صفحة الكاتب : الشيخ عامر الجابري

الطبري ومنهجه في تاريخ الرسل والملوك
الشيخ عامر الجابري

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
تاريخ الرسل والملوك، أو تاريخ الأمم والملوك، أو تاريخ الطبري اختصاراً، وهو موسوعة تاريخية كبرى و من التواريخ المشهورة الجامعة لأخبار العالم ابتدأ من أول الخليقة وانتهى إلى سنة 309هـ، واستقى مادته من كتب الأخباريين المتقدمين عليه، كأبي مخنف والمدائني وهشام الكلبي والواقدي وغيرهم.
وقد اشتمل كتاب الطبري على العديد من مرويات الكتب التالفة لقدماء الأخباريين من الفريقين، وبذا أصبح هذا الكتاب حلقة أساسية لا يمكن تجاوزها واغفالها، فكان محط عناية العلماء من الفريقين معاً.
وقد طبع هذا الكتاب في ليدن بهولاندا ، من سنة 1879م إلى سنة 1901م بعناية المستشرق الهولندي دى غوية . في (18) مجلدا، وبعد دخول الطباعة إلى البلاد العربية طبع هذا الكتاب في مصر ثم في لبنان عدة طبعات.
أما مؤلفه أبو جعفر محمد بن جرير  الطبري ( 224 - 310 هـ ) فقد ولد في آمل بطبرستان ،و بعد عام 240 هـ رحل عن بلاده قاصداً مناهل العلم والفضل في ذلك الزمان كالشام ومصر، ثم استقر في بغداد وبقي فيها إلى آخر أيام حياته (1) . 
 وقد شارك الطبري في العديد من الفنون والعلوم ، إلا أنه نشط وبرز في جانبين :
الجانب الأول: التفسير، حيث أنه يعتبر - في نظر السنة -إمام المفسرين، وتفسيره إمام التفاسير وهو المعروف بـــ (جامع البيان في تفسير القرآن ) أو (جامع البيان في تأويل القرآن ) أو ( تفسير الطبري ) من باب الاختصار .
الجانب الثاني: التاريخ ، وذلك من خلال كتابته لـ ( تاريخ الرسل والملوك ) الذي نحن بصدده .
والملاحظ أن تاريخ الطبري قد فاق جميع كتب التاريخ العام من حيث الاعتماد عليه من قبل المؤرخين والباحثين في مجال التاريخ، وفي رأينا أن هذا الاعتماد له ما يبرره ويسوغه، فالكتاب يمتازعلى غيره من كتب التاريخ العامة بعدة مميزات بعضها يعود إلى شخصية الكاتب وذاتياته، ولكنه في الأخير ينعكس ايجاباً على الكتاب ولو بشكل غير مباشر، والبعض الآخر يرجع إلى نفس الكتاب وبشكل  مباشر .
أولاً:مميزات الكاتب
في تقديرنا أن الطبري يمتاز بثلاثة عناصر قلما تجتمع في مؤرخ غيره : 
العنصر الأول : الاستقلال الفكري
كان الطبري يروج مذهب الشافعي ببغداد لعشر سنين ، فقد نقل عنه أنه قال : (أظهرت مذهب الشافعي واقتديت به في بغداد عشر سنين وتلقاه مني ابن بشار الأحول شيخ ابن سريج )  .
ولذا عده ابن قاضي شهبه في الطبقة الثالثة في كتابه طبقات الشافعية (2) وكذا فعل السبكي في طبقات الشافعية الكبرى(3) .
 وقد نسبه البعض إلى التشيع ومولاة أهل البيت عليهم بسبب موقفه إزاء بعض القضايا ، كموقفه من حديث غدير خم الذي كان يقول بصحته (4).
قال الذهبي ( ت 748 ) في ميزان الاعتدال في ترجمته للطبري : (فيه تشيع يسير وموالاة لا تضر )(5) .
ولكن الذي يبدو لنا من كتب التاريخ والتراجم والطبقات أن هذا الحال لم يستمر مع الطبري ، ففي الفترة الأخيرة من حياته ترك تقليد الشافعي والترويج لمذهبه ،وبدأ يعمل بقناعاته واجتهاداته الخاصة .
 قال الخطيب البغدادي (ت 463 هـ ) في وصفه : (وكان أحد أئمة العلماء ،يحكم بقوله، ويرجع إلى رأيه لمعرفته وفضله)(6) .
وقال الفرغاني: ( فلما اتسع أداه بحثه واجتهاده إلى ما اختاره في كتبه ثم ذكر الفرغاني عند عد مصنفاته كتاب لطيف القول في أحكام شرائع الإسلام وهو مذهبه الذي اختاره وجوده واحتج له وهو ثلاثة وثمانون كتاباً )(7) .
وقال ابن خلكان ( ت 681 هـ ) : ( ... وكان من الأئمة المجتهدين، لم يقلد أحدا، وكان أبو الفرج المعافى بن زكريا النهرواني المعروف بابن طرارا على       مذهبه) (8).
وقال الزركلي (ت 1396هـ)  في الأعلام : ( وكان مجتهدا في أحكام الدين لا يقلد أحدا، بل قلده بعض الناس وعملوا بأقواله وآرائه ) (9) .
وقد عده الشيرازي ( ت 467 هـ ) في كتابه طبقات الفقهاء من جملة فقهاء بغداد ومجتهديها (10).
 بناءاً على هذا ، نستطيع القول : أن الطبري كان يتمتع بدرجة من درجات الاستقلال والتحرر الفكري ، مما سينعكس إيجاباً في تعاطيه مع الموروث التاريخي والروائي ؛ لأن عقلية المجتهد تختلف عن عقلية المقلد . 
العنصر الثاني: الاستقلال السياسي 
ومما يحسب للطبري أيضاً أنه لم يكن من وعاظ السلاطين إن صح التعبير ، وكانت علاقته بالدولة العباسية هي علاقة العالم المتحفظ  .
 فلما تقلد الخاقاني الوزارة وجه إليه بمال كثير فامتنع من قبوله ، فعرض عليه القضاء فامتنع ، فعرض عليه المظالم فأبى ، فعاتبه أصحابه وقالوا : لك في هذا ثواب وتحيى سنة قد درست فطمعوا في قبوله المظالم فباكروه ليركب معهم في قبول ذلك فانتهرهم وقال : كنت أظن اني لو رغبت في ذلك لنهيتموني عنه ولامهم ، فانصرفوا من عنده خجلين (11).
فهذه القضية تكشف بوضوح عن نفسية الطبري وكيفية تعاطيه مع الجهاز الحاكم وقتئذٍ ، ولا ينبغي أن يفهم منها أن الطبري كان مقاطعاً لهذا الجهاز، فالقضية ترتبط بالجانب الأخلاقي والسلوكي في شخصية الطبري ولا علاقة لها بالموقف الشرعي من السلطة .
 وعلى هذا الأساس ينبغي أن تفسر جميع الحالات والمواقف المشابهة التي صدرت من الطبري تجاه الدولة، ومنها: ما يذكر: أن المكتفي قال للعباس بن الحسن إني أريد أن أقف وقفاً يجتمع أقاويل العلماء على صحته ويسلم من الخلاف فاحضر الطبري وأجلس في دار يسمع فيها المكتفي كلامه وخوطب في أمر الوقف فأملي عليهم كتابا لذلك على ما أراده الخليفة فلما فرغ وعزم على الانصراف أخرجت له جائزة حسنة فأبى أن يقبلها فحرص به صافي الحرمي وابن الحواري لأنهما كان حاضرين المجلس وبينه وبين المكتفي ستر وعاتباه على ردها فلم يكن فيه حيلة فقيل له من وصل إلى الموضع الذي وصلت إليه لم يحسن أن ينصرف إلا بجائزة أو قضاء حاجة فقال أما قضاء حاجة فأنا أسأل فقيل له قل ما تشاء فقال يتقدم أمير المؤمنين إلى أصحاب الشرط يمنع السؤال من دخول المقصورة يوم الجمعة إلى أن تنقضي الخطبة فتقدم بذلك وعظم في نفوسهم (12).
وعلى أية حال ،  فإن هذا السلوك من الطبري قد جنبه – إلى حدٍ ما-  ما يسمى اليوم بـ ( تأثير السلطة على النص ) .
العنصر الثالث : الاستقلال المعيشي ( الاقتصادي ) 
وقد أفضى ابتعاد الطبري عن الدولة ورفضه للمناصب والوظائف التي عرضت عليه إلى استقلاله من الناحية المعيشية والاقتصادية أيضاً، فقد كان يعيش على ما يجنيه من التجارة، وعلى ما يرد عليه من حصة من ضيعة يسيرة خلفها له أبوه بطبرستان (13).
فهذه العناصر الثلاثة تعود إلى ذات الكاتب وشخصيته إلا أنه لا ينبغي أن نبالغ في هذه االنتيجة ، فالطبري وإن كان مستقلاً فكرياً وسياسياً ومعيشياً ، إلا أنه لم يكن خارجاً عن الإطار العام لمدرسة الصحابة ، ولم تصل علاقته بالدولة إلى درجة القطيعة كما ألمحنا سابقاً .
نعم هو أكثر استقلالية وتحرراً من غيره ، ممن تسنموا المناصب وكانت تصلهم الصلات من الدولة بشكل دائم ؛ ولذا فإن تأريخه يرجح على غيره من كتب التاريخ العامة لهذا السبب؛ لأنه سيكون أكثر موضوعية من غيره بسبب من الاستقلال المحدود الذي كان يتمتع به .
ثانياً: مميزات الكتاب
أما المميزات التي تعود إلى الكتاب بشكل مباشر، فتتمثل بعنصرين هامين:
العنصر الأول : الاهتمام بسند الرواية التاريخية
حيث أنه يسند رواياته في أغلب الأحيان وينسبها إلى أصحابها على طريقة المحدثين، وقد أفاد الطبري هذه الطريقة من خلال دراسته للحديث، فالطبري كان محدثاً قبل أن يكون مؤرخاً .
فتاريخ الطبري ( يتيح للباحث فرصة معرفة سند الرواية، والتأكد من أنها رواية شاهد عيان، كما يتيح للباحث فرصة المقارنة والترجيح  لما يغلب فيه من نقل عدة روايات للحادث الواحد) (14) .
العنصر الثاني : نقل وجهات النظر المختلفة
فالطبري ينقل جميع الروايات المختلفة، ووجهات النظر المتباينة حول الحادث، بغض النظر عن موافقتها للعقل والفكر أو عدم موافقتها، وبغض النظر عن انسجامها مع معتقد الطبري أو عدم ذلك.
وقد لخص الطبري هاتين النقطتين بقوله: ( وليعلم الناظر في كتابنا هذا أن اعتمادي في كل ما أحضرت ذكره فيه مما شرطت أني راسمه فيه، إنما هو على ما رويت من الأخبار التي أنا ذاكرها فيه، والآثار التي أنا مسندها إلى رواتها فيه، دون ما أدرك بحجج العقول، واستنبط بفكر النفوس، إلا اليسير القليل منه، إذ كان العلم بما كان من أخبار الماضين، وما هو كائن من أنباء الحادثين، غير واصل إلى من لم يشاهدهم ولم يدرك زمانهم، إلا بأخبار المخبرين، ونقل الناقلين، دون الاستخراج بالعقول، والاستنباط بفكر النفوس فما يكن في كتابي هذا من خبر ذكرناه عن بعض الماضين مما يستنكره قارئه، أو يستشنعه سامعه، من أجل أنه لم يعرف له وجها في الصحة، ولا معنى في الحقيقة، فليعلم انه لم يؤت في ذلك من قبلنا، وإنما أتى من قبل بعض ناقليه إلينا، وإنا إنما أدينا ذلك على نحو ما أدي إلينا) (15).
---------------------- 
مصادر ومراجع البحث:
(1) أنظر: تاريخ بغداد ، الخطيب البغدادي، تحقيق بشار عواد معروف، دار الغرب الاسلامي، بيروت، ط1،1422هـ - 2002م، ج2، ص 548وما بعدها.
(2) أنظر: طبقات الشافعية ، أبو بكر بن أحمد بن محمد بن عمر بن قاضي شهبة ، عالم الكتب ، بيروت ، ط1 ، 2007م ، ج1 ، ص 100.
(3) طبقات الشافعية الكبرى ، تاج الدين بن علي بن عبد الكافي السبكي ، تحقيق د ـ محمود محمد الطناحي، دار هجر ، ط2 ، 1413هـ ، ج3 ، ص120 .
(4) أنظرلسان الميزان ، أحمد بن علي بن حجر العسقلاني ،تحقيق عبد الفتاح أبو غدة ، مكتب المطبوعات الإسلامية ، بدون تاريخ ، ج7 ، ص 25 ، و سير أعلام النبلاء ، شمس الدين محمد بن أحمد بن عثمان الذهبي ( ت 748 هـ ) ، شعيب الارنؤوط و حسين الاسد ، مؤسسة الرسالة ، بيروت ، ط9 ، 1413هـ ، ج14 ، ص 272.
(5) ميزان الاعتدال في نقد الرجال ، أبو عبدالله محمد بن أحمد بن عثمان ( ت 748 هـ ) ، تحقيق علي محمد البجاوي ، دار المعرفة ، بيروت ، ج3 ، ص 499.
(6) تاريخ بغداد، مصدر سابق، ج2، 548.
(7) طبقات الشافعية ، مصدر سابق ، ج1 ، ص 101 .
(8) وفيات الأعيان وأنباء أبناء الزمان ، أبو العباس شمس الدين أحمد بن محمد بن أبي بكر بن خلكان ( ت 681 هـ ) ، تحقيق احسان عباس ، دار صادر ، بيروت ، ط1 ، 1971م ، ج4 ، ص 191 .
(9) الأعلام ، خير الدين بن محمود بن محمد بن علي بن فارس، الزركلي الدمشقي (ت 1396هـ) ، دار العلم للملايين ، ط5 ، 2002م ،ج6 ، ص 69 .
(10) طبقات الفقهاء ، أبو اسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (ت 476هـ) ، محمد بن مكرم ابن منظور (ت 711هـ) ، تحقيق احسان عباس ، دار الرائد العربي، بيروت ، ط1 ، 1970م ،ص 93 .
(11) أنظر تاريخ دمشق ، أبو القاسم علي بن الحسن بن هبة الله المعروف بابن عساكر (ت 571هـ) ، عمرو بن غرامة العمروي ، دار الفكر ، بيروت ،1415 هـ  ، 52 ، ص 200 .
(12)أنظر: المصدر نفسه، ج52، ص 194.
(13) أنظر: سير أعلام النبلاء، مصدر سابق، ج27، ص 303-306.
(14)أنصار الحسين ، محمد مهدي شمس الدين ، تحقيق سامي الغريري ، مؤسسة دار الكتاب الاسلامي ، ط3 ، 1429 هـ ، ص 30 .
(15) تاريخ الرسل والملوك، محمد بن جرير الطبري، دار التراث، بيروت، ط2، 1387هـ، ج1، ص 7.

قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


الشيخ عامر الجابري
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2013/08/27



كتابة تعليق لموضوع : الطبري ومنهجه في تاريخ الرسل والملوك
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :


مقالات متنوعة :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net