اجتنبوا مجالسهم ومجالستهم
فلاح السعدي
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
قال تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}( ).
الخوض: هو الشروع في الماء والمرور فيه، وأكثر ما ورد في القرآن ورد فيما يذم الشروع فيه وهو الدخول في باطل الحديث والتوغل فيه كذكر الآيات الحقة والاستهزاء بها والإطالة في ذلك.
والمراد بالإعراض عدم مشاركتهم فيما يخوضون فيه كالقيام عنهم والخروج من بينهم أو ما يشابه ذلك مما يتحقق به عدم المشاركة، وتقييد النهي بقوله تعالى {حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ} للدلالة على ان المنهي عنه ليس مطلق المجالسة والقعود معهم.
والكلام وإن وقع في سياق الإحتجاج على المشركين لكن ما أشير إليه من الملاك يعمّه فيشمل غيرهم كما يشملهم.
وأنّ النهي جاء حتى لو غفل الشخص عنه بما أنساه الشيطان ثم تذكّر فلا بدّ أن لا يتهاون في القيام عنهم وهو قوله تعالى {وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ}( ).
وأوضح منها دلالة قوله تعالى في سورة النساء {وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً}( ).
وهي تذكر أن الحكم النازل سابقاً وجَّه به إلى المؤمنين ولازمه أن يكون الخطاب في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا ... }( ) موجّها إلى النبي’ والمقصود به غيره على حدّ القول (إياك أعني فاسمعي يا جارة) في تفسير القمي في قوله تعالى: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا}( ) الآية بإسناده عن عبد الأعلى بن أعين قال: ( قال رسول الله صلى الله عليه وآله: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلس في مجلس يسبّ فيه إمام أو يغتاب فيه مسلم فإن الله تعالى يقول في كتابه: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ})( ).
وفي الدر المنثور أخرج عبد بن حميد وابن جرير وأبو نعيم في الحلية عن أبي جعفر(عليه السلام) قال: ( لا تجالسوا أهل الخصومات فإنهم الذين يخوضون في آيات الله) و(لا) ناهية هنا.
وفيه أخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن محمد بن علي قال: (إنّ أصحاب الأهواء من الذين يخوضون في آيات الله).
وفي تفسير العياشي عن ربعي بن عبد الله عمن ذكره, عن أبي جعفر (صلى الله عليه): في قول الله {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا} قال الكلام في الله والجدال في القرآن {فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ}( ) قال: منه القصاص.
وفي المجمع: قال أبو جعفر (صلى الله عليه): لمّا أُنزل {فَلاَ تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ} قال المسلمون: كيف نصنع؟ إن كان كلما استهزأ المشركون بالقرآن قمنا وتركناهم، فلا ندخل المسجد الحرام ولا نطوف بالبيت الحرام، فأنزل الله تعالى {وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ}( ) أمرهم بتذكيرهم ما استطاعوا.
إنّ العقيدة الإسلامية تعمق في نفسية الإنسان المسلم حب الحق وبغض الباطل تعميقاً تَظهر آثاره في انفعالات المسلم من غضب لله تعالى وعدم رضا بالباطل، في مجالات قيامه بالمسؤولية الاجتماعية الإسلامية المعبر عنها في لغة الفقه الإسلامي بـ(الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر).
يقول الفقيه الجزائري (رحمه الله): ( لكن منشأهما يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, هو الغضب لله تعالى وعدم الرضا بالمعصية كما يظهر في الروايات ).
ومراتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر التي تعد بالإنكار باليد، فالإنكار باللسان، فالإنكار بالقلب, تلمسنا مدى قوة الدفع التي تُحشّدها العقيدة الإسلامية لتعمّق العاطفة الإسلامية في نفسية الفرد والمجتمع المسلم.
على أن الإنكار القلبي ـ هنا ـ ذو جانبين: سلبي وإيجابي، وليس كما يفهم منه أنه ذو جانب سلبي فقط...
1. يتمثل الجانب السلبي في الانفعال النفسي الداخلي.
2. يتمثل الجانب الإيجابي بالمقاطعة لصاحب المنكر بغية ارتداعه عن المنكر ورجوعه إلى المعروف.
يقول الفقيه السبزواري (رحمه الله):ويجبان ـ يعني الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ـ بالقلب مطلقاً بأن لا يرضى بفعل المنكر وبترك الواجب... والظاهر، أنه يجب عليه أظهار ما يدل على إرادته ترك المنكر من فاعله وفعل المأمور به من تاركه، بأن يُظهر الكراهية في وجهه ويُعرض عنه حين التكلم ويهجره، ويدل عليه الأخبار الدالة على تحريم الرضا بالحرام, حيث روى الكليني عن السكوني عن أبي عبد الله (صلى الله عليه) قال: (قال أمير المؤمنين (صلوات الله عليه): (أمرنا رسول الله (صلى الله عليه وآله), أن نلقى أهل المعاصي بوجوه مكفهرة)، وعن الحرث بن المغيرة قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): (لآخذن البرئ منكم بذنب السقيم ولِمَ لا أفعلْ، ويبلغكم عن الرجل ما يسيئكم ويسيئني فتجالسوهم وتحدثونهم، فيمر بكم المار، فيقول: هذا شرُّ من هذا، فلو أنّكم إذا بلغكم عنه ما تكرهون زبرتموهم ونهيتموهم، كان ابر بكم وبي, وعن الحرث بن المغيرة أيضاً, أن أبا عبد الله (عليه السلام) قال: (لأحملنّ ذنوب سفهائكم على علمائكم ... إلى أن قال: ما يمنعكم إذا بلغكم عن الرجل منكم ما تكرهون وما يُدخِلْ علينا الأذى أن تأتوه فتؤنبوه وتعتبوه وتقولوا له قولا بليغاً؟ قلت جعلت فداك، إذن لا يقبلون منا، قال أهجروهم واجتبوا مجالسهم).
وهذه الأخلاق أن سارت بمجتمعاتنا تغنت وارتفعت بها الحياة والعلاقات وتوطدت وقوت الروابط بين الأفراد وبين المجتمع, فمن حق الإنسان أن يدافع عن الإنسان ويدفع عنه كلمة السوء وكذا من حقه أن يدافع عما يؤمن به من الدين والمذهب والعقيدة والمبدأ, والمقاطعة ليس في جميع الأحوال تعتبر أمرا سلبيا بل قد تكون وسيلة من وسائل الردع للمخربين والمنافقين والنمامين, فتأملوا جيدا.
والحمد لله المنان
F_m1333@yahoo.com
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
فلاح السعدي

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat