إذا كان لبابل حضارة ، امتدت منذ إنشائها قبل خمسة آلاف ســـنة ، حتـــى بلغت قمة مجدها في عهد ملكها السادس حمورابي ، الذي وضع أول شريعة قانونية مكتوبة ، عرفها التاريخ قبل ما يقرب من سبعة عشر قرنا قبل الميلاد 0
فان لمدينة الحلة ، الوريث الشرعي لبابـــل ، عمقاً حضاريا منــــذ تاريخ إنشائها إمارة مزيدية ، أول أمرائها ( أبو الحسن علي بن مزيد الاسدي ) الـذي حكم فيها خمس سنوات (1012م ــ 1017 م) ، ثم مصّـرها ( سيف الدولة صدقة ألأول بن منصور بن دبيس ألأول بن علي بن مزيد الاسدي) في بداية القرن الثاني عشر الميلادي ، والــــذي دامت ولايته اثنتين وعشرين سنة اهتم فيها بالعمران والإدارة وكافة الميادين العلمية ، والثقافية، والأدبية ، والفنية ، فبلغت الإمارة أوج عظمتها وقد وجد رجال ميادين الفكـر وألادب والثقافة الرعاية فأقبلوا عليه، يقول الدكتور المرحوم علي جواد الطاهر ( كانت مكانة بني مزيد في الشعر بارزة بروزها في التاريخ )0
وقد تعاقب في تلك الأسرة رجال ، حرصـــوا علــــى رعاية وتكــريم أهل الفكر والثقافة والأدب والفن ، واستنادا للقـول : ( الأفكار مــثل الأشجار لاتنبت إلا في أرض خصبة تصلح لها ) ، كانت الحــــلة الأرض الخصبة التي أصبحت ميداناً واسعاً لحركة علمية ، و ثقافية ، و أدبية ، وفنية ، حتى تزاحم فيها أهــــل الفكر والمعرفة وخصوصاً في ميدان الفقه ، فانتقلت الحوزة العلمية من النجف إلى الحلة زمن العلامة الكبير جعفر الهذلي (ت1277م) الملقب بـ ( المحقق الحلي ) ، فكان مجلسه يضم أكثر مـن أربعمائة عالم ومجتهد0
وفي هكذا حاضــن ، وهكــذا ظروف ، كان لابد من نتاج فكري يميز مدينة الحلة عن غيرها ، وكان ذلك فعلاً ، ولكنـــنا افتقرنا إلـــــى مدونات وإحصاءات تعرفنا بناتج علمائنا ومفكرينا دفعة واحدة ، وليس انتقاءات في هذا المجال أو ذاك ، وخصوصاً وان المدة امتدت في عشرة قرون، فنزل إلى الساحة الأدبية الدكتور صباح نوري المرزوك الذي أطلق عليه أدباء الحلة في قلم الدكتور سـعد الحداد أنه ( شيخ المفهرسين ) بمؤلفه ( النهضة الفكرية في الحلة / أرشيف الحياة الثقافية في الحلة منذ تأسيسها حتـى اتخاذها عاصمة للثقافة العراقية) ، مترجما لنا حياة ( 567) مفكـــرا ، وشاعراً ، وأديبا ، وفناناً في (185) صفحة من القطع الاعتيادي(ألوزيري)0
استهل الــــدكتور المرزوك كتابه ، بمقدمة أوضح فيها منهجية عـــمله والمصادر التي اعتمدها ، ثم (فــذلكــة تاريخية) بين فيها بشكل موجز تاريـــــخ الحــــلة ، أعقبتها (ممهدات ثقافية ) حوت توضيحات عن المجالس الأدبية ، والتعليم ، والصحافة الــــذي بدأها المؤرخ عـــبد الرزاق الحسني عام (1927م) ، عندما أصــــــدر العدد الأول من جريدة الفيحاء في 27 كانون ثاني ، ثم أشار إلى المكتبات والطباعـــــة في الحلة وبذلك فقد سلط الضوء على أدوات الكتابة ، ومستلزماتها ، ليظـــــهر لنا دورها فــي حــــركة النهوض الفكري ، و بدأ ترجمته في الفصل الأول الـذي خصصه للنهضة العلمية فبين لنا الظروف التي نشأت فيها ، مترجـــماً لنا حــــياة (125) عالماً ، وفقيهاً، بادئاً بالسيد سعيد بن عبد العزيز (ت 1029 م) الذي ترجمه عالماً بصناعة الطب ، وفقيهاً ، وأديبا ونحوياً ، وذكر لــــه ( اختصار كتاب السائل الحنين ــ تلخيص شرح فصول بقراط ) ، وفي متابعة لتواريخ وفيات العلماء والفقهاء الذين ذكرهم المرزوك في هذا الفـصل نجد أن الحلة أنجبت (108) عالماً منذ تأسيسها وحتى نهاية القـــرن الثامن عشر ، منهم أبو الفضائل جمال الدين أحمد بن سعد الدين الحسني (ت 1274م) ، وهـــو(أول مـــن قسم الإخبار إلى أقسامها الأربعة المشهورة : الصحيح والموثق والحسن والضعيف) و (6 ) علماء شهدوا القرن التاسع عشر، أما القرن العشرون ، فقد عاش فيه أحد عشر عالـــماُ وفقيهاً ، وبوفاة السيد مسلم بن حمود بن ناصر بن حسين آل عزام الحسيني الحلــي عام (1982م) ، الذي ذكرله المرزوك مؤلفات عــدة منها (القرآن والعقيدة) و ( الطرائف العلمية و الظرائف الأدبية ) ، أنهى الدكـــتور المــرزوك ترجمته لعلماء وفقهاء الحــلة ليبدأ الفصل الثاني الذي خصصه للنهضة الشعرية ، وحيث انه أشار إلى ازدهار الشعر منذ حكم الدولة المزيدية ، فقــــد ترجم لنا (286) شاعرا منهم (30 ) شــاعراً شعبياً ، و أول من ذكر الأمير أبو الحسن صدقة سيف الدولة بن بهاء الدولة أبي كامـل منصور بن دبيس بن مزيد الاسدي الناشري ( 1050م ــ1107م) الذي بنـــى مديــنة الحــــلة ، ولضخامة النهضة الشعرية ، قسم الدكتور الفاضل ما أمسك به إلى نهضة ما قبل القرن العشرين وعدد شعرائها ( 173) شاعراً ، ونهضة القـــرن العشرين وعـــــدد شعرائها (113) شاعرا ، بضمنهم (4) شاعرات ، و(30) شاعرا شعبياً0
وبرغم كل الجهود المبذولة مـــن قبل الــدكتور المرزوك فانه لم يصل إلى معرفة ولادات ، ووفيات بعض الشعراء لقـدم المرحلة التي غطاها ، فقـــد وجــــدنا أن (26) شاعرا جاءت ترجمته بلا تأريــخ ولادة ، ولا تأريــخ وفاة ، و(36) ترجمة بلا تاريــخ ولادة ، و(2) بلا تأريخ وفاة 0
وقد شهدت النهضة الشعرية ، ازدهاراً واضحاً من خلال ماذكره الدكتور الفاضل من نتاجات شعرية ، وخصوصاً شعراء القرن العشرين حيث امتازوا بغزارة إنتاجهـــم الشعري ومنهم على سبيل المثال وليس الحصر الشاعر جبار بن عبد الحسين بن رضـا الكواز ، الذي له دواوين عدة منها : سيدة الفـــجر ، و رجال من طراز خاص ، وذاكرة الورد ذاكرة الخندق ، وحمامة الدوح ، وغيرها ، ومن شعره في يوم الاثنين الدامــي : كفــــكف دمــــوعك لاتبك فهم علم فوق العراق وهم في القلب معتصم كفكف دموعك هذا بعض ما وهبوا جادوا بأنفســــهم بالله قــــد قسمـوا
والشاعرة حسينة عباس بنيان الساعدي التي صدرت لها مجموعات شعرية منها سمات بابلية ، وكلمات ما بعد الموت ، فتقول في قصيدة ( خلود الشهادة) : سطع الهــدى وتفتحت أســــراري فــــــي عشـــــقكم ياســـيد الأبرار أنت الــذي ناديت والعــــمر اكتفى ( الموت أولــى من ركــوب العار)
وقد وجدنا الشاعر علي عامر تاج الدين أقل الشعراء عمرا ً، فهـــو مــــن مـواليد (1984م) وله ديوان (مرافئ الحنين) ، ومشاركات واسعة في المهرجانات الشعرية0
أما الشعراء الشعبيون الذين ترجم لهم الدكتور المرزوك فان (21) شاعراً منـــهم توقف إنتاجه الشعري ، وكافة النشاطات ، لانتقالهم إلى جوار ربهم 0
وما أن انتهينا من متابعة النهضة الشعرية في الحلة ، حتى نقلنا الدكتور المرزوك إلى النهضة الأدبية في الفصل الثالث من الكتاب ، فقد استطاع المرزوك أن يترجـــم لنا عن (105) أديباً لهم حضور متمــيز فــي الساحــة الأدبية لما طـــرحوه مـــن مـؤلفات مطبوعة ، ولما احتفظوا به من مخطوطات في خزاناتهم 0
وإذا اشر الـــدكتور المرزوك ، أن القرن الثاني عشر الميلادي قــــد شــــهد بداية النهضة الشعرية في الحلة ، فقد أشر لنا تأخــر النهضة الأدبية إلـــــى القرن العشرين فترجم لـنا حياة (105) أديباً (20) منهم تركوا الدنيا لمحبيها ليسكنوا دار البقـاء ، وأول المغادرين الحاج عبد المنعم العلوش عام (1955م ) فــقد كان أديباً ، وكاتباً ، وخطيباً ، نشر مقالاته في الصحف العربية والعراقية وشارك في ثورة العشرين ، وكانـت ولادته في المسيب عام 1893م 0
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــالمقطوع من الموضوع ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أما النهضة الفنـــية التـــي وردت بالفصل الرابع (الأخير) ، فيقـول عنها الدكتور المرزوك ( إن الفنــون في محافظة بابل هي امتــداد للحـركة الفنية في بابل القديمة وقد أبدع التشكيلــيون والمســرحيون والموســيقيون في هــذه المدينة بانتاجاتهم المبدعة من خلال مشاركة التشكيليين في المعارض المقامة في الحلة و العراق والعالم) ولذا نجد أن المرزوك ترجم لـ (31) تشكيلياً ، رائدهم ســلمان داود الخلف ( 1919م ــ 1981م ) و(16) مسرحيا أطولهم عمــــراً المسرحي أسعد مبارك فقد ( ألف وأخرج ومثل عددا من المسرحيات وشغل مناصب إدارية فــــي بغــداد في مجال التلفزيون والسينما) ، أما غالب العميدي فقد ألف ومثل وأخـــرج كثيراً من الأعمال المسرحية ، وكتب الاوبريت ورأس تحرير مجلة أضواء ، إضافة إلى ترأسه نقابة المسرحيين والفنانين لدورات عدة و( 4) موسيقيين هم حسين قــدوري ، ورشــيد محمد علي ، وصبري خليل عـــوض ، وعبد الجبار حسن ، ثلاثة منهم فارقوا الحياة 0
وفي الوقت الذي نبارك فيه جهود الدكتور صباح نوري المرزوك المضنية ، لابد أن نؤشر ملحوظاتنا ، متغافلين عـــن الأخطاء الطباعـــية لعــــدم تأثيرها فــــي أصول النصوص ، فقد وجدنا كثيراً من الذين ذكروا في النهضة الشعرية لم يذكر لهم الدكـتور المرزوك كغيرهم أن لهم في الشعر موطناً، مثل ( محمد بن محمد بن علـي أبو المعالي الهيتي) ص59 ، فترجمته : ( من رجال أوائل القرن السادس الهجري ) فـي حـــين إن ترجمة الذي بعده ( عيسى بن فاتك الواسطي أبو النجم ) نصت : ( من شـــعراء القـرن السادس الهجري ) وهـذا الفرق يجعلنا فـي شك من أمــر الأول مـن انه شاعر ، وغيره كثير، ثم ونحن مازلنا في النهضة الشعرية وجدنا أن ترجمة (أبو علي الحسن بن معالي بن مسعود) ص 61 ، تؤهله أن يكون من رجال النهضة العلمية، سيّما وان الدكـــــتور الفاضل لم يذكر انه شاعر، وما اليـتـــم إلا في ترجــمة ( الشيخ حمزة بن ناصر الحلي) ص 75 ، التي نصها ( كف بصره في كبره ) ، كما يمكن تصنيف ( أبو المهدي صالح بن حسين الاعـــرجـي الحسيني ) ص85 ، و( الشـــيخ محمد رضا بن شهيب الحلــي) ص 86 ، ضمن النهضة الأدبية لما ورد بترجمتيهما ، أما ( محسـن العميدي ) ص 91 فكان يفترض ان يعد من الشعراء الشعبيين ، و(حسن لطيف) ص 102 جاءت ترجمته ( مترجم وخطاط ) وهذا يعني أن له في النهضة الأدبية أكثرمما له فــــي غيرها حسب تصنيف الدكتور المرزوك 0
وفي مجال النهضة الأدبية ، فقد وجدنا تراجم يمكن أن تحال إلــى النهضة العلمية وعلى ســبيل المـــثال وليس الحصر( الشيخ حسن كاظم علوش / 1930م ــ 1994 م) ص135 ، فقد جاء في ترجمته انه أسس المدرسة العلمية ومؤلفاته في اختصاص الدين منها ( فلسفة الدين الإسلامي ) ، و( الاعتصام بتعاليم الإسلام) 0
وفي الختام ، كان بودنا ، واستكمالاً للفائدة ، لو صنف الدكـتور الفاضل المؤلفات التـــــي ذكرها إلى مطبوع ومخطوط 0
البريد الالكتروني ــــــــــــــــــــalmosawe.mahmood@yahoo.comـــــــــــــ
نشر في جريدة الغد ( 166 ) في الاثنين 22 / 10 / 2012 في الصفحة الثقافية 4 وقد قطع من الموضوع النص مابعد الخط
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat