مع سماحة السيد كمال الحيدري في مشروعه ـ" من اسلام الحديث الى اسلام القرآن "ـ الحلقة الحادية عشرة
عدنان عبد الله عدنان
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
إضاءة:
[ملاحظة: تتكرر هذه "الإضاءة" في كل الحلقات، من أجل إيضاح خلفية كتابة هذه الحلقات]
في شهر رمضان المبارك لسنة 1434هـ (2013م)، أطل سماحة السيد كمال الحيدري، عبر شاشة قناة الكوثر الفضائية، في لقاءات عديدة، متحدثا عن مشروع قال عنه بانه يهدف الى تصحيح عقائد الشيعة، (أو: قراءة اخرى لها)، وقد تناول ذلك تحت عنوان: " من إسلام الحديث الى اسلام القرآن"، ولابد لي من البيان أولا، بان سماحة السيد، قد عنى بـ"الاسلام"، و "القرآن"، معناهما الاصطلاحي المعهود والمعروف لدى كافة المسلمين، وأما لفظ "الحديث"، فلم يعن به خصوص ما نقل الينا من قول المعصوم فحسب، بل عنى به ما يرادف السنة، ليشمل به كل ما نقل الينا من قول المعصوم وفعله وتقريره، وهو خلاف الاصطلاح، ولكن الامر هين، خصوصا مع احتمال ان سماحته اراد ان يحاكي جورج طرابيشي في عنوان كتابه..
ولا بد لي أيضا من التأكيد، على ان سماحته لم يقصد من مفردة السنة (أو: الحديث)؛ السنة الواقعية، وانما يقصد السنة المنقولة الينا عبر الرواة، والتي قد يعبر عنها بـ"السنة المحكية" أيضا.
وسوف احاول ان اناقش ـ بايجاز ـ بعض ما ذكره سماحته في هذه الحلقات.
ملخص الحلقة الحادية عشرة
حاول سماحة السيد في هذه الحلقة، ان يثبت بانّ الموروث الروائي السني قد تسرب الى الموروث الروائي الشيعي، بشكل أو بآخر، فجاء بروايات من الكافي وغيره، وردت بشأن بعض أفعال رسول الله (ص)، تتفق في المضمون مع روايات وردت في البخاري و غيره.
وفي بداية الحلقة، أشار سماحته الى انّ هناك روايات وردت في مصادرنا الحديثية، تتحدث عن ان الموروث الروائي الشيعي قد اصيب بآفات، منذ أواسط القرن الثاني، أي منذ زمن الإمام الصادق (ع)، وقال سماحته بان أعداء أهل البيت كانوا يتعمدون الكذب على الأئمة عليهم السلام، من أجل تشويه مدرسة أهل البيت عليهم السلام، وذكر بعض ما جاء من تأكيدات من قبل الإمام الصادق والإمام الرضا (ع)، في هذا المجال، لتحذير الشيعة من الوقوع في ذلك الفخ.
وتطبيقا لما تسرب من الموروث الروائي السني الى الموروث الروائي الشيعي، ولما ورد في الرواية المنقولة عن الامام الرضا (ع)، بخصوص التقصير في أمرهم (ع)، توقّف سماحته عند كتاب الكافي، لينقل بعض ما ورد فيه مما يُنقِصُ من شأن الرسول (ص).
وقبل ان يقرأ تلك الروايات، تطرق الى أهمية الكتاب ومنزلة مؤلفه المرموقة، وقال انّ الإخباريين يتعاملون معه على انه صحيح، بعد أنْ قاموا باقصاء القرآن عن استنباط المعارف الدينية، وأغلقوا باب القرآن الكريم، ناقلا بعض كلام المولى محمد أمين الاسترابادي، في الفوائد المدنية، في هذا المجال، وقال لذا فانهم اضظروا الى القول بانّ روايات الكتب الأربعة (أو: بعضها) قطعية الصدور، ومن هنا بدأت الحكايات والقصص بشأنها، لإضفاء القدسية عليها، فجاءت قصة انّ كتاب الكافي قد عُرض على الإمام الحجة (عجّل الله تعالى فرجه الشريف)، فقال: "الكافي كافٍ لشيعتنا"، وهو مما لا أصل له، ولكن الصحيح هو ان كتاب الكافي كتاب حديثي، لا يختلف عن أي كتاب آخر، ولا توجد بإزائه أي خطوط حمراء.
ثم، قرأ سماحته رواية من فروع الكافي، ذكرتْ بان الرسول (ص)، صلى بالناس الظهر ركعتين ثم سها فسلم.
وقرأ رواية اخرى من الوسائل، ذكرتْ بان الرسول (ص)، قد نام عن صلاة الصبح.
وهذا هو رابط الحلقة الحادية عشرة من حديث سماحة السيد الحيدري
http://www.youtube.com/watch?v=TfDbLJeNkm0
ولا كلام لنا مع سماحته في أصل وجود بعض الآفات في الموروث الروائي الشيعي، وقد كررنا ذلك أكثر من مرة، خلال الحلقات الماضية، ولا كلام لنا معه أيضا في ضرورة الحذر من ذلك، وتنقية الموروث منها، ولكن الكلام معه في بعض التفاصيل، وفي ما يظهره من مبالغات بهذا الشأن، وفي المعايير التي يجب اتباعها للتخلص من تأثيراتها، وفي ما يوحيه الى المتلقي من انّ سماحته هو فارس هذا الميدان، الذي لم يسبقه الى مثله سابق، ولم يلحق بغبار فرسه لا حق.
ولذا سوف نتناول، من حديثه هنا، ما يرتبط بنقاط الخلاف هذه فقط، من خلال المحاور التالية:
الاول: حول الميزان الذي اعتمده سماحته في اعتبار الروايات التي أوردها في هذه الحلقة.
الثاني: حول قول الاخباريين بقطعية صدور ما في الكتب الاربعة أو بعضها.
الثالث: حول الروايات التي ذكرها كأمثلة لما تسرب الى الموروث الشيعي.
الرابع: حول بعض استطراداته.
وسنتناول هذه المحاور تباعا.
أولا: حول ميزان اعتبار سماحته للروايات التي استند اليها:
ففي هذا المحور، نقل سماحته عددا من الروايات التي اعتمد عليها، لإثبات انّ الموروث الروائي الشيعي فيه الكثير من الكذب والتزوير والتدليس وغيرها، ومن تلك الروايات:
1 ـ رُويَ عن الإمام الرضا (ع)، انه قال: ((رحم الله عبداً أحيا أمرنا. [قال الراوي:] فقلت له: وكيف يحي أمركم؟ قال: يتعلم علومنا ويعلمها الناس فإنّ الناس لو علموا محاسن كلامنا لاتبعونا))
2 ـ رُويَ عن الإمام الرضا (ع)، انه قال: ((يا ابن أبي محمود إن مخالفينا وضعوا أخباراً في فضائلنا، وجعلوها على ثلاثة أقسام، أحدها: الغلو، وثانيها: التقصير في أمرنا، والثالثة: التصريح بمثالب أعدائنا، فاذا سمع الناس الغلو فينا كفروا شيعتنا ونسبوهم الى القول بربوبيتنا، واذا سمعوا التقصير اعتقدوه فينا، واذا سمعوا مثالب اعدائنا باسمائهم، ثلبونا بأسمائنا، وقد قال الله عز وجل:{ولا تسبوا الذين يدعون من دون الله فيسبوا الله عدواً بغير علم}.)).
3 ـ رُويَ عن الامام الصادق (ع)، انه قال: ((كان المغيرة بن سعيد يتعمد الكذب على أبي ويأخذ كتب أصحابه وكان أصحابه المستترون بأصحاب أبي يأخذون الكتب من أصحاب أبي فيدفعونها الى المغيرة، فكان يدس فيها الكفر والزندقة ويسندها إلى أبي ثم يدفعها إلى أصحابه فيأمرهم أن يبثوها في الشيعة)).
4 ـ رَوى الكشي عن اليقطيني عن أبي محمد يونس بن عبد الرحمن، انه قال: إن بعض أصحابنا سأله وأنا حاضرٌ، فقال له: يا أبا محمد ما أشدك في الحديث وأكثر إنكارك لما يرويه أصحابنا، فما الذي يحملك على رد الأحاديث، فقال: حدثني هشام بن الحكم أنه سمع أبا عبد الله الصادق يقول: لا تقبلوا علينا حديثاً إلا ما وافق القرآن والسنة أو تجدون شاهداً من أحاديثنا المتقدمة فإنّ المغيرة بن سعيد لعنه الله دس في كتب أصحاب أبي أحاديث لم يحدث بها أبي، فاتقوا الله ولا تقبلوا علينا ما خالف قول ربنا تعالى وسنة نبينا، فإنا إذا حدثنا قلنا: قال الله عز وجل وقال رسول الله "ص".)).
5 ـ جاء في أخيار معرفة الرجال، المعروف برجال الكشي، للشيخ الطوسي ص582 رقم الفقرة 1105 ((قال أبو محمد الفضل بن شاذان: سأل أبي (رض)، محمد بن أبي عمير، فقال له: إنك قد لقيت مشايخ العامة فكيف لم تسمع منهم، فقال: قد سمعت منهم غير إني رأيت كثيراً من أصحابنا قد سمعوا علم العامة، وعلم الخاصة، فاختلط عليهم حتى كانوا يروون حديث العامة عن الخاصة وحديث الخاصة عن العامة، فكرهت أن يختلط عليّ، فتركت ذلك وأقبلت على هذا.)).
ومما علق به سماحته على هذه الروايات: ان أعداء المذهب حاولوا أنْ يشوّهوا محاسن كلام الأئمة (ع)، بمساوئ الكلام، فالتصريح بمثالب أعدائهم باسمائهم، ليس من محاسن كلامهم إذن، ومن يفعل ذلك فانه يدخل في دائرة أعداء أهل البيت (ع) ومخالفيهم.
المناقشة:
كان على سماحة السيد أنْ لا يتسرع في القول: انّ الذين يصرحّون بمثالب أعداء أهل البيت (ع) بأسمائهم، "يدخلون في دائرة أعداء أهل البيت (ع)"، فهو ـ على اطلاقه ـ مشكل، بل ممنوع، فهناك ما رُوي عن أهل بيت العصمة والنبوة، يصرح ببعض أسماء أعدائهم، ومثالبهم، ومنها بعض الزيارات المعروفة والمشهورة.
وبعد تجاوزنا لهذه الملاحظة السريعة، نريد أنْ نتساءل عن المعيار الذي اعتمده سماحة السيد في اعتبار الروايات التي أوردها هنا، والتي تتحدث عما كان يفعله أعداء أهل البيت (ع)، من دس في أحايثهم (ع)، وتزوير لأقوالهم (ع).
فمن المعلوم ان سائر العلماء، يُقرّون بمضمون هذه الروايات بناءاً على المنهج السندي المعتمد لديهم، ويعترفون ـ كما ذكرنا مرارا ـ بوجود الكذب والدس وغيرهما في الموروث الروائي، وقد كنا نقول بانه لا خلاف بين سائر العلماء وبين سماحة السيد في أصل هذه النقطة، وأما الآن، (وحيث انه حاول إثبات ذلك هنا)، فنريد ان نقول بانّ سماحة السيد بحاجة الى اثبات هذه الدعوى وفق منهجه المقترح، مادام لا يرى للحُجيّة من نفع، ولا يرى للسند من قيمة، كما كرّر ذلك في أكثر من موضع من حلقات حديثه هذه، ولذا فقد كان عليه ان يثبت انّ الموروث الروائي الشيعي فيه دس وكذب وتزوير وغيرها، قبل ان يتجه الى تنقيته، كما يقول.
وإذا كان إثبات ذلك يتوقف على قبول هذه الروايات، وكان منهج سماحته في قبول الروايات، يدور مدار الصدور، فلا يحق لسماحته ان "يستنبط" أي شيء من هذه الروايات، بناءاً على "حجيتها" وصحة سندها، وعليه أن يُثبت صدورها، من خلال منهجه المقترح، قبل أنْ يبني عليها أي رأي أو استنتاج، وبما انه لم يفعل ذلك، فان اعتماده عليها، وما وصل اليه من نتائج، (ومنها وجود المدسوس وغيره في الموروث)، لا يكون علميا ولا صحيحا، على منهجه، بل هو مصادرة.
وربما يقول قائل، بان سماحته أراد ان يُلزم الآخرين بما ألزموا به انفسهم، فاحتجّ عليهم بما هو صحيح عندهم، وبما يوافق منهجهم. غير انّ هذا القول ليس صحيحاً، وذلك أوّلاً: لأنهم لا ينكرون وجود الدس والكذب والتزوير وغيرها في الموروث الروائي الشيعي، لكي يحتاج سماحته الى الاحتجاج عليهم بذلك وإثباته وفق منهجهم. وثانياً: لأنّ سماحته بصدد ردّ منهجٍ معينٍ وإبطاله، وتأصيل منهج آخر والدعوة إليه، كما يقول، ولذا فهو مطالب بإثبات ما يريد طرحه من آراء أو مواقف من خلال منهجه هو، ولا يصح له ان يكتفي بإثبات ما يريد اثباته من ركائز منهجه هو، إعتمادا على منهج الآخرين الباطل حسب زعمه.
ثانيا: حول قول الاخباريين بقطعيّة صدور ما في الكتب الاربعة.
وفي اطار حديثه عن هذه النقطة، أشار سماحته الى انّ قول الاخباريين بقطعية الصدور مبنيّ على اقصائهم للقرآن الكريم، عن عملية الاستنباط، ونقل من كلام الاسترابادي في الفوائد المدنية ص 59، بشأن "إقصاء القرآن"، قوله: (( من المعلوم أنّ حال الكتاب والحديث النبويّ لا يُعلم إلاّ من جهتهم عليهم السلام، فتعيّن الانحصار في أحاديثهم عليهم السلام. )).
ونقل من كلامه أيضا في ص 104، قوله: (( أنّ القرآن في الأكثر ورد على وجه التعمية بالنسبة إلى أذهان الرعية، وكذلك كثير من السنن النبوية صلى الله عليه وآله. وأنّه لا سبيل لنا فيما لا نعلمه من الأحكام الشرعية النظرية أصلية كانت أو فرعية إلاّ السماع من الصادقين عليهم السلام.)).
وقال سماحته: فمع اقصائهم للقرآن الكريم، عن استنباط المعارف الدينية، سيكون اعتمادهم على الروايات فقط، فاذا كانت الروايات مجرد أخبار آحاد، ولم تكن قطعية الصدور، فانّ ما يستنبط منها سيكون ظنياً، وهذا يعني بانّ الدين سيكون مبنياً على الظن، و لما كان الظنّ لا يغني من الحق شيئاً، فانهم حاولوا أن يلتفّوا على مسألة الظنون، فادّعوا قطعية الكتب الأربعة، أو بعضها.
وعن مدى اعتبار كتاب الكافي، لدى الاخباريين، قال سماحته: على مبنى الكليني رواياته صحيحة، وعلى مبنى المجلسي يجب العمل بها، وعلى مبنى الاسترآبادي هي قطعية الصدور.
المناقشة:
لابد من الاشارة اوّلاً الى ان القول بصحة روايات الكافي أو اعتبارها أو قطعية صدورها، لا يستلزم العمل بها .. كيف ؟!! وانّ منها ما صدر تقية!!.
كما وان المجلسي، لم يقل بوجوب العمل بروايات الكافي، وانما قال بجواز ذلك مع ضرورة ملاحظة السند، والفرق كبير بين الجواز والوجوب، وهذه هي عبارته: ((وخلاصة القول في ذلك، والحق عندي فيه: أن وجود الخبر في أمثال تلك الأصول المعتبرة مما يورث جواز العمل به، لكن لابد من الرجوع إلى الأسانيد لترجيح بعضها على بعض عند التعارض، فان كون جميعها معتبرا لا ينافي كون بعضها أقوى..))
ولكنّ سماحة السيد، كعادته في مثل هذه الموارد، لم ينقل جميع كلام المجلسي هذا، فبتره، ليَحُول دون اتضاح كلام المجلسي في ثلاثة امور مهمة، وهي:
أ ـ ان العمل بتلك الرويات جائز وليس واجبا، كما ادعى سماحته.
ب ـ ضرورة الرجوع الى الاسانيد للترجيح بين الروايات، ما يعني عدم العمل ببعض تلك الروايات على الرغم من اعتبارها.
جـ ـ انّ القول باعتبارها كلها لا يستلزم جواز العمل بها كلها.
وهذا هو نص ما نقله سماحته من كلام المجلسي، مع تعليقات سماحته عليه: (( وخلاصة القول في ذلك، والحق عندي فيه أنّ وجود الخبر في أمثال تلك الأصول المعتبرة [يعني مثل كتاب الكافي مثل كتاب الاستبصار مثل كتاب الفقيه مثل كتاب التهذيب مثل كتاب عيون أخبار الرضا مثل كتاب… وهكذا كتب الصدوق… والى آخره] مما يورث جواز العمل به [إذا ورد في الرواية لاشك يجب علي أن اعمل تقول قطعية أقول لا، لا، ماكو قطعية ولكن يجب العمل بها] لكن لابد من الرجوع [إلى آخره.])).
فعندما وصل سماحته الى عبارة (( ولكن لابدّ من الرجوع الى الاسانيد، لترجيح بعضها على بعض عند التعارض...))، بترها، فقال: " ولكن لابد من الرجوع ...الى آخره"، ولو قرأها لتعارضتْ مع ما قاله من ان المجلسي يقول بوجوب العمل بكتاب الكافي، فأحجم عن قرائتها !!
ثم انّ لنا مع سماحة السيد هنا، وقفتين:
الوقفة الاولى: انّ اصرار سماحته على القول بان الاخباريين قد قاموا باقصاء القرآن تماما، ليس دقيقاً، لأنّ منهم مَن ذهب بعيدا في قدرته على فهم القرآن الكريم، حتى حاول ان يشارك المعصومين (ع) في تأويل مشكلاته وحل معضلاته، على حد تعبير المحدث البحراني في الحدائق الناضرة - ج 1 - ص 27، حيث قال: ((المقدمة الثالثة: في مدارك الأحكام الشرعية، وهي عند الأصوليين أربعة: (الكتاب والسنة والاجماع ودليل العقل) وحيث تقدم مجمل الكلام في السنة، يبقى الكلام هنا في مقامات ثلاثة: (المقام الأول)- في الكتاب العزيز: ولا خلاف بين أصحابنا الأصوليين في العمل به في الأحكام الشرعية والاعتماد عليه حتى صنف جملة منهم كتبا في الآيات المتعلقة بالأحكام الفقهية وهي خمسمائة آية عندهم. وأما الأخباريون فالذي وفقنا عليه من كلام متأخريهم ما بين افراط وتفريط، فمنهم من منع فهم شيء منه [يعني: القرآن] مطلقا حتى مثل قوله: "قل هو الله أحد" إلا بتفسير من أصحاب العصمة (صلوات الله عليهم) ومنهم ممن جوز ذلك حتى كاد يدعي المشاركة لأهل البيت (عليهم السلام) في تأويل مشكلاته وحل مبهماته.)).
ومن المعلوم، ان اولئك الاخباريين الذين يذهبون بعيدا في فهمهم للقرآن، لا يمكن أن يُدرجوا في فئة مَنْ يُقصي القرآن عن عملية الاستنباط.
وأما القسم الآخر منهم، فانهم يرجعون الى ما يُروى عن أئمة الهدى (ع)، في بيان مراد القرآن، وبعد أن يتضح المراد عندهم، فانهم لا يترددون في العمل به أبدا، ومثل هذا النهج أيضا، وإن قلنا بخطئه، لا يمكن أنْ يسمى إقصاءاً مطلقاً أو تامّاً للقرآن الكريم، إذ يمكن تشبيه رجوعهم الى كتب الحديث لفهم مراد القرآن الكريم، برجوع سائر العلماء الى كتب اللغة لفهم مراده، فكما ان الرجوع الى كتب اللغة في الفهم لا يمكن ان يوصف بانّه إقصاء للقرآن، فان الرجوع الى كتب الحديث في الفهم أيضا، لا يمكن ان يوصف بانه إقصاء للقرآن، وإذا كان سماحة السيد يعتبر فعل هذا الصنف من الاخباريين اقصاءاً تاما للقرآن، فان رجوع سماحته الى القرآن في قبول ما يقبله سماحته من السنة المنقولة، سيكون اقصاءاً تاماً لكل السنة المنقولة أيضا، ومن الواضح انّ إقصاء السنة المنقولة كلها يعني اقصاءَ السنةِ الواقعية كذلك، وإذا كان قبولهم لفهمٍ معينٍ من القرآن لا يشفع لهم عند سماحته، ولا يرفع عنهم تهمة اقصاء القرآن، فان قبوله لبعض السنة المنقولة لا يشفع له عند الآخرين، ولا يدفع عنه إشكال إقصاء السنة الواقعية كذلك.
الوقفة الثانية: ان تفسيره لموقف الاخباريين من كتاب الكافي وبعض الكتب الاخرى، ليس صحيحا، فسماحة السيد يقول، انهم اضطروا الى القول بقطعية صدور روايات تلك الكتب، "والتَفّوا على مشكلة الظن"، لئلا يكون الدين مبنيا على أخبار آحاد، فيكون ظنياً.
وتفسير سماحته هذا غريب، من جهتين:
الجهة الاولى: كيف رضي سماحته أن يعبّر عن رأيهم هذا بانه "التفاف"؟ فهل انهم في سوق نخاسة أو مزاد سياسة؟
وكيف أقنع نفسه بهذا التفسير العجيب، وأغفل كل ما يذكره الاخباريون من قرائن وأدلة على قولهم بقطعية الصدور؟ فهل هي أزمة ثقة، أم سوء ظن؟!
فمن حق سماحته ان يناقش أدلتهم، ويردها، ولكنْ ليس من حقه ان يستريح لمثل هذا التفسير البارد، ليجعل من قولهم بقطعية الصدور وكأنّه حل ترقيعي لمشكلةِ "ظنية الدين"، والتفافٌ عليها.
الجهة الثانية: هل ان سماحة السيد يرى انّ الظن بقضايا "الدين"، في غير باب العقائد، ليس مقبولا، ولابد من اليقين في كل ما يرتبط بالشريعة؟
وهل انه يرى، انّ القول بقطعية الصدور، سوف يعالج مشكلة الظن بالدلالة أيضا، فافترضَ انّ الاخباريين التجأوا اليه كعلاج للمشكل؟
لا أظن ان سماحته سوف يجازف بالجواب بـ "نعم"، فها هو القرآن قطعي الصدور، ولكنْ ما هي نسبة الدلالة القطعية في آياته؟
وكنا قد نقلنا، في الحلقة التاسعة، كلام السيد الطباطبائي (قده)، بشأن اختلاف المفسرين في تفسير الآية 102 من سورة البقرة، حيث ذكر بانها تحتمل ما يقرب من مليون ومائتين وستين ألف احتمال، وإذا كان الامر كذلك فبأيّ من هذه الاحتمالات يمكن أنْ يتحقق القطع؟
وعندما تكون الدلالة ظنية، فانّ كل ما يستنبط منها من أحكام شرعية أو آراء دينية، ستكون ظنيةً أيضا، حتى مع كون الصدور قطعياً.
نعم، لا بد وان يكون ذلك الظن محكوماً بضوابط علمية محددة، ليكون معتبراً، مع كونه ظناً.
واذا كان الدين مبنيا، في الأعم الأغلب، على الظن (المعتبر)، ولا مفر من ذلك أبدا، على مستوى الدلالة على الأقل، فلماذا يفترض سماحته بان الاخباريين قد قالوا بقطعية صدور روايات الكافي و غيره، فراراً من الظن، والحال انهم لا يحتاجون الى مثل ذلك القول أساسا، لعدم وجود أي مشكلة في الظن (المعتبر)، لكي يفكروا في ايجاد حل أو علاج لها؟
ثالثاً: حول الروايات التي ذكرها سماحته كأمثلة لما تسرب الى الموروث الشيعي
وفي هذا المجال، نقل سماحته بعض الروايات، وهي:
1 ـ الكافي ج3 ص 355: ((قال أبو عبد الله ( عليه السلام ) : من حفظ سهوه فأتمه فليس عليه سجدتا السهو فإن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) صلى بالناس الظهر ركعتين ثم سها فسلم فقال له ذو الشمالين : يا رسول الله أنزل في الصلاة شئ ؟ فقال : وما ذاك ، قال : إنما صليت ركعتين ، فقال رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) : أتقولون مثل قوله ؟ قالوا : نعم ، فقام ( صلى الله عليه وآله ) فأتم بهم الصلاة وسجد بهم سجدتي السهو ...)).
2 ـ الكافي ج3 ص 356: ((عن الحسن بن صدقة قال: قلت لأبي الحسن الأول (عليه السلام): أسَلّمَ رسولُ الله (صلى الله عليه وآله) في الركعتين الأولتين؟ فقال: نعم، قلت: وحاله حاله؟ قال : إنما أراد الله عز وجل أن يفقههم.)).
3 ـ الكافي ج3 ص357: ((عن سعيد الأعرج قال : سمعت أبا عبد الله ( عليه السلام ) يقول : صلى رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ثم سلم في ركعتين فسأله من خلفه يا رسول الله أحدث في الصلاة شئ ؟ قال : وما ذلك ؟ قالوا : إنما صليت ركعتين ، فقال : أكذلك يا ذا اليدين ؟ وكان يدعى ذا الشمالين فقال : نعم ، فبنى على صلاته فأتم الصلاة أربعا . وقال : إن الله هو الذي أنساه رحمة للأمة...))
4 ـ في وسائل الشيعة ـ تحقيق مؤسسة آل البيت ـ المجلد الرابع رقم الرواية 5175، قال: "روى الشهيد في الذكرى بسنده الصحيح عن زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: قال رسول الله (صلى الله عليه وآله): إذا دخل وقت صلاة مكتوبة فلا صلاة نافلة حتى يبدأ بالمكتوبة، قال: فقدمت الكوفة، فأخبرت الحكم بن عتيبة وأصحابه فقبلوا ذلك مني، فلما كان في القابل لقيت أبا جعفر ( عليه السلام ) فحدثني أن رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) عرس [أي: نزل آخر الليل للنوم والاستراحة] في بعض أسفاره وقال: من يكلؤنا [أي: يحفظنا]؟ فقال بلال: أنا، فنام بلال وناموا حتى طلعت الشمس، فقال: يا بلال ما أرقدك؟ فقال: يا رسول الله أخذ بنفسي الذي أخذ بأنفاسكم، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله): قوموا فتحولوا عن مكانكم الذي أصابكم فيه الغفلة، وقال: يا بلال أذّنْ، فأذّنَ، فصلى رسول الله (صلى الله عليه وآله) ركعتي الفجر ...))
وتعليقا على الرواية الثانية قال سماحته: وهي نفس رواية ابي هريرة.
المناقشة:
ولنا هنا عدة ملاحظات:
1 ـ ليس هناك من دليل معتبر، على ان هذه الروايات قد تسربت من الموروث الروائي السني، حتى وانْ اتفقت معها في المضمون، خصوصا، عندما نرى الشيخ محمد تقي التستري، يقول: ((لم يختلف في جواز سهو النبي (ص)، قبل الشيخ المفيد، أحدٌ من الإمامية !!)).
وحيث ان سماحة السيد يطالب بادلة قطعية في مسألة رؤية السفراء للامام الحجة (ع)، فضلا عن رؤية غيرهم له (ع)، هل يستطيع ان يقدم لنا أدلة قطعية تدل على تسرب هذه الروايات من الموروث السني الى الموروث الشيعي، وهو لمثل هذه الادلة أحوج لترتب آثار عملية أو عقائدية عليها، دون مسألة الرؤية.
2 ـ كيف يستطيع سماحته أن يوفّق بين قوله هنا بان الموروث السني قد اخترق الموروث الشيعي، وبين منهجه القائل انّ اتفاق مضمونٍ موجودٍ في الموروث الروائي السني، مع مضمونٍ موجودٍ في التراث الروائي الشيعي، يشكل قرينة أساسية على صحة صدور ذلك المضمون الموجود في الموروث الشيعي، من قبل المعصوم (ع)؟
ولذا، فاننا نتساءل: لماذا لا يكون اتحاد المضمون بين ما موجود في الموروث السني والموروث الشيعي في ما نقله سماحته من روايات هنا، دليلا على الصدور عند سماحته ؟؟؟!! فهذا بمذهبه أوفق، وبمنهجه ألصق.
3 ـ من المعلوم انّ الدليل على عصمة الأنبياء ـ أساساً ـ عقليٌّ، وليس نقلياً، وإلاّ لزم الدور أو المصادرة، ولذا فانّ المشكلة في قبول هذه الروايات وأمثالها لا تكمن في صحة سند الرواية، وانما تكمن في شمول أو عدم شمول الدليل العقلي على عصمتهم، لمثل هذه الحالات، فمن قال بان مثل هذه الحالات تتعارض مع العصمة المطلوبة في النبي، ردّ هذه الروايات ورفضها حتى لو كانت في أعلى درجات القبول والاعتبار عنده، ومن قال بانها لا تتعارض قبِل بها وبأمثالها من الروايات.
ولذا نرى بان الشيخ المفيد قد ردّ الرواية المرتبطة بسهو النبي (ص)، ردا عنيفا، ولكنه قبِل الرواية المرتبطة بنوم النبي (ص) عن الصلاة، ولو انه كان يرى ان النوم عن الصلاة يتعارض مع عصمة النبي (ص)، لردها كما ردّ رواية السهو، دون ان يمنعه صحة سندها عن ذلك.
وفي اطار مناقشته للخبر الذي تحدث عن نوم الرسول (ص) عن صلاة الصبح، قال في الجواهر، ج13 ص72 :(( والمناقشة فيها [أي: في أخبار نوم النبي (ص) عن الصلاة]، بأن الواجب طرحها لمنافاتها العصمة، كالأخبار المتضمنة للسهو منه (ص)، أو من أحد الأئمة (عليهم السلام)، يدفعها [أي: يدفع هذه المناقشة]، ظهور الفرق عند الأصحاب بينه وبين السهو، ولذا ردّوا أخبار الثاني ولم يعمل بها أحد منهم عدا ما يحكى عن الصدوق وشيخه ابن الوليد والكليني وأبي علي الطبرسي...)).
فصاحب الجواهر ـ إذن ـ يقول بان من يناقش في خبر نوم النبي (ص) عن صلاة الصبح، ويطرحه، فانه إنما يفعل ذلك لكونه ينافي العصمة.
وجاء في كل من "البحار" و"الذكرى"، ان رد خبر نوم الرسول (ص) عن صلاة الصبح، من قبل بعض الاعلام، كان بسبب ظنهم بانه ينافي العصمة، ويقدح بها.
إذ نرى بان رد هذه الاخبار، كان مبنيا عندهم على منافاتها للعصمة، الثابتة عقلا، وليس بسبب تعارضها مع أخبار اُخر، وترجيحها عليها.
فالمسألة هنا شبيهة بمسألة صفات الله تعالى الخبرية، المعروفة في علم الكلام، إذ انّ العلماء حملوها على المعاني التي لا تتنافى مع الذات الإلهية المقدسة، لقيام الدليل العقلي عندهم على استحالة حملها على الظاهر، وأما المجسمة فلم يرَوا منافاتها للعقل، ولو رأوا ذلك لما استسلموا لظاهر الآيات بحجة انها متواترة أو قطعية.
فالمسألة في تلك الموارد التي ذكرها سماحة السيد، ليست مسألة سند، ليقول سماحته ان "المنهج السندي" هو الذي سمح لمثل هذه الروايات بالتسرب الى الموروث الشيعي، وانما هي مسألة نهوض أو عدم نهوض الدليل العقلي على عصمة النبي (ص) وحدودها، بما يشمل أو لا يشمل مثل هذه الحالات.
وقد كان الإمام الخوئي واضحا في هذا، حين قال بخصوص الروايات التي تتحدث عن سهو النبي (ص): ((أنّ هذه الروايات في أنفسها غير قابلة للتصديق وإن صحّت أسانيدها، لمخالفتها لأُصول المذهب)) / مستند العروة الوثقى / كتاب الصلاة / ج3 ص 329.
ومن غرائب سماحة السيد التي اعتدنا عليها منه، ذكر ـ هنا ـ بان الامام الخوئي يقول بصحة رواية "سعيد الأعرج" المرتبطة بسهو النبي (ص)، غير ان سماحته لم يقل بان السيد الخوئي يرفضها ويضرب بها عرض الجدار، على الرغم من صحة سندها عنده، لأنها تخالف اصول المذهب، وذلك ـ على ما يبدو ـ لكي لا يناقض سماحته نفسه في ما رمى به الامام الخوئي، وغيره من الاصوليين، من انّهم يعتمدون كل الاعتماد على السند، فاذا صحت الرواية عندهم عملوا بها حتى وإنْ خالفت القرآن !!
وكملاحظة عابرة هنا، أود أنْ أتساءل فيما إذا كان سماحة السيد يصر على ان فقهاء الحلال والحرام، ومنهم الامام الخوئي (قده)، لا يعتنون بالمسائل العقدية، وهو يقرأ العلة التي يذكرها الامام الخوئي لعدم قبوله للرواية وإنْ كانت صحيحة، وهي قوله:"لمخالفتها اصول المذهب"، الدالة على انه يعرف!! اصول المذهب، ويراعيها في عملية الاستنباط!!!.
رابعاً: حول بعض استطراداته، وقد اخترت منها، ثلاثة مقاطع:
الأول: في سياق رده على من يقول بان الامام الحجة (ع)، قد اطلع على كتاب الكافي أو أمضاه أو قال فيه "الكافي كاف لشيعتنا"، قال سماحته: للعلم ترى لست أنا فقط أنكر رؤية الإمام الحجة في عصر الغيبة الكبرى أنا أنكر رؤية الإمام الحجة في عصر الغيبة الصغرى لغير السفراء الأربعة، أنا لم يثبت عندي أن أحداً التقى بالإمام في عصر الغيبة الصغرى غير السفراء الأربعة، حتى أكمل الصورة أعزائي لكم وكذلك نحتاج إلى أدلة قطعية أنّ السفراء الأربعة كانوا يشاهدونه وليس أنه كان يتلقون الرسائل والكتب منه لأنه في كثير من الأحيان أنّ السفراء كانوا ينقلون الكتب ولا دليل أنهم يشاهدوه لعل الإمام سلام الله عليه كان عنده طريق يوصل إليهم الكتاب ولهذا كنا نعبر التوقيعات.
تعليق:
1 ـ إذا كان سماحته، يستند في انكار الرؤية الى ما ورد في التوقيع الشريف، من قوله (ع): ((وسيأتي شيعتي مَنْ يدعي المشاهدة ألا فمن ادعى المشاهدة قبل خروج السفياني والصيحة فهو كذاب مفتر.))، فمن حقنا أن نتساءل: لماذا لا تكون "المشاهدة" المنفية هنا، بمعنى: "الحضور" وليس "الرؤية"، وقد استعملت بعض الروايات لفظ "المشاهدة" في مقابل "الحضور"، لا "الرؤية"؟
ففي الاحتجاج عن أبي خالد الكابلي، انّه سأل الامام السجاد (ع)، عن مسائل، كان بعضها يرتبط بالامام الحجة (ع)، فكان مما أجابه به انه قال (ع): "يا أبا خالد إنّ أهل زمان غيبته والقائلين بإمامته والمنتظرين لظهوره عليه السلام أفضل من أهل كل زمان، لان الله تعالى ذِكْرُه، أعطاهم من العقول والافهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة، وجعلهم في ذلك الزمان بمنزلة المجاهدين بين يدي رسول الله صلى الله عليه وآله بالسيف، أولئك المخلصون حقا وشيعتنا صدقا والدعاة إلى دين الله سرا وجهرا ، وقال عليه السلام : انتظار الفرج من أعظم الفرج.".
فـ "المشاهدة" في قوله (ع)، " لأنّ الله تعالى ذِكْرُه، أعطاهم من العقول والأفهام والمعرفة ما صارت به الغيبة عندهم بمنزلة المشاهدة"، استعملت في مقابل "الغيبة"، ولذا فهي تعني الحضور وليس الرؤية.
كما ان لفظ "شهد"، في قوله تعالى:"ومن شهد منكم الشهر فليصمه"، يعني: "حضَرَ"، فكان حاضرا غير مسافر.
وهناك الكثير من الشواهد على هذا، فمنها، قولهم:" الشاهد يرى ما لا يرى الغائب": فهو واضح في الدلالة على انّ لفظ "الشاهد" هنا يعني:"الحاضر". ومنها: ما عن ابن عباس انه قال: (( إنّ أصحاب الحسين (ع)، لم ينقصوا رجلاً ولم يزيدوا رجلاً، نعرفهم بأسمائهم من قبل شهودهم.))،أي: من قبل حضورهم الواقعة مع الإمام عليه السلام..
ومنها، قول الشاعر:
إنـي أدين بحب آل محمـد *** وبني الوصي شهودهم والغيب
وأنا البرئ من الزبير وطلحة *** ومن التي نبحت كلاب الحوأب
وعلى هذا، فانّ تكذيب مَنْ يدّعي المشاهدة، لا يعني تكذيب مَنْ يدعي الرؤية، وانما يعني تكذيب مَنْ يدعي ان الامام (ع) يعيش حالة الحضور، لا الغيبة، وانه على اتصال به (ع).
ومع ورود هذا الاحتمال، وهو قوي، بل هو في مورد الرواية محل الكلام أقوى، يبطل استدلال سماحته على انكار الرؤية.
2 ـ قد يكون من حق سماحته، ان يقول ليس لدي من دليل يثبت انّ هناك مَن رأى أو يرى الامام الحجة (ع)، في الغيبة الكبرى، ولكنْ ليس من حقه ان يقول: أنا اُنكر رؤيته (ع)، فالفرق بين القولين كبير عند أهل العلم، بل عند الطلبة.
3 ـ ان سماحة السيد يطالب بادلة قطعية على رؤية السفراء، فضلا عن غيرهم، للإمام عجل الله تعالى فرجه الشريف، ولو كان سماحة السيد لا يبني ولا يعتمد إلاّ على الادلة القطعية، لما استقامت حياته الشخصية في أبسط شؤونه اليومية، شرعية كانت أم اجتماعية أم غيرها، ولذا فكيف استساغ المطالبة بها في إثبات رؤية الإمام عليه السلام، وهي وقائع محددة ومحدودة جدا، لم يعشها هو، ولم تكن من شؤونه، وقد حدثت في ظروف استثنائية جدا.
الثاني: ـ وفي سياق حديثه حول وجود الكذب والدس وغيرهما، في الموروث الروائي الشيعي، قال سماحته: بعض العوام، في هذه الأيام عندما أطرح هذه الأبحاث، يقولون لماذا تريد أن تدمر تراث أهل البيت، واقعاً ليس لي إلا أن أشفق على مثل هذه العقول التي كأنها أصيبت بانجماد كونكريتي وليس انجماد ثلجي؛ لأن الثلج قد يذوب ولكن الكنوكريت (الصبابة بالتعبير الشعبي) هذه غير قابلة للذوبان. على أي حال، واقعاً أنا حديثي غير موجه إلى هذه الطبقة موجه إلى الطبقة العاقلة المثقفة الأكاديمية التي قلبها محترق على تراث أئمة أهل البيت هذه المدرسة المباركة التي هي عدل القرآن هذه المدرسة التي أعطى الأئمة دمائهم لأجلها. أنا بيني وبين الله مادام فيّ عرق ينبض كونوا على ثقة أن هذا المنهج لن أتنازل عنه وهو تنقية تراث أئمة آبائي وأجدادي.
تعليق:
1 ـ كما كرّرَ ذلك كثيرا خلال أحاديثه في هذه الحلقات، عاد سماحته من جديد، ليؤكد بانه أصبح عرضة للسهام، بسبب أحاديثه عن الموروث الروائي الشيعي، وانه لن يتنازل عن ذلك مهما حصل، ليوحي للمتلقي بانه بات "ضحية" آرائه، وانّ الآخرين (وهم المجتهدون طبعاً) غير قادرين على ردّ آرائه ردّا علميا، فعمدوا الى الهجوم عليه!!!
ولا أدري إذا كان هذا من موارد: "رمتني بدائها وانسلّتْ"!!!، فالجميع يعلم بان هجوم سماحته على المراجع أقدم من حديثه في هذه الحلقات، ولم يكد يفوّت فرصة، في هذه الحلقات، دون أنْ يهاجمهم، أما لماذا لا يردّون عليه، فلأنهم لا يرَون بان سماحته قد أتى بما يستحق ردّا. والذي يبدو لي هو ان اهمال العلماء المجتهدين لما يطرحه سماحته، وتجاهلهم له، يغيض سماحته ويزعجه كثيرا، فينفّس عن ذلك بثورة هنا وانتفاضة هناك، وذلك لأنّ سماحته يعلم جيدا، بان من عادة العلماء المجتهدين، انهم لا يردّون على كل ما يقال ويكتب، لأنهم لايرَون بانّ كل ما يقال ويكتب يستحق ردّاً، وإذا ما رأوا انّ هناك ما يستحق الرد، فانهم يردّون عليه في بحوثهم العالية ودروسهم التخصصية.
2 ـ ان ما يعتبره سماحته هجوما عليه، لم يكن بسبب نقده لآراء المراجع وكبار العلماء، كما يحاول ان يرسخه في ذهن المتلقي، من خلال التأكيد عليه كثيرا وتكراره باستمرار، وانما بسبب كون نقده غير بنّاء، إذ يتسم بعدم الامانة في النقل وعدم الموضوعية في الطرح وعدم العلمية في التناول وعدم الانصاف في القول وعدم الدقة في الفهم وعدم الكياسة في الاسلوب، والا فانّ المدرسة الشيعية قائمة على الاجتهاد، وهو لا يحصل الاّ بالأخذ والرد العلميين.
3 ـ لماذا يهاجم سماحته العوام، وهم عوام؟ ولماذا يشفق سماحته عليهم، وهم عوام؟ بل لماذا يخاطبهم أصلاً، وهم عوام؟ فليقولوا ما يقولون، ولا ينتظر منهم تأييدا أو اطراءا في ما لا يحيطون به علما، ولا يشغل نفسه بهم، ولا يُذهب نفسه عليهم حسرات، فالمهم هو ما يقوله غير العوام، وهم العلماء المجتهدون، فهل هو على استعداد لأنْ يُصغي إليهم، ويستمع الى ما يقولون فيتبع أحسنه؟
4 ـ لماذا يرغب سماحته ويأنس كثيرا بتوجيه خطابه الى من وصفهم بـ"الطبقة العاقلة المثقفة"، وهم ليسوا من أهل الاختصاص، في ما يقول ويبحث، ولا يمتلكون آلة الحكم عليه؟ لقد كان على سماحته ان يوجه خطابه الى العلماء من أهل الاختصاص، وهم المجتهدون، وعليه ان يستمع لهم بكل اهتمام وشغف، باعتبارهم أصحاب اختصاص ليس إلاّ.
5 ـ آمل انْ لا يكون سماحة السيد يستهدف من حلقات أحاديثه التخصصية هذه، خصوص المثقفين والاكاديميين، وأن لا يجعل قناعاتهم بما يقول مؤشرا على الصحة والنجاح، ماداموا من غير أهل الاختصاص، لأنّ استهدافهم بهذا الشكل وبهذه الطريقة، يخرج أحايثه عن العلمية والموضوعية، ليدخلها في دائرة اخرى لا أرجوها لسماحته.
فلو انّ باحثاً ادّعى بانه قد اكتشف مركّباًً فريداً، يعالج به كل الامراض المزمنة والمستعصية، بمجرد تغيير نسب العناصر التي يتركب منها، وهو متاح للجميع بسبب سهولة انتاجه ورخص ثمنه، فتوجه الى الناس مخاطبا ومعبّئاً، من أجل أنْ يدفعوا أصحاب العلاقة الى تبني انتاجه بشكل واسع، وفرح كل أصحاب الامراض وذويهم، بهذا الخبر، وذهبوا الى مناصرة صاحبه، والضغط على أصحاب الشأن والاختصاص لإنتاج هذا الدواء السحري، وخرجت الملايين في مظاهرات صاخبة في كل بقاع الارض، تأييدا لذلك الباحث، وعمّت الإعتصامات كل أصقاع الدنيا، دعما لتلك الخطوة العملاقة، فلا يكون لمثل هذا الجمع الكبير، ولمثل هذا الضجيج الخطير، أي أثر في اعتبار هذا المركّب وقبوله كدواء، ما لم يحظ بتأييد المؤسسات العلمية المتخصصة بهذا الشأن، وإمضائها له؟
بل، هل ان هذا الباحث كان بحاجة الى ان يخاطب عموم الناس أساساً، ويعبّأَهم بذلك الشكل الواسع، لو انّه كان صادقاً في قوله، وواثقا من فعله، ونزيها في غايته؟
6 ـ آمل ان لا يكون سماحة السيد قد قصد من العوام: "العلماء المجتهدين"، فخطابُ العوام، والمقابلة بينهم وبين الاكاديميين، لا يكون له أي معنى، فيما لو كان سماحته يقصد العوام فعلاً، لأن الاكاديميين، بما هم أكاديميون، عوام أيضا في الاصطلاح الفقهي، بمعنى انهم غير مجتهدين، فلا معنى للمقابلة بينهم وبين العوام، كما أنّ وصف العقول بالانجماد، لا ينسجم مع عقول العوام، وانما ينسجم مع العقول التي من شأنها انْ تفهم المطلب التخصصي وتقبله، ولكنها لم تفعل، وهي عقول أصحاب الاختصاص دون شك، إذ لا معنى لانجماد أو تحجر عقل وعدم تقبله لمسألة تخصصية، ما دامت تلك المسألة لا تعنيه أساسا، ولا يفقه من أبجدياتها حرفا.
الثالث: وفي سياق حديثه عن مدى اعتبار كتاب الكافي، قال سماحته: اطمئن الآن، ذاك الثلاثي الذي أشرت إليه بالأمس، وهو ثلاثي الإعلام والمال والسلطة الدينية، سترتفع أصواتهم باعتبار ان كلامي هذا طعن في الدين وتفريغ لمحتوى التشيع، وإذا لم يبق لنا الكافي فلا يبقى [لنا من الحديث شيء].. أعزائي نفس هذا المنطق يقوله أهل السنة هم يقولون إذا طعنا في البخاري بعد ماذا يبقى من الحديث إذا طعنا في مسلم طبعاً مع الفارق ما أريد أن أقول بأن الكافي مثل بخاري لا يقول أحد اني شبهته بتلك الكتب، لا أنه أناظر تنظير، فالتنظير غير التشبيه والقياس، ولذا عندما كتب العلامة الألباني عندما كتب صحيح النسائي أراد أن يكتب كتاب على غراره فيصحح بعض روايات البخاري، ولكنه لم يجرؤ، نعم تجرأ فقط في كتاب مسلم، فقامت الضجة عليه، وستقوم الضجة عليّ أيضا، ولكنني لا أبالي، لأن الحق أحقّ أن يتبع، فمالكم كيف تحكمون هذا أوّلاً، وثانياً أنا اعتقد أن مدرسة أهل البيت أهم من كل ما يقال ولابد أن نعطي كل ما نملك لتنقية تراث أئمتنا عليهم أفضل الصلاة والسلام .
تعليق:
1 ـ كأنّ سماحة السيد يريد ان يوحي الى المتلقي، بانه هو الوحيد الذي يذهب الى عدم وجود كتاب صحيح، في الموروث الروائي الشيعي، ولذلك يقول بانه سيدفع ثمن هذا القول "الجديد"، وانه مستعد لأنْ يضحي من أجله!!، وهو ادعاء باطل دون شك.
2 ـ كأنّ سماحته يريد ان يوحي الى المتلقي، بانّ الآخرين لا يملكون من الرد على ما يقول غير الهجوم عليه، وهو ادعاء مردود، لأنّ سبب عدم رد العلماء على سماحته يكمن في عدم استحقاق كلامه للرد.
3 ـ إنّ تصحيح علمائنا لبعض الكتب، تصحيح اجمالي، وهو لا يعني تصحيح كل مضامينها، وهو ما لم ينبّه عليه سماحته، أو لم ينتبه اليه، بل أنّ تصحيح سند أي رواية لا يعني تصحيح واعتماد مضمونها، وقد أشرنا الى ذلك في أكثر من موضع من هذه الحلقات، ونقلنا شيئا من كلام بعض مراجعنا العظام بهذا الشأن، ومنهم الامام الخوئي (قده).
4 ـ إن "تنظير" سماحته كتاب الكافي، بالبخاري ومسلم، من حيث عدم القبول بمناقشة رواياته وردّ بعضها، غير صحيح، وذلك لأنّ عموم الاصوليين لا يقولون بصحة كل روايات الكافي، ويناقشون اعتبار رواياته رواية رواية، ويردّون الكثير من رواياته.
كما انّ عدم قبول البعض بمناقشة روايات الكافي، مبنيٌ عندهم على أدلة شرعية وقناعات علمية، بالصحة أو بالصدور، حتى وانْ كنا غير متفيقين معهم في ذلك، ومن هنا يتضح بانّ تفسير سماحته لدوافع عدم قبول ذلك البعض بمناقشة روايات الكافي، بنفس دوافع أهل السنة في تصحيح صحاحهم، ليس سديدا أبدا، وذلك لأنّه على الرغم من ردّ الكثير من روايات الكافي، فإنّ الدين لم ينتقض، وبقي من الحديث المعتبر ما يكفي لكل شأن من شؤون الحياة.
قناتنا على التلغرام :
https://t.me/kitabat
عدنان عبد الله عدنان

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat