مع سماحة السيد كمال الحيدري في مشروعه من اسلام الحديث الى اسلام القرآن ( 1 )
عدنان عبد الله عدنان

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إضاءة: لابد لي من البيان أولا، بان سماحة السيد الحيدري، قد عنى بـ"الاسلام"، و "القرآن"، معناهما الاصطلاحي المعهود والمعروف لدى كافة المسلمين، أما لفظ "الحديث"، فلم يعن به خصوص ما نقل الينا من قول المعصوم فحسب، بل عنى به ما يرادف السنة، ليشمل به كل ما نقل الينا من قول المعصوم وفعله وتقريره، وهو خلاف الاصطلاح، ولكن الامر هين، خصوصا مع احتمال ان سماحته اراد ان يحاكي عنوان كتاب جورج طرابيشي.
ولا بد أيضا من التأكيد، على ان سماحته لم يقصد من مفردة السنة (أو: الحديث)، السنة الواقعية، وانما يقصد السنة المنقولة الينا عبر الرواة، والتي قد يعبر عنها بـ"السنة المحكية" أيضا.
ملخص الحلقة الاولى:
تطرق سماحته، في البدء، الى انه لا يريد استفزاز أحد أو الاساءة اليه، وان بحثه بحث علمي، لا شأن له بالاشخاص أبدا.
ولكنه لم يوفق للالتزام بذلك، مع الاسف، لا في هذه الحلقة، ولا في بعض الحلقات اللاحقة، فقد فلتت منه بعض الالفاظ، ما كان ينبغي ان تصدر منه، وخصوصا حينما كان ينفعل.
ثم أوضح سماحته ـ بعد ذلك ـ ما يعنيه، بمفردات البحث، وهي: الإسلام، القرآن، الحديث. وقد أشرنا في "الإضاءة" الى ذلك.
ثم أشار سماحته الى ان القران فيه كل شيء من المعارف الدينية، وكذا السنة المحكية، واذا كانت المعارف الدينية كلها، تؤخذ من هاتين المنظومتين، تساءل عن العلاقة بينهما، وقال مجيبا: ان هناك اتجاهات ثلاثة بهذا الشأن:
الاتجاه الاول: يقول برمي السنة في البحر، والاكتفاء بالقرآن وحده، باعتباره المرجعية الوحيدة، لاستنباط المعارف الدينية. ويسمى أصحاب هذا الاتجاه بـ "القرآنيين".
الاتجاه الثاني: يذهب الى ان المرجعية للحديث وحده، وينقسم أصحاب هذا الاتجاه الى قريقين:
الفريق الاول: يتمثل باولئك الذين أسقطوا ظواهر القرآن عن الحجية والإعتبار، وقالوا انما تكون ظواهره حجة بالنسبة للمخاطب، وليس لكل أحد، ولما كان المخاطب بالقرآن هم المعصومين، فهم وحدهم القادرون على فهم القرآن، أما غيرهم فلا طريق لهم الى فهم القرآن، الا من خلال المعصومين، وذلك لان غير المعصومين ليسوا مخاطبين به.
وأصحاب هذا الاتجاه، هم الاخباريون أو أصحاب الحديث.
الفريق الثاني: ويتمثل باولئك الذين جعلوا المرجعية للحديث، دون القرآن أيضا، ولكنهم يرجعون الى القرآن، في حال التهافت أو التعارض المستقر بين الاحاديث، وأما مع عدم وجود تعارض بينها فلا يرجعون اليه.
ونسب هذا القول الى جملة من الاعلام، وعلى رأسهم السيد الخوئي (قده) وأساتذته وطلابه، وأضاف سماحته ان عدم تصنيف الامام (قده) في تفسير القرآن، الا كتاب واحد، وعدم وجود درس له في تفسير القرآن، شواهد على عدم اعتبار محورية القرآن لديه.
وحيث أن الامام الخوئي (قده)، أورد رواية "ما خالف القرآن فهو زخرف وباطل"، تحت عنوان:"الكلام في علاج التعارض"، من كتاب مصباح الاصول، إذ يكون العرض على القرآن، من المرجحات في باب التعارض، استنتج سماحة السيد الحيدري، ان الحاجة الى القرآن لدى الامام الخوئي، تنحصر في هذه الحالة فقط، وهي حالة استقرار التعارض بين الروايات، وأما قبل التعارض، فلا حاجة اليه !!!.
وانتهى سماحته الى القول بان الامام الخوئي يقول، انما نحتاج الى القرآن، في باب التعارض فقط، لا مطلقا !!
ثم اجتزأ سماحة السيد الحيدري، شيئا مما جاء في كتاب التنقيح / الجزء الاول، بخصوص مبادئ الاجتهاد، واستنتج؛ ان الامام الخوئي يرى بان علم التفسير، غير داخل في العلوم اللازمة للاجتهاد، ولا يشترط في المجتهد ان يكون مفسرا، وذلك لانه (قده) ذكر علم الاصول وعلم الرجال، من مبادئ الاجتهاد، ثم قال: "... وأما غير ما ذكرناه، من العلوم فهو فضل، لا توقف للاجتهاد عليه."
الإتجاه الثالث: ثم قال سماحته بانه يرفض كلا الاتجاهين السابقين، ويذهب الى اتجاه ثالث، مفاده: محورية القرآن ومدارية السنة
انتهى ملخص ما جاء في الحلقة الاولى:
وبشأن ما نسبه سماحته الى الامام الخوئي (قده)، قال ـ منفعلا أو متحديا ـ :"... تعالوا، وصيروا من أهل العلم، وبينوا أين قال (يعني: الامام الخوئي)، ان المحورية الاولى للقرآن قبل السنة ؟ ".
واستجابة، لدعوة سماحته تلك، أعرض بعض الموارد التي ذكر فيها الامام الخوئي (قده) ذلك.
ولكن، قبل أن أعرض ذلك، أود أن اسجل استغرابي الشديد من نسبة القول بانحصار الحاجة الى القرآن في باب تعارض الروايات فقط، الى امي من المسلمين، حتى ولو كان اخباريا، فضلا عن نسبته الى فطاحل العلماء الاصوليين، فمحورية القرآن في المعارف الدينية، تعتبر من البديهيات عند الجميع، فحتى الاخباري، لا يشك في ذلك، بعد قيام الحجة ـ عنده ـ على مراد القرآن.
وقد كان الاجدر بسماحة السيد الحيدري، أيضا، ان يتعاطى مع محورية القرآن على هذا الاساس، ولا ينسب عدم محوريته الى أي كان، بل، حتى لو ورد في بعض كلام الاعلام، ما يوهم ذلك، لكان الاجدر به ان يجد له مخرجا مقبولا، لأنه لا يمكن ان يقع من أحد منهم، فهذا هو ديدن العلماء، إذ لا قيمة لشبهة في مقابل بديهية.
ولو تكرم سماحة السيد، بشيء من التتبع، لربما عثر على عشرات التصريحات من الامام الخوئي (قده)، بمحورية القرآن عنده، وبعدم إعتبار أي حديث خالف القرآن لديه، وإن كان حجة في نفسه، سواء عارضه حديث آخر أم لم يعارضه حديث، فمعارضته للكتاب، تجعله مطروحا، وتسقطه عن الاعتبار والحجية رأسا و جزما.
وعلى كل حال، فقد اخترت ان أذكر هنا بعض الموارد، من أربع كتب من كتب الامام الخوئي (قده)، وهي: مصباح الاصول، والبيان في تفسير القرآن، ومصباح الفقاهة، والتنقيح، فإليكموها تباعا:ـ
1 ـ موسوعة الامام الخوئي ج48 / مصباح الاصول ص516:" تنبيه : قد عرفت من مباحثنا السابقة أنّ الخبر الواحد إذا كان مخالفاً لظاهر الكتاب أو السنّة القطعية وكانت النسبة بينهما التباين ، يطرح الخبر ولو لم يعارضه خبر آخر بمقتضى الأخبار الكثيرة الدالة على عدم حجية الخبر المخالف للكتاب والسنّة وأنّه زخرف وباطل."
فما خالف الكتاب عند الامام (قده)، مطروح، بمعنى انه ساقط عن الحجية والاعتبار، فلا تصل النوبة الى معارضته لحديث آخر ثابت الحجية، لكي يصار الى الترجيح بينهما، بالعرض على الكتاب.
2 ـ مصباح الاصول484:" وأمّا إن كان أحدهما قطعي الصدور والآخر ظنياً ، كما إذا وقع التعارض بين ظاهر آية والخبر الواحد المظنون صدوره ، أو وقع التعارض بين خبر متواتر والخبر المظنون صدوره ، فلا بدّ من الأخذ بظاهر الآية أو ظاهر الخبر المقطوع صدوره ، وطرح خبر الواحد بمقتضى الأخبار الكثيرة الدالة على طرح الخبر المخالف للكتاب أو السنّة ، وليس ذلك من جهة ترجيح ظاهر الكتاب أو السنّة على الخبر الواحد المخالف لهما ، بل من جهة أنّ الخبر الواحد - المخالف لهما بنحو لا يمكن الجمع بينه وبينهما - لا يكون حجة بمقتضى قوله ( عليه السلام ) : « إنّه زخرف وباطل ، أو لم نقله ، أو فاضربوه على الجدار » إلى غير ذلك من العبارات الدالة على عدم حجية الخبر المذكور ، سواء جاء به عادل أم فاسق ، ولذا ذكرنا في بحث حجية الأخبار: أنّ من شرائط حجية الخبر الواحد عدم مخالفته للكتاب والسنّة.".
فلاحظ قوله (قده): بل من جهة ان الخبر الواحد .... لايكون حجة .....الخ.
وكذا لاحظ قوله: الى غير ذلك من العبارات الدالة على عدم حجية الخبر المذكور، سواء جاء به عادل أم فاسق....الخ.
3 ـ مصباح الاصول ص488: " أنّ الأخبار الآمرة بعرض الأخبار على الكتاب والسنّة على طائفتين :
الطائفة الأُولى : ما ذكره ( قدس سره ) من الأخبار الدالة على أنّ مخالف الكتاب زخرف أو باطل أو اضربوه على الجدار ، إلى غير ذلك من التعبيرات الدالة على عدم الحجية ، وأنّ حجية الأخبار مشروطة بعدم كونها مخالفة للكتاب والسنّة ، والمراد من المخالفة هي المخالفة بنحو لا يكون بينها وبين الكتاب والسنّة جمع عرفي ..."
4 ـ البيان في تفسير القرآن ص399: " نعم يعتبر في الخبر الموثوق به ، وفى غيره من الطرق المعتبرة أن يكون جامعا لشرائط الحجية ، ومنها أن لا يكون الخبر مقطوع الكذب ، فإن مقطوع الكذب لا يعقل أن يشمله دليل الحجية والتعبد ، وعلى ذلك فالاخبار التي تكون مخالفة للاجماع ، أو للسنة القطعية ، أو الكتاب ، أو الحكم العقلي الصحيح لا تكون حجة قطعا ، وإن استجمعت بقية الشرائط المعتبرة في الحجية . ولا فرق في ذلك بين الاخبار المتكفلة لبيان الحكم الشرعي ، وغيرها."
فقد اعتبر ان ما خالف القرآن مقطوع الكذب، فكيف يصلح لمعارضة حديث آخر، لتكون معارضته للقرآن مرجحة بينه وبين معارضه ؟!
فلاحظ قوله (قده): " ولا فرق في ذلك بين الاخبار المتكفلة، لبيان الحكم الشرعي وغيرها."، فهو يدل على ان هذا الحكم يمتد الى كل دوائر وحقول المعارف الدينية، ولم يقتصر على "الحلال والحرام"، كما يحلو لسماحة السيد ان يعبر.
5 ـ وفي ص252 من البيان أيضا، اعتبر الامام (قده) ان تعارض أحاديث الجمع مع الكتاب، دليل على كذب الروايات الواردة في طرق جمع القرآن.
فرجوعه (قده) الى القرآن الكريم، كان رجوعا أصيلا، ولم يكن لعلاج تعارض، كما انه لم يكن بصدد استنباط حكم شرعي.
6 ـ مصباح الفقاهة ج5ص85: " ... فإنا ذكرنا في مورده أن الدليلين إذا تعارضا بالعموم من وجه وتكافئا فتقدم منهما ما يكون موافقا للكتاب ، لقوله ( عليه السلام ) في مقام المعارضة : خذ ما وافق الكتاب. ومن الواضح أن أدلة حرمة الربا موافقة للكتاب ، لقوله تعالى : أحل الله البيع وحرم الربا، بل لا يكون حينئذ الطرف الآخر حجة حتى نحتاج إلى الترجيح ونقول بأن الموافق للكتاب قد رجحناه على الآخر..."
فلاحظ قوله (قده): بل، لا يكون ـ حينئذ ـ الطرف الآخر حجة ...
7 ـ موسوعة الامام الخوئي ج1 / التنقيح : " يتوقف الاجتهاد على معرفة اللغة العربية ، لوضوح أن جملة من الأحكام الشرعية وإن لم يتوقف معرفتها على معرفة اللَّغة كوجوب مقدمة الواجب وغيره من موارد الأحكام العقلية الاستلزامية ، إلَّا أنه لا شبهة في أن أكثر الأحكام يستفاد من الكتاب والسنة وهما عربيان ، فلا مناص من معرفة اللَّغة العربية في استنباطها منهما حتى إذا كان المستنبط عربي اللَّسان،.....ثمّ إن بهذا الملاك الَّذي أحوجنا إلى معرفة اللَّغة العربية نحتاج إلى معرفة قواعدها لأنها أيضاً مما يتوقف عليه الاجتهاد .... والعمدة فيما يتوقف عليه الاجتهاد بعد معرفة اللَّغة العربية وقواعدها علمان : أحدهما : علم الأُصول .... وثانيهما : علم الرجال....".
ثم انني، لا استيطيع أن افهم، كيف ان سماحة السيد الحيدري قد توصل الى استنتاجه المزبور، وهو يجد أن الامام الخوئي (قده)، يرى حجية حديث: ما حالف كتاب الله فهو مطروح أو زخرف، وهو حديث مطلق والعبرة باطلاقه، وليس في مورد الاستدلال به.
هذا كله بالنسبة لما نسبه سماحة السيد الحيدري، الى الامام الخوئي (قده)، من القول بعدم محورية القرآن.
وأما بالنسبة لما نسبه اليه من انه لا يشترط في المجتهد ان يكون مفسرا، فهو ليس دقيقا أيضا، وذلك:
أولا: لان كلام الامام هذا جاء في سياق التعريف بمبادئ الاجتهاد الاصطلاحي، وهو القدرة على استنباط الاحكام الشرعية، فلا ينتظر منه ان يتطرق الى مبادئ استنباط المعارف الدينية، سواء كانت من الاحكام الشرعية أم لم تكن.
وثانا: لان الامام (قده)، قال في بداية موضوع "مبادئ الاجتهاد"، من كتاب التنقيح: " يتوقف الاجتهاد على معرفة اللغة العربية، لوضوح أن جملة من الأحكام الشرعية وإن لم يتوقف معرفتها على معرفة اللَّغة كوجوب مقدمة الواجب وغيره من موارد الأحكام العقلية الاستلزامية ، إلَّا أنه لا شبهة في أن أكثر الأحكام يستفاد من الكتاب والسنة وهما عربيان "
وكان يفترض، بسماحة السيد الحيدري، قد لا حظ هذا المقطع، وهو يقرأ من نفس الصفحة، قبل ان يقفز الى قوله (قده): "... أحدهما : علم الأُصول ..... وثانيهما : علم الرجال..."
لينتهي الى قوله (قده):" وأما غير ما ذكرناه من العلوم فهو فضل لا توقف للاجتهاد عليه ".
ثم ليستنتج ـ متسرعا ـ ان الامام (قده) لا يشترط ان يكون المجتهد مفسرا، ويرى عدم محورية القرآن في استنباط المعارف الدينية، ولذلك فانه لم يعد علم التفسير من بين مبادئ الاجتهاد.
ولا أدري لماذا لم يلحظ سماحة السيد الحيدري، المقطع الذي نقلته أعلاه، ولم يلحظ أيضا قول الامام:" "والعمدة فيما يتوقف عليه الاجتهاد بعد معرفة اللَّغة العربية وقواعدها علمان."، على الرغم من انه كان فوق السطر الذي قرأه.
فأين كان سماحة السيد من جملة:" بعد معرفة اللغة العربية".
وهل يحتاج المفسر الى غير هذا، يا سماحة السيد، من العلوم اللازمة للتفسير، إضافة الى الاحكام العقلية التي أشار الامام (قده) الى الحاجة اليها أيضا؟
ولا أظن ان سماحة السيد، يرى ان مثل علم الناسخ والمنسوخ، أو علم أسباب النزول، أو علم المكي والمدني، أو معرفة العام والخاص و المطلق والمقيد، أو غيرها من الامور، ضرورية للمفسر، أو ان المجتهد، بالمعنى الاصطلاحي المعهود، غير قادر على التعاطي معها.
وبهذا يتضح بان سماحة السيد الحيدري، لم يوفق في ما نسبه الى الامام الخوئي (قده)، من عدم قوله بمحورية القرآن الكريم، سواء في عملية الاجتهاد، أو مطلقا.