سفيان بن الليل البهمي.
واتهم مرة اُخرى بأنه قد قال: (يا ابن رسول الله! لوددت أني مت قبل ما رأيت! أخرجتنا من العدل إلى الجور! فتركنا الحق الذي كنا عليه! ودخلنا في الباطل الذي كنا نهرب منه! وأعطينا الدنية في أنفسنا! والخسيسة التي لم تلق بنا).(1)
او بعبارة اُخرى: (أما والله لقد وددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ثم لم نر هذا اليوم، فإنا رجعنا راغمين بما كرهنا، ورجعوا مسرورين بما أحبوا).(2)
هناك من حاول تبرير مقالة حجر بن عدي (رض) كالسيد محسن الأمين (رض) في أعيان الشيعة والعلامة المحقق الشيخ محمد تقي التستري (رض) في قاموس الرجال، في ترجمته.
وليس التبرير في محله لشخصية كحجر بن عدي الكندي (رض)، فالكلام فيه سوء أدب مع الامام (ع) بل يلتمس المتأمل في كلامه عدم معرفته بالإمام (ع) ومقامه، وحجر (رض) كان عارفا بمقام الأئمة (ع) وبحقهم، فحينما أرسل أمير المؤمنين (ع) ابنه الحسن (ع) الى الكوفة مع عمار بن ياسر (رض) واستقبلهم مالك الاشتر (رض) وحجر بن عدي (رض) وغيرهما، لما خطب الامام الحسن (ع) يستنهض أهل الكوفة في حرب الجمل لنصرة أمير المؤمنين (ع) علّق عليه عمار بن ياسر (رض) يحث أهل الكوفة على النصرة، وعلّق فيمن علق على خطبة الامام الحسن (ع) لحث الناس على النصرة هو حجر بن عدي (رض)، قال وهو يعرِّف بالإمام الحسن (ع):
(أيها الناس هذا الحسن بن علي، أحد أبويه رسول الله (ص) والآخر من ليس له عديل من أمة محمد (ص) ولا شبيه، هذا سيد شباب أهل الجنة، سيد شباب العرب والعجم في الدنيا والآخرة، وهو رسول أبيه إليكم يدعوكم إلى الحق والنصر لدين الله، فالسعيد من وازره، والشقي من تخلف عنه).(3)
أترى أيها القارئ الكريم! يُدرك حجر (رض) تمام الادراك ويعرف الحسن بن علي (ع) وما هي منزلته ومقامه كما عرّفه النبي (ص)، فيظهر جليا من خلال كلمته هذه أنه سمع أحاديث النبي (ص) في حقه وفي حق أبيه وأخيه عليهما السلام، وقاتل بين يدي أمير المؤمنين (ع) مخلصا له واختص برواية الفقه والسنن عنه (ع) ولم تصلنا رواياته لان بني أمية قد حرقوا داره وسووها بالأرض وأحرقوا صحيفته التي كتب بها ما سمعه من علي (ع) ولم تردنا إلا رواية او روايتين، وروى عن غير علي (ع) فضائله (ع).
ثم تعال وانظر إلى اسلوبه وأدبه في الكلام مع أمير المؤمنين (ع) في معركة صفين، لما خرج هو وعمرو بن الحمق الخزاعي (رض) يظهران البراءة واللعن من أهل الشام، أرسل إليهما أمير المؤمنين (ع): (أن كفا عما يبلغني عنكما).
فجاء حجر وصاحبه إلى أمير المؤمنين (ع) وقالا: يا أمير المؤمنين ألسنا محقين؟ قال (ع): (بلى).
قالا: أ وليسوا مبطلين؟ قال (ع): (بلى).
قالا: فلِمَ منعتنا من شتمهم؟
قال (ع): (كرهت لكم أن تكونوا لعانين شتامين، تشتمون وتتبرؤون، ولكن لو وصفتم مساوئ أعمالهم، فقلتم: من سيرتهم كذا وكذا، ومن عملهم كذا وكذا، كان أصوب في القول، وأبلغ في العذر، ولو قلتم مكان لعنكم إياهم وبراءتكم منهم: اللهم احقن دمائنا ودمائهم، وأصلح ذات بيننا وبينهم، واهدهم من ضلالتهم، حتى يعرف الحق منهم من جهله، ويرعوي عن الغيّ والعدوان من لهج به، كان هذا أحب إليّ وخيرا لكم).
فقالا – حجر وصاحبه – (رض): نقبل عظتك ونتأدب بأدبك .. ثم قال حجر بن عدي (رض) مقالة بين يدي أمير المؤمنين (ع) يستعرض فيها نصرته له، حتى قال: وأزمتنا منقادة لك بالسمع والطاعة، فإن شرقت شرقنا، وإن غربت غربنا، وما أمرتنا به فعلناه.
فقال له (ع): (أ كل قومك يرى مثل رأيك؟)، قال حجر: (ما رأيت منهم إلا حسنا، وهذه يدي عنهم بالسمع والطاعة، وبحسن الإجابة.(4)
وفي هذه القصة جوانب كثيرة قد تحتاج إلى عدة مقالات للوقوف على تفاصيلها، فهي تشتمل على الجنبة التربوية والاخلاقية والاصلاح الاجتماعي واستهداف الهداية، وما يهمنا في هذا المقام هو موقف حجر (رض) حيث اظهر التسليم التام للإمام أمير المؤمنين (ع) ومن ثم يؤكد أن غالبية قومه على مثل رأيه، ولم يصدر منه هذا الموقف إلا لعقيدته بأمير المؤمنين (ع) بأنه الهادي بعد رسول الله (ص) وأنه امام مفترض الطاعة، وطاعته طاعة الله تبارك وتعالى، فما هو السبب الموجب لاعتراضه على فعل الإمام الحسن (ع) واختياره؟ وهو يعتقد بإمامته ووجوب طاعته بل أنه مسلِّم لهم تسليما تاما.
وليت شعري من سمع حديث النبي (ص) في الحسن والحسين (الحسن والحسين سيدا شباب أهل الجنة)، لم يسمع بحديثه (ص) فيهما: (الحسن والحسين إمامان إن قاما أو قعدا)؟!
كل هذه المعطيات في شخصية حجر بن عدي (رض) ثم ما آل إليه مصيره من القتل صبرا – ذبحا – في الولاء لأمير المؤمنين (ع)، يتهم بكونه قد اعترض على الحسن بن علي (ع) وهو من أعيان أصحاب علي (ع)!
انظر أيها القارئ الكريم إلى الامام الحسين (ع) في رسالته المشهورة لمعاوية بعد قتل حجر بن عدي (رض) وأصحابه وعمرو بن الحمق الخزاعي (رض)، بماذا يصف حجرا ومن قتل معه وبعده من أهل العراق، ومن هجّرهم معاوية من الكوفة والبصرة، قال الامام الحسين (ع):
((ولعمري ما وفيت بشرط ولقد نقضت عهدك بقتل هؤلاء النفر الذين قتلتهم بعد الصلح والإيمان والعهود والمواثيق ولم تفعل ذلك إلا؛
لذكرهم فضلنا،
وتعظيمهم حقنا،
وليس الله بناسٍ لأخذك بالظنة،
وقتلك أولياءه على التهم،
ونفيك أولياءه من دورهم إلى دور الغربة)).(5)
لله درّ أهل العراق .. أي إيمان وأي عقيدة يمتلكونها بعلي وولده عليهم السلام، حتى وصفهم سيد الشهداء (ع) بأولياء الله!!!
فالاعتراض على الصلح كذبة اُلصقت بهذا الصحابي الوفي المتفاني في علي وأولاد علي (ع).
سُئل استاذ الفقهاء السيد الخوئي (رض): (ما رأيكم في الروايات الواردة عن حجر بن عدي الكندي (رض) أنه دخل على الامام الحسن (ع) وقال له: أما والله لوددت أنك مت في ذلك اليوم ومتنا معك ولم نر هذا اليوم؟
الخوئي: ما وجدنا لذلك سندا معتبرا، والله العالم).(6)
وفي الختام، أتساءل:
من الذي حارب بجانب أمير المؤمنين (ع) في حربي الجمل وصفين؟ ولماذا يُغضُّ الطرف عن معركة النهروان ضد الخوارج؟ وهي أصعب ابتلاءٍ مرّ به أهل العراق!
يشبه سيدي الاستاذ الوالد السيد سامي البدري "حفظه الله" هذه الحروب الثلاثة بالمصفاة لأهل العراق لأن الهدف الأساس منها هو الهداية، خصوصا الاخيرة – معركة النهروان – فقد قاتل فيها التلميذ استاذه الحافظ القارئ، يقتله وهو يتلو القرآن في ساحة المعركة.
من ثم لماذا يُغضُّ الطرف عن روايات أهل البيت (ع) في مدح أهل العراق؟ عشرات الروايات تمدح أهل العراق عن لسان أمير المؤمنين والحسن والحسين والسجاد والباقر والصادق عليهم السلام؟
وإليك انموذجين غير الذي مرّ بنا آنفا:
الاول: روى ابن عساكر عن أمير المؤمنين (ع) أنه قال وهو بالكوفة: (ما أشد بلايا الكوفة، لا تسبوا أهل الكوفة فوالله إن فيهم لمصابيح الهدى وأوتاد ذكر الله، والله ليدُقّنَّ الله بهم جناح كفر لا ينجبر أبدا، إن مكة حرم إبراهيم (ع)، والمدينة حرم رسول الله (ص)، والكوفة حرمي ما من مؤمن إلا وهو من أهل الكوفة أو هواه لينزع إليها).(7)
الثاني: وقال الامام الصادق (ع): (إن الله عرض ولايتنا على أهل الامصار فلم يقبلها إلا أهل الكوفة).(8)
فلو تعارض مدح وارد في نصوصنا مع قدح وارد عندنا أيضا ورأينا ان القدح وارد في كتب المخالفين بأضعاف ما ورد عندهم المدح او دونه تماما؟ أيهما يرجح؟
ففي اسناد رواية ابن عساكر الآنفة الذكر من هم من الشيعة، كمحمد بن عمار بن محمد العجلي العطار ابو جعفر الكوفي، وصباح بن يحيى المري الذي اهمله وتركه الذهبي لتشيعه، فلعلنا نجانب الصواب إن قلنا أن ما ورد في كتب القوم من المدح قد ورد من طريق الشيعة ايضا، لذا لو طرح هذا من هذا – وهم طرحوه – بقي عندهم الذم، وقد وردت روايات مادحة وروايات قادحة في كتبنا، فأيهما يرجح بعد الطرح؟
والحمد لله رب العالمين.
السيد جعفر البدري
ــــــــــــــــــــــــــ
(1) الدينوري، الاخبار الطوال: 220.
(2) ابن اعثم، الفتوح: ج4 / ص295.
(3) الاسكافي، المعيار والموازنة: ص121.
(4) نصر بن مزاحم، وقعة صفين: 103 – 104.
(5) انظر: الكشي، رجال الكشي: ترجمة عمرو بن الحمق، ابن سعد، طبقات بن سعد: ترجمة الامام الحسين (ع)، البلاذري، أنساب الأشراف: ترجمة معاوية، ابن منظور، مختصر تاريخ دمشق: ترجمة الامام الحسين (ع).
(6) صراط النجاة: ج2 / ص451.
(7) ابن عساكر، تاريخ مدينة دمشق: ج1 / ص297.
(8) العلامة المجلسي، بحار الانوار: ج60 / ص209.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat