ونحن في هذه الأيام تمر علينا الذكرى الأليمة لواقعة كربلاء التي دارت في عاشوراء سنة 61 للهجرة بين الحسين بن علي بن أبي طالب (ع) وال بيته , وبين يزيد بن معاوية بن أبي سفيان الذي بعث واليه عبيد الله بن زياد وجعل عليه عمر بن سعد قائدا للجيش , لم تكن واقعة عابرة , بل كانت لها نتائج بالغة الخطورة في التاريخ الإسلامي إلى يومنا هذا , فبعد استشهاد الإمام علي (ع) سنة 40 للهجرة انتقل مركز الخلافة من الكوفة إلى الشام , وأصبح المجال مفتوحا أمام تعزيز الخلافة الأموية في دمشق , في ظل حكم معاوية , ثم ابنه يزيد الذي تولى محاربة الحسين (ع).
فلم تبق رزية من رزايا الدهر, أو فاجعة من فواجع الدنيا إلا جر ت على سيد شباب أهل الجنة , لقد انتهكت في كارثة كربلاء حرمة رسول الله (ص) في عترته وذريته حيث يقول الإمام الرضا (ع) ( إن يوم الحسين أقرح جفوننا وأذل عزيزتا ) , فالإمام لم يهدف من ثورته الارتفاع بالملك والسلطان وبالنعرة الجاهلية , بمقدار ما يهدف إلى الارتفاع بالعقيدة الإنسانية حيث أكدها بعبارته الشهيرة عندما قال ( لم اخرج أشرا, ولا بطرا , ولا ظالما , ولا مفسدا , إنما خرجت لطلب الإصلاح في امة جدي محمد (ص) , فقد وقف لكل تلك النزعات اللاانسانية موقفا جبارا عنيدا , حتى كاد ينتصر نصرا حاسما على الظلم والفساد والفجور المتمثل بال سفيان ومن والاهم , ولا نقصد هنا الانتصار العسكري بل انتصار الدم على السيف , وهو انتصار الحق على الباطل , لان الحق في القلب نور يهتدي به المظلوم ليبدد ظلام الباطل ما وسعته المصادفات , وما مكنه الزمن , ولا يمكن للظالم اجتثاث ما في القلب , فقد كانت مصيبة كربلاء بكل مقدماتها ونتائجها , والقسوة البالغة , والأحداث الدموية التي رافقتها تضل نبراسا يقتدي به أحرار العالم على مر العصور.
فكلما تكون الأهداف نزيهة ومقدسة في الإسلام على أساس من القوانين الإلهية , كلما كانت نزيهة ومشروعة فلا يجوز في هذا النظام الوصول إلى الأهداف والغايات الإنسانية والإلهية السامية في أي طريق بل حتى في ساحات القتال لا يسوغ لهم الخروج من الأطوار المشروعة , ولذلك تحرم المثلة في أجساد القتلى , والاعتداء على النساء والضعاف الذين لم يشتركوا في القتال .
فقد بث يزيد الجواسيس لتتبع تحركات الحسين (ع) عند قدومه إلى الكوفة مع جمع قليل من أصحابه وأنصاره وال بيته اثر مبايعة أهل الكوفة له ومراسلتهم إياه بضرورة القدوم مما أقنعه بالموافقة والتوجه إلى الكوفة بعد أن رفض إعلان البيعة إلى يزيد , وكان الحسين (ع) قد أرسل ابن عمه مسلم بن عقيل رسولا عنه إلى أهل الكوفة , حيث بايعه هناك أكثر من اثني عشر إلفا من أهل العراق حين وصوله , وبينما كان الحسين (ع) في الطريق إلى الكوفة تلقى أخبار سيئة مفادها أن ابن عمه مسلم , اضطر إلى قتال عبيد الله بن زياد وان أهل الكوفة تخلوا عنه وأسلموه إلى عبيد الله فقتله , وتوالت الإحداث ضد الحسين (ع) حين وصوله إلى كربلاء كما هي معروفة للجميع , حتى قام بن سعد بمنع الماء من الحسين وأهل بيته كأخطر عملية بدأت بها بني أمية بالخروج من الأطوار المشروعة والقيم الإنسانية , متناسين العطش الذي حل بجيوشهم المكونة من ألف فارس بقيادة ( الحر ) لا لقاء القبض على الحسين وحصاره أثناء مسيره نحو كربلاء وقد بلغ بهم العطش ليشرفوا على الهلاك , فأمر الحسين (ع) بسقيهم , كما أمر بسقي خيولهم على الرغم من قلة الماء لدى قافلة الحسين(ع) وهم في جزيرة قفراء , هؤلاء المجرمون الذين نزعت الرحمة من قلوبهم , وملئوها بالمعاصي والحقد .
فقد قتل أصحاب الإمام ا(ع) وأهل بيته , وقبل أن يقتل وهو يقاتل على رجليه قتال الفارس الشجاع يتقي الرمية ويشد على الخيل وهو يقول : أعلى قتلي تحاثون أما والله لا تقتلون بعدي عبدا من عباد الله اسخط عليكم لقتله مني , وايم الله إني لا أرجو أن يكرمني الله بهوانكم ثم ينتقم لي منكم من حيث لا تشعرون, أما والله أن لو قتلتموني لقد القى الله بأسكم بينكم وسفك دماءكم , ثم لايرضى لكم بذلك حتى يضاعف لكم العذاب الأليم
فهنيئا لك يا أبا عبد الله لقد شرف الله مقامك , وبذلت نفسك مجاهدا , فأكرمك الله بجواره , ولحقك بدرجة جدك وأبيك , فلا حرمنا الله أجرك , نسال الله أن يمن علينا العمل بسيرتك , وان يحشرنا في زمرة أصحابك , فقد نلت مالم ينله احد , وجاهدت في سبيل الله , فقد كنت مع اصحابك نبراسا , وأوفاهم يقينا , وأشدهم قلبا , وأبذلهم بنفسه مجاهدا .