الصحافة هي فن تطويع الكلمة الهادفة لاستقرارها في عــــقول الناس وأفكارهم ، فهي إضافة إلى إنها مهنة المتاعب ، فهي رسالة نبيلة غايتها التأثير في المجتمع نحــــو التطوروالرقي ، ومساعدة الشعب في التحرر ، والانطلاق نحو سعادة حقيقية راسخة ، والصحافة هي ليست تجارة تخضع لحسابات الربح والخسارة المادية ، بل هــي معادلة فيها خسارة الصحفي راحـته ، وربحه سعادة المجتمع ورقـيه ، ولأهميتها فــــي بــــناء المجتمع سميت بالسلطة الرابعة ، بعد السلطات الثلاث التشريعية والتنفيذية والقضائيــة
ويمكن القول إن الصحافة هي مرآة تعكس في صفحاتها تطورالمجتمع ، وهي في الوقت نفسه أداة فاعلة لتطويره ، وبذلك فقد جمعت الغاية والوسيلة معاً 0
وفـي أهمية الصحافة ودورها الفاعل وسط الجماهير نستذكر قول القائد نابليون بونابرت : ( إنني أوجس خيفة مـــن ثلاث جرائد أكـثر مما أوجس خيفة مـن مائة ألــف مقاتل) ، وهو بذلك لايعني ثلاث صحف تحديداً ، وإنما يعنــي قــوة الـوعي وتأجيـــــج المشاعر الذي بإمكان الصحف الثلاث أن تبثه بين الجماهير ليعادل قوة مائة ألف مقاتل مدججين بالسلاح في ساحة معركة ، وللقارئ العزيز أن يتخيل ذلك ، بل علـــى القارئ أن يسحب ذلك على نفسه ، ويقدر مدى تأثير الصحافة ، في رؤيته لأحداث المجتمــع ، وكيفية معالجتها0
وإذا كان تاريخنا الأدبي ، قد حفــــل بأنواع متعددة من (الأدب الساخر) ، و(أدب النديم) و( الفاكهة الأدبية ) وغيرها ، والتي تهدف إلــى تحريك الذاكرة ، وتنشيط الفكر باسلوب فكه ، ليس لغرض الضحك والإضحاك ، وإنما من أجـل التــــوعية والتنــوير، فان لصحافة الهزل والفكاهة ، دوراً فاعــلاً فــي اختيار الكلــمات الساخــرة والتعليقات اللاذعــة ذات الشحنات المـــؤثرة فــي نفسية أفــراد المجتمع فـــي مخلتـف اتجاهاتهـــم ومستوياتهم وعقائدهم 0
وبين صدور أول جريدة في العراق ، جريدة ( الزوراء) عام 1869 م ، وصدور أول جريدة هزلية ( مرقعة الهندي )عام 1909 م ، في البصرة ، أربعين سنة كافية لأن تنجب صحفيين ، لهم القدرة من أن يطوعوا الطرفة ، والكلمة الساخرة ، إلى نقــد لاذع للمساوئ ، مع تأشــير المحاسن ، لترسيخها فـي بناء المجتمع ، البناء السليم المتطــور، باسلوب هزلي ضاحك ، يأخذ تأثيره في نفس المتلقي ، ويعلق في ذهــنه لـــترديده فــي التجمعات ، والمحافل ، منتشراً بسرعة 0
وكان الصـحفي ميخائــيل تيســـي ( 1895م ــ 1962م ) ، واحــــداً مـــن أولئـك الصحفيين ، الذين سخّروا الأسلوب الهزلي الساخر، إلى نقد لاذع هادف 0
بدأ ميخائيل تيسي ، حياته الصحفية بنشر مقالاته النقدية الساخرة ، باســم مستعار هو (كنّاس الشوارع) في جـــريدة (دجـــلة) لصاحبها ومديرها المحامي داود الســـعدي الصادرة في بغـداد فـي 25/ 6 / 1921م ، وجريدة (الرافدان ) لصاحبها سامي خـوندة الصادرة فـي بغداد في 26 / 9/ 1921 م ، والتي احتجــبت عــن الصدور نهائياً فــــي 23 / 8 / 1922م ،بعد أن أغلقت (6) مرات ، وقد تميز ميخائيل تيسي، باسلوب نقدي اجتماعي ساخر0
في عام 1922 م ، أصدر ميخائيل كتاباً بعنوان (ماهية النفس ورابطتها بالجسد ) وقد أشارت مصادر ، إلى انه ترجمه من الانكليزية ، لكاتب انكليزي ، لتمكنه من اللـغة الانكليزية وثقافته ، وقد أثار الكتاب زوبعة لما يحمل من أفكار تجاه الـدين حتى وصلت إلى صدور فتوى بتكفيره ، وتعرضه للسخرية فظهر على غلاف مجلة بغدادية التعليق ( في بغداد ظهر مبدأ جديد اسمه المبدأ التيسي ) 0
جمع تيسي مقالاته الساخرة ، التــي كانت بتوقــيع (كناس الشوارع) وأصــــدرها بكتاب عنوانه ( نقدات كناس الشوارع ) ، ثم أصدر رواية بعنوان ( خيمة العدالة )0
في الأول من نيسان 1925م ، أصدر صحيفة بعنوان (كناس الشوارع) ، يصفـها الأستاذ فائق بطي بكتابه ( الموسوعة الصحفية العراقية ) بأنها : ( مـن الصحف المهمة في تاريخ صحافة الفكاهة والهزل ) 0
وعن تسمية الجـــريدة (كناس الشوارع ) ينقل لنا الأســـتاذ فائق بطي مـــن كتاب الأستاذ رفائيل بطي ( الصحافة في العراق) المحاورة التي دارت بين الأستاذ رفائــــيل بطي وبين الصحفي ميخائيل تيسي فيقـــــــول تيسي : ( أردت أن أختار شخصية آدمية كثيرة التجوال في شرايين المدينة وقلبها ، دوارة تقترب من الأبواب ، وتدخل البيوت ، بيوت الفقراء وقصــور الأغنياء فلــم أجــد خيراً مــن كناس الشوارع ، ثـــم وددت وأنا أعتزم الانتقاد ، والحملة على العادات والنواقص في الناس والمجتمع ، أن أختار اسـماً يوافقه حمل سلاح ، للتهويش والضرب ، ولسميت مكنسة مشهرة دائـماً ، يحملها علــى كتفه ، ويكنس بها وينظف ، وقد يستخدمها للضرب والدفاع عن النفس عند الحاجة )0
وأعلن الصحفي ميخائيل تيسي في العدد الأول من جريدته ( كناس الشوارع) عن هدفـه من إصدار الجــريدة وخطـة عمله قائلاً : ( خطتـي معلومة واضحة كالشمس فـي خامسة الليل ، أحمل مكنستي وآخذ أتجول في الطرق والأزقة ، فحيثما رأيت أحداً يأتي أمراً مخالفاً للذوق والشم والنظام والقانون والكمنجة ، ضربته بمكنسة كافرة على رأسه فان انكسرت المكنسة راحت من كيسي ، وان انكسر رأسه راح من كيسه )0
ويبدو إن مقالاته الساخرة ، وتعليقاته الفكهة، كانت سبباً في تعرضه للاغتيال من قبل شخص مجهول ، فقد كان يجلس في صيدلية (كرجي ) في شارع الرشيد عند (عكد النصارى ) عندما دخل الصيدلية شـخص ملثــــم وأطلق عــدة اطلاقات نارية باتجاهه، واحدة منها أصابت فخذه ، وولى الجاني هاربا0
وبعد تعرض الصحفي الساخر تيسي للاغتيال ، أغلق جـــريدة (كناس الشوارع ) وأصدر نشرة روائية سماها (مرآة الحال ) في 15/10/1926 م 0
لم تستمر (مـــرآة الحــال) طويلاً ، فبعد صدور أعداد قليلة منها ، أغلقها ليصـدر جريدة ( سينما الحياة) في 17/ 12 / 1926م وكانت جريدة أسبوعية ، كتب في عددها الأول (ستكون وقـــفاً لخدمة العـموم وصوالحهم ، اشـــتراكية بمعنى إن للجمــيع حـــق الاشتراك في تحريرها وإبداء آرائهم فيها مهما تناقضت المبادئ واختلفت المرامي فــي خدمة الشعب ، اشتراكية بمعنى إن حقولها مفتوحة ومفتوحة لبذور أقلام الأدباء وبـنات أفكارهم ) ولم تعمر طويلاً0
في 6 / 5 /1936م اصدر ميخائيل تيسي جريدة (الناقد) ، وهي جـريدة هزلــــية أسبوعية ساخرة ، وكان بيته الكائن في ألسنك مكتباً لها ، ثم أغلقها في 26 / 2 /1939 قبل أن تكمل سنتها الثالثة في الصدور، كونه سأم الحياة الصحفية ، وتفرغ إلـى الوظيفة إلى أن وافاه الأجل المحتوم عام 1962م 0
البريد الالكتروني ـــــــــــــــــــــــــــــــــــalmosawe.mahmood@yahoo.com
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat