( لم يكن وقع الكلمات في أذنه كالكلمات, بل كانت موسيقى تهدر بها الأحلام , لعله كان ينتظر هذه الكلمات منذ زمن, ليثبت ذاته لكنها جاءت الآن, لتنسج له خيوط الرجولة التي تتحدر بالوفاء, , قد كان رجلا, وهو الآن يزداد رجولة , يعد جيوشه ويتأهب لمعركة بدات بكلمات, ولا يعرف كيف ستنتهي).........
استيقظ منتشياً على صَـوت أحلامه الجَـموحة، عانَـق بنظراته الجدّية القَـلم على رصيف المكتب، شعَـر بأنه يخَـاطب القلم بكلّ كبرياء وتحدي، وكان القلم يعلُـو الورقــة كأنه سيدٌ عليهَــا، كلاهمَــا يشعرُ بعنفوان الحيَــاة لمّــا يرى الآخر.
أخذَ نفساً عميقاً وأرخَـى نفسهُ علَــى السرير المتهالك وأخذَ يفكّــر بعنوان للصّـفحة التاليــة، خاطبَ نفسهُ قائلاً:
وجبَ أن تكُـون الورقة الأكثر نضوجاً علَــى الإطلاق، آنَ لي أن أكون كأبي، الحُــلم كفيلٌ بأن أكُــون، يكفي مَــا ضَــاع من العُــمر علَــى جنبَــات الطريق في المُــزاح والهزل، آن لي أن أكُــون!!
يُـحاول أن يجعَــل من تمتماتــهِ تلكَ طريقــاً يوصلهُ لمراده، فكّــر مليــاً في أولــى خطواتــه، وأخذَ ينسجُ في مخيلتــهِ شـبه طريـق تقُــوده إلــى حيَــاة أبيه التي كانت ولا تزال حياتــهُ ومعنــى وجوده، أغدق في تذكــر أبيــه وكل ما كانَ يفعلــه؛ حركاتــه، تصرفـاته، أقـوالــه، مظهــره، كل شيء، حتّــى غسلت دمُــوعه تلك الذكريــات بأمنيــَات العَــودة، كم كان لأبـيهِ أثـر علَـى حيَــاته، وأكثــر ما كَــان يذكــره هو عندما كان أبوه يأتــي بكتَــاب ظهرت عليه ملامح الشيب والإنهاك مع الزّمـن ليقرأ علَـى مسامعهِ قصصَ نجاح وبعض الأمور عن الحياة لم يكُــن ليدركهَــا وحده، نســي أن القَـدر لن ينتَـظر أن يعيشَ كلّ حيَــاته في كنـف أبيــه، ولن يمكثَ أباه مدى الدهر حتّــى يعلمَـه كلّ شيء، نـاظر أيّــامه السّـالفة وعـرفَ يقينـاً أن أباه كان يحَــاول أن يرسلَـه لمدرسَــة الحيَــاة ليتعلـم ما لا يستطيعُ تعلمَــه إلا بالتجــربة وخوض مغامرات الحياة، فجَـاء الحُـلم ليعيد لـرُوحــه رشاقتهَــا وصباهَـا بعدَ الممَــات!!
غادر سمير البيت علَـى أمل أن يلقَــى الشيخ رافع أعـزّ أصدقَــاء والدهِ ليُـخبرهُ عَـما يعرفه عنــه، كان متيقّـناً أن الشيخ رافع يعرفُ عَـن أبــيه الكثيــر، بحثَ عنــهُ ليجدهُ كالمعتاد أمامَ دكّـانه، يجلسُ على كرسيّ خشبيّ يحتاجُ لأولي قوّة كي يحملوه لثقل وزنـــه، كي يضمَـن الشيخ أن لا يحركهُ أو يسرقهُ أحد من أمام الدّكان، يجلسُ متكئاً برأســهِ على عكّــازه ويضعُ بإحدى يديهِ كتاباً يقرأه بعينيه دونَ أن ينطق بحــرف واحد، وقفَ سمير على باب الدكّــان مقابلاً للشيخ فلَــم ينتبــه لحضوره، كَـان يطالعُ الشيخ بكل معالــم وجهه التي أرقهَــا نقصُ العَــافيــة وكثرةُ الشّــقاء، كانَ يبحثُ عن ملامح أبيه في وجه الشيخ، يطالع كلّ تفصيل في إيماءاتهِ علّــه يستذكــر معَـالمَ روحــهِ التي غادرته حينَ مات أبوه!
استيقظَ من سراب السهو الذي كان يقبعُ بـه ليجدَ الشّــيخَ ينـظرُ إليــهِ مستغـرباً من نظـراتهِ إليــه، تغَــاضـى سَـمير عن الموقف وسلّـم علَـى الشيخ فرد الشيخُ السّــلام، قَـال الشيخُ محاولاً إنهَـاء حالة الصّمتِ التي ملأت المكَــان:
كيفَ حالكَ يا سَـمير، وكيفَ هي الجَــامعة، عهدتكَ مجتهداً فهل بقَـي الحَـال كمَــا هو؟!
قَــال سمير بكلّ تأكيد يا عَــم وأفضـل من قبل..أكمَـل بصَـوت أنهكَــهُ الرّجاء: جئتكَ بطلب لا يقدرُ عليــه سواك فهل تجيب طلبي أم تردّنــي؟!
الشيخ: إن كَـان بالوسع فحيّــاك.
سمير: أخبرني عَـن أبي يا عَـم.....
الشيخ: أبيك!!
سمير: نعَــم أبــي، أليسَ صديقك الصّدوق، ألم يكن يخبركَ بكلّ تفاصيـل حيَــاته، ألـم تتعلمَــا معنَــى الحيَــاةِ معـاً، ألم تخوضـا مغامراتكُـما معاً، لقد خسرتهُ قبل أن يخبــرني كيفَ جعَـل من تجَـاعيد العُـمر حيَــاة لأناس كثُـر كانوا تائهين فأعادهم للحيَــاة، ألستُ أولى النّــاس بمعرفتــه؟!
أخبرني إذاً!!
ابتسَــم الشيخُ وقَـال مازحــاً: لا بدّ وأنك حلمتَ بــهِ ليلَـة أمــس حتّــى تَـأتيني في الصّــباح الباكر لأخبرك عنه!!
واصـل الشيخُ قائلاً: كانَ أبوكَ يستقـبلُ التّــائهينَ لينير طريقَ الهدايةِ لهُــم دونَ ثَـمن أو مقَــابل.......أكمَــل الشيخُ كلامَــه واسترسلَ بالحديث عن والد سمير وكلاهمَــا غَــارقٌ في الحـرف المندفع من فــم الشيخ دونَ مقدّمــات، انجــرفت أدمُـع سمير نحوَ ملاذهَــا الأخيـر، خَجـل من نفسه، وكــأنه يعــرفُ أباه للمرّةِ الأولــى.
ودّعتني أبتاهُ في وجع الدّنا
فجعلت قلبي بالفراق سقيما
وتركتَ بَعدَكَ فوق بُعدِكَ غصّةً
تجتاحني حتى غدوتُ عليلا
أينكَ أبتي أنهلُ منكَ دونَ ملل أو ضجَـر، لا تكُــن سَاكن حُلمي دون أن أقدر على ضمّـكَ وتقبيل رأسك، أينكَ يا رفيق الروح والدّرب؟!
غَـادر سمير مجلسَ الشيخ يخاطب نفسَــه، تارةً ندمـاً وأخــرى عزمـاً على التغيير ليصبحَ كمَــا أرادهُ أبوه دومــاً، تذكّـر الكتَــاب الذي كانَ يقرأ له أبوه منه، علَــى عجلٍ ذهب إلى البيت ليبحثَ عَـن الكتاب فوجدهُ على هيئته وقد ازدادت شيبته وزادت تَـجاعيدُ غلافه، فتحــهُ ليجدَ أباهُ قَـد دوّن ملاحظات بجانب كل معلومـةٍ أو قصّــة قرأهَــا لـه مؤرخــة باليوم والسّــاعة، بعضهَــا كانَ في سنّ الثّــامنة وما يزيد!
تمعّــن بكلّ لحظَــات حيَـاته، بكلّ وقفــة حبّ وكلمةٍ لم تنبض إلا بالأبوة كان يرسلهَــا له والده، تذكّــر كل تصــرفاتهِ السّــاذجـة وحماقاتهِ التي كانت دونَ مبرر!
ضمّ الكتَــاب إلــى صَـدره ليُـشبعَ اشتياقه المتأخر، حَــاولَ أن يشمّ رائحَــة أبيه باحثاً عنهَــا بينَ غُــبار الكتاب، كتمَ أنفاس بكَــائه، استرخـى على السرير، حضَـن الكتَــاب واحتواه بكلّ ما أوتي من حنَــان أغمـض عيونــه وحَــاولَ أن يغفُــو في أحضَــان الكتَــاب، عله يجدُ أباه في حلم آخــر ليرتجي منــهُ عذراً وطريقاً للنّــجاة
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat