"وطنٌ بطَــعم الغيَــاب"
النوار الشمايلة
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
"لا يسَــارونا الشكّ لمّــا نغفُــل عن جراحاتنا التي طالمَــا أرهقنا حضورها الدّائم، لا نذكر المَــاضي رغمَ عِـبَره، ونحَــاول كثيراً أن نَنسى! تباً، لعشق يكُــون لسواها!"
كتبتُ كلماتي تلك، وتركتُ القَـلم يصَــارعه ألم الوحدةِ مجدّداً، لم أدرك يوماً أن القَــلم يشتاقُ للكتَــابةِ كمَــا أنا، كَــنتُ أعزي تَركي للكتَــابةِ أنّــي دائمُ الانشغَــال وأنّ الكتَــابة تلهيني عَن عملي، لم أخبر أحداً أنـي غارقٌ بالحنين حدّ الوحدَة وأنـي ما عَــدت قادراً علَــى البقَـاء وحيداً دونَ وطن! كنتُ أتمنّــى أن أعُــود إلى وطنـي لأجَـد مرتعـاً لا يقصيني بعيداً عن خَيمة أهلـي، ولا يحيد بـي عن الشعور بأنّ الهمّ واحد، والجُـرحَ واحد، كنتُ أتمنّــى أن أنزفَ ذات الجرح ولا أبقَــى أمجّــد النّزف من بعيد.
ليلةُ الخَــامسَ عشر من مايو تمــرّ ببطء وكأنهَــا أطول ليلةٍ في تاريخ النكــبة، بل هيَ كذلك، تعّــودت أن أكُــونَ في مثل هذه الليلةِ أجهـز نفسي استعداداً للخــروج في مسيرة الذكرى التي متّ فيهَــا قبلَ أن أولد، فقَـد أرّختُ كلّ مذكراتي بحيث تكُــون قبلَ هذا التّــاريخ، رغمَ أن آخرهَــا كانَ ليلة أمس! مرّ الوَقت كأنّــي أقبعُ في زنزانة مفرغةٍ من كلّ شيء إلا مما مضى من ألم الغيَــاب ومَــا سيكُــون منه، أتذوق طعمهُ قبلَ أن أعيشه، نظرتُ إلى سقف الغُــرفة التي توسطهَــا نورٌ خافتٌ، كثيراً مــا حاولَ أن يشدني لأنظر إليــه لكن عبثاً، أعيشُ بعَــتمةِ الغــربةِ محَــاولة منّــي أن أستَــجدي عتمَــة الخَــيمة التي يعيشُ فيهَــا أهلــي وأهلُ المخيّــم في البلاد الثكلى! تمَــادت أفكَــاري أكثر ممّــا تصورت، أنظرُ للقَـلم من بعَــيد دون أن أجرؤ علَــى إزاحة يدي من تحت رأسي، وكأني قيّــدتهَــا كَـي لا تمسكهُ، فتزيدُ وجعــي بحَــرفٍ مغترب أيضـاً فتتضَــاعفُ آلامــي. أطلقتُ العنَـان لشهيق حبسهُ الـزفيرُ لعدّة دقَــائق كنتُ أعيشهَــا مع الوحدة، ففكّــرتُ أن النّـفسَ سيقضّ عليّ وحدتي تلك!! موتٌ لا متناهٍ مـعَ غربةٍ تُعيدني للحيَــاة كي تقتلني من جَـديد، وكأنهَــا تعَـاقبني فوقَ غربَــتي غُــربة! أخذتُ نفساً عميقاً وأسندت ظهري لجدَار الغُــرفةِ الذي طالمَــا شعرتُ ببرُودتــهِ تنسَــاب إلى جسَـدي كخنجــرٍ صَـدئ لا تُشفــى مواضعُ طعنه أبداً!! دقّــاتُ عقرب السّــاعة ترن في أذني مذكـرةً إياي ألا أنسَى أن اليَـوم هو ذكرى نَكبتي في غربتي، يا إلهي كم هـوَ شاقّ علي أن أمضي مثلَ هذا اليَـوم بعيداً عن وَطني المَـنكوب وبعيداً عن أهلي المنكوبين! كم هُـو شاقّ علي أن أتذكر هَـذه الذكرى دونَ أن أكونَ في سَاحة النكبة وفي قَلب الوطن المَنكوب! يَلزمُـني كَـثيراً من الوَقت لأبكي هُـنا، فقد جفَّفت الغُـربة كلّ شَيء داخلي، إلا الألـم!
أوقَدَت عتمَـة الغرفة ألف حكَاية، ولكلّ زاوية أنظرهَا في الغُـرفة تَنهيدة تَحكي مَقطعـاً من الحكَـاية، تذكّـرتُ كيفَ كنّـا نجتمع حَـول "البنّـورة" التي كَـانت سيّـدة النور في الخَـيمَـة، لم نكُن لنَحظى بغَيـرها دَخيـلاً يَحتـوي عَـتمة قلوبنَـا ويمنَحنا صَدى دفءٍ كُـنّـا نُحـاول أن نلتمَسه بكلّ الأشكال... حتمـاً، هُـم هناكَ. لم تزل مَـلامحُ حيَـاتهم ذاتهَـا لم تَتغير! خيّم أنينُ الذّكريات وراح يجُـوب كلّ زاوية وكلّ بقعَـة، لا يقضّـهُ إلا تَنهيداتي التي شَعـرتُ بهَـا تَسيلُ حَـارقـةً على خـدّي، لتَخـط أيامـاً لا تُنسى منَ الوجَع.
فكّرتُ في فلسطين كثيراً - وأنا أنظرُ إلــى الخَــريطة التي احتَلت جزءاً كبيراً من جدَار الغُــرفة-، فكرتُ في شوارعهَا ومدنهَا، حاولتُ أن أقصي مخيم جبَــاليَــا (مخيّمي) بعيداً عن تفكيري بهَلوساتي بحَكـايا جدّي لي وأنا صَغير، عَن يافَــا الجميلَة ومحبَـوبته التي لم يتَزوجها وجُلوسَه على شاطئ غَــزّة فقط لكَي تتسع عينَـاه فرحـاً لرُؤية الغُـروب الذي كان يُـبعد عنـهُ كلّ الالآم والحُـزن، لكنّي سُرعان ما تذكرتُ أن جدّي مَـات في المُخيّم!! فعَـرفتُ أن المخيّم أقـوَى من أهزمَـه وأنتَشلهُ من تَفكيري لحَظـة واحدة!! أدركتُ كم أحبكِ فلسطين! أحبّكِ حدًّ النكبة وحد غيرتي لـمّا عـرفتُ أنى سأُقصى بعيداً عنكِ في يَـوم نكبتك، وحدّ غضَبي كُله على مَن تجـرأ في مثــلِ هـذهِ اللـيلةِ الغَـائمة ليَترك لكِ ولـي بقَايـا دمعـة لم تَزل حد اللحظةِ تَبحث عمّن يَمسَحها! أحبّك بقدر بعدي عنكِ وبقدر ما كرهتُ غربتي لأجلك، وبقدر ما غَـزلتُ من حَرفي حَنـاجر لم يكنُ يهتفُ صدَاها إلا باسمك، وبقَدر مـا توشّحت بلَون الغيـاب في ليلتي هَـذه!
وجّهتُ وجهي للمـرآة، فرأيتُ كم عانيتُ وأنا أهمسُ باسمك، شعرتُ يومهَا أن المرآة قبضَت على حَقيقة أنها صَادقةٌ فيما أرى فيهَا، فزادَت متَـاهـات وجهي حزنـاً إيمَانـاً منهَا بحَجم ضَعفي أمَـام الغُـربة. نظرتُ حولي، كَـان القَلم لا يـزال قابعاً فـوق الوَرقة يَرتجي منّي أن أخلع عـنّي عباءةَ الصّمت وأضمّ كلّ ما نسجتهُ إليهِ، كَي يخفّف هو أيضاً حنينهُ المتأجّج داخلهُ للوطَن، لكـنّي شعَرتُ أني كتبتُ كلّ شَيء في مكَان لن أنسَاه ولن أضيّع سطراً بل حرفاً واحداً منـه، حَـزنتُ لأجل القَلم كثيراً؛ كيفَ لا يكُون لـهُ نصيبٌ من ليلتي تلك، أمسَكتهُ قبلَ أن أغرَق في صَمتي وأكمَــل حديثي عَـن معشُـوقتي في ليلَــة نكبتهَـا مجَدداً وكتبتُ أعلَى الورقَة: "وطنٌ بطَعم الغيَاب!"
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
النوار الشمايلة

"لا يسَــارونا الشكّ لمّــا نغفُــل عن جراحاتنا التي طالمَــا أرهقنا حضورها الدّائم، لا نذكر المَــاضي رغمَ عِـبَره، ونحَــاول كثيراً أن نَنسى! تباً، لعشق يكُــون لسواها!"
كتبتُ كلماتي تلك، وتركتُ القَـلم يصَــارعه ألم الوحدةِ مجدّداً، لم أدرك يوماً أن القَــلم يشتاقُ للكتَــابةِ كمَــا أنا، كَــنتُ أعزي تَركي للكتَــابةِ أنّــي دائمُ الانشغَــال وأنّ الكتَــابة تلهيني عَن عملي، لم أخبر أحداً أنـي غارقٌ بالحنين حدّ الوحدَة وأنـي ما عَــدت قادراً علَــى البقَـاء وحيداً دونَ وطن! كنتُ أتمنّــى أن أعُــود إلى وطنـي لأجَـد مرتعـاً لا يقصيني بعيداً عن خَيمة أهلـي، ولا يحيد بـي عن الشعور بأنّ الهمّ واحد، والجُـرحَ واحد، كنتُ أتمنّــى أن أنزفَ ذات الجرح ولا أبقَــى أمجّــد النّزف من بعيد.
ليلةُ الخَــامسَ عشر من مايو تمــرّ ببطء وكأنهَــا أطول ليلةٍ في تاريخ النكــبة، بل هيَ كذلك، تعّــودت أن أكُــونَ في مثل هذه الليلةِ أجهـز نفسي استعداداً للخــروج في مسيرة الذكرى التي متّ فيهَــا قبلَ أن أولد، فقَـد أرّختُ كلّ مذكراتي بحيث تكُــون قبلَ هذا التّــاريخ، رغمَ أن آخرهَــا كانَ ليلة أمس! مرّ الوَقت كأنّــي أقبعُ في زنزانة مفرغةٍ من كلّ شيء إلا مما مضى من ألم الغيَــاب ومَــا سيكُــون منه، أتذوق طعمهُ قبلَ أن أعيشه، نظرتُ إلى سقف الغُــرفة التي توسطهَــا نورٌ خافتٌ، كثيراً مــا حاولَ أن يشدني لأنظر إليــه لكن عبثاً، أعيشُ بعَــتمةِ الغــربةِ محَــاولة منّــي أن أستَــجدي عتمَــة الخَــيمة التي يعيشُ فيهَــا أهلــي وأهلُ المخيّــم في البلاد الثكلى! تمَــادت أفكَــاري أكثر ممّــا تصورت، أنظرُ للقَـلم من بعَــيد دون أن أجرؤ علَــى إزاحة يدي من تحت رأسي، وكأني قيّــدتهَــا كَـي لا تمسكهُ، فتزيدُ وجعــي بحَــرفٍ مغترب أيضـاً فتتضَــاعفُ آلامــي. أطلقتُ العنَـان لشهيق حبسهُ الـزفيرُ لعدّة دقَــائق كنتُ أعيشهَــا مع الوحدة، ففكّــرتُ أن النّـفسَ سيقضّ عليّ وحدتي تلك!! موتٌ لا متناهٍ مـعَ غربةٍ تُعيدني للحيَــاة كي تقتلني من جَـديد، وكأنهَــا تعَـاقبني فوقَ غربَــتي غُــربة! أخذتُ نفساً عميقاً وأسندت ظهري لجدَار الغُــرفةِ الذي طالمَــا شعرتُ ببرُودتــهِ تنسَــاب إلى جسَـدي كخنجــرٍ صَـدئ لا تُشفــى مواضعُ طعنه أبداً!! دقّــاتُ عقرب السّــاعة ترن في أذني مذكـرةً إياي ألا أنسَى أن اليَـوم هو ذكرى نَكبتي في غربتي، يا إلهي كم هـوَ شاقّ علي أن أمضي مثلَ هذا اليَـوم بعيداً عن وَطني المَـنكوب وبعيداً عن أهلي المنكوبين! كم هُـو شاقّ علي أن أتذكر هَـذه الذكرى دونَ أن أكونَ في سَاحة النكبة وفي قَلب الوطن المَنكوب! يَلزمُـني كَـثيراً من الوَقت لأبكي هُـنا، فقد جفَّفت الغُـربة كلّ شَيء داخلي، إلا الألـم!
أوقَدَت عتمَـة الغرفة ألف حكَاية، ولكلّ زاوية أنظرهَا في الغُـرفة تَنهيدة تَحكي مَقطعـاً من الحكَـاية، تذكّـرتُ كيفَ كنّـا نجتمع حَـول "البنّـورة" التي كَـانت سيّـدة النور في الخَـيمَـة، لم نكُن لنَحظى بغَيـرها دَخيـلاً يَحتـوي عَـتمة قلوبنَـا ويمنَحنا صَدى دفءٍ كُـنّـا نُحـاول أن نلتمَسه بكلّ الأشكال... حتمـاً، هُـم هناكَ. لم تزل مَـلامحُ حيَـاتهم ذاتهَـا لم تَتغير! خيّم أنينُ الذّكريات وراح يجُـوب كلّ زاوية وكلّ بقعَـة، لا يقضّـهُ إلا تَنهيداتي التي شَعـرتُ بهَـا تَسيلُ حَـارقـةً على خـدّي، لتَخـط أيامـاً لا تُنسى منَ الوجَع.
فكّرتُ في فلسطين كثيراً - وأنا أنظرُ إلــى الخَــريطة التي احتَلت جزءاً كبيراً من جدَار الغُــرفة-، فكرتُ في شوارعهَا ومدنهَا، حاولتُ أن أقصي مخيم جبَــاليَــا (مخيّمي) بعيداً عن تفكيري بهَلوساتي بحَكـايا جدّي لي وأنا صَغير، عَن يافَــا الجميلَة ومحبَـوبته التي لم يتَزوجها وجُلوسَه على شاطئ غَــزّة فقط لكَي تتسع عينَـاه فرحـاً لرُؤية الغُـروب الذي كان يُـبعد عنـهُ كلّ الالآم والحُـزن، لكنّي سُرعان ما تذكرتُ أن جدّي مَـات في المُخيّم!! فعَـرفتُ أن المخيّم أقـوَى من أهزمَـه وأنتَشلهُ من تَفكيري لحَظـة واحدة!! أدركتُ كم أحبكِ فلسطين! أحبّكِ حدًّ النكبة وحد غيرتي لـمّا عـرفتُ أنى سأُقصى بعيداً عنكِ في يَـوم نكبتك، وحدّ غضَبي كُله على مَن تجـرأ في مثــلِ هـذهِ اللـيلةِ الغَـائمة ليَترك لكِ ولـي بقَايـا دمعـة لم تَزل حد اللحظةِ تَبحث عمّن يَمسَحها! أحبّك بقدر بعدي عنكِ وبقدر ما كرهتُ غربتي لأجلك، وبقدر ما غَـزلتُ من حَرفي حَنـاجر لم يكنُ يهتفُ صدَاها إلا باسمك، وبقَدر مـا توشّحت بلَون الغيـاب في ليلتي هَـذه!
وجّهتُ وجهي للمـرآة، فرأيتُ كم عانيتُ وأنا أهمسُ باسمك، شعرتُ يومهَا أن المرآة قبضَت على حَقيقة أنها صَادقةٌ فيما أرى فيهَا، فزادَت متَـاهـات وجهي حزنـاً إيمَانـاً منهَا بحَجم ضَعفي أمَـام الغُـربة. نظرتُ حولي، كَـان القَلم لا يـزال قابعاً فـوق الوَرقة يَرتجي منّي أن أخلع عـنّي عباءةَ الصّمت وأضمّ كلّ ما نسجتهُ إليهِ، كَي يخفّف هو أيضاً حنينهُ المتأجّج داخلهُ للوطَن، لكـنّي شعَرتُ أني كتبتُ كلّ شَيء في مكَان لن أنسَاه ولن أضيّع سطراً بل حرفاً واحداً منـه، حَـزنتُ لأجل القَلم كثيراً؛ كيفَ لا يكُون لـهُ نصيبٌ من ليلتي تلك، أمسَكتهُ قبلَ أن أغرَق في صَمتي وأكمَــل حديثي عَـن معشُـوقتي في ليلَــة نكبتهَـا مجَدداً وكتبتُ أعلَى الورقَة: "وطنٌ بطَعم الغيَاب!"
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat