مسيرةُ آمالِ الأجيال
د . صباح علي السليمان
المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.
د . صباح علي السليمان

في أجواء يسودُها تشوقٌ لنصرةِ آل بيت رسول صلى الله عليه وسلم -عليهم السلام -،وأملٌ في النور، وحيرةٌ من الطريق؛ من كيدِ الأعداء ،وعدالةٌ للعالم خرجتْ قافلةُ الإيمان بقيادة الإمام أبي عبدالله الحسين (ع) من مكة المكرمة سنة 60 للهجرة مع نسائهِ ،وأطفالهِ ،وأبنائهِ ،وإخوتهِ ،وأبناءِ أخيه ،وأبناءِ عمومته، وأبلغَ الإمامُ الحسين مسلمَ بن عقيل – عليهما السلام- بأهدافِ الثورةِ ، وعرضَ عن مطالب ابن الزبير ،وعبد الله بن جعفر، وعمرو بن سعيد وآخرين في التخلي عن الثورة متمسكاً إمّا بالشهادة أو النصر قائلاً:" وأسيرُ بسيرةِ جدي ،وأبي علي بن أبي طالب ".وسارتِ القافلة على بركةِ الله تعالى، وتحمّلَ آلُ بيت الإمام الحسين(ع)عناءَ السفرِ مدة أربعةِ وعشرين يوماً رغمَ اعتراضهم من قبل بعضِ جند الوالي عمرو بن سعيد بن العاص في منطقة التنعيم ،وهو مَحرم أهل مكة ، ثُمَّ اعترضتْ قافلةُ الإمام الحسين (ع) قافلة يزيد بن معاوية في طريق الجحفة ، وهي رسالة ليزيد بأنّه لا شرعيةَ له ،وفي منطقةِ الحاجز بعثَ الإمامُ الحسين(ع) سفيره الثاني قيس بن مسهر الصيداوي ليبلّغَ أهلَ الكوفة أنّه سيصل، إلّا أنَّ الإمام الحسين (ع) لم يعرفْ خبرَ أهل الكوفة ، فأرسلَ سفيرَه الثالث قيس بن مسهر في منطقة خزيمة، وفي الطريق في منطقة زرود واكبَ ركبُ الإمام الحسين(ع)، وسافر معهم أحدُ أصحابِ الرسول صلى الله عليه وسلم ، وهو زهير بن القين، وواصل الإمامَ الحسين (ع) المسير؛ لعدمِ علمه بما أرسله من سفراء ، وعندما وصلت القافة منطقة زبالة أخبرَهُ أحدُ الناس أنّ سفراءه قد قُتلوا، وأنَّ الكوفةَ تحتِ أمرة الأمويين وبالرغم من ذلك واصلَ الإمامُ الحسين(ع) المسيرَ رغمَ مغادرة بعض من جاءوا معه، وحينما وصلوا شراف دفع ابن زياد بالحر بن يزيد الرياحي على رأس ألف مقاتل لمقاتلة الإمام الحسين(ع) ،أو مبايعة يزيد فذهبت قافلة الإيمان إلى موقع آخر بالقرب من شراف، ونزلوا به ،وفي منطقةِ ذي الحسم مع اشتداد الحر أمرَ الإمامُ الحسين(ع) بأنْ تسقى قافلُته ودوابه، ورغمَ المفاوضاتِ في عذيب الهجانات بين الإمام الحسين(ع)، والحر بقي الإمام الحسين (ع) متمسكاً بقضيته، وفي هذه اللحظة قال الإمام علي بن الحسين الأكبر (ع)متسائلاً: "يَا أَبَتِ لاَ أَرَاكَ اَللَّهُ سُوءاً أَ لَسْنَا عَلَى اَلْحَقّ؟ قال الإمام الحسين (ع): بَلَى وَاَللَّهِ اَلَّذِي مَرْجِعُ اَلْعِبَادِ إِلَيْهِ" ،وتمّ إبعاد القافلة إلى منطقة صحراوية قريبة من نينوي بأمر من ابن زياد للحر، ونزلتْ القافلةُ في العراء في مكان غير محصّن ،وليس فيه ماء. حينها قال الإمامُ الحسين(ع):«أَرْجُو أنْ یكونَ خیراً ما أراد اللهُ بنا» ،وبعد عزمِ الإمام الحسين (ع) الذهاب إلى كربلاء كتبَ عبيد الله بن زياد إلى القائد عمر بن سعد بأنْ يحولَ جيشُه بين الإمام الحسين(ع) وأصحابه ،وبين ماء الفرات وألا يذوقوا منه قطرةً، وهذا قبل ثلاثةِ أيام من استشهاد الإمام الحسين(ع) ، وكانَ أعظمُ ما عاناه الإمام الحسين(ع)،وأصحابه ،وخاصة الأطفال ،ومنهم عبدالله الرضيع هو العطش الشديد، وفي صباح اليوم العاشر خطبَ الإمامُ الحسين بأصحابه ،وذكرّهم بنسبه الشريف، ثُمّ ابتدأ القتالُ بقيادة عمر بن سعد ،وجيشه الكبير الذي تجاوز الالوف، وقاتلَ أصحاب الإمام الحسين (ع) أشدَّ القتال، والإمامُ الحسين (ع) يدعو لهم ويقول: "جزاكم اللهُ أحسنَ جزاء المتقين" ،واستشهد الإمام الحسين، وأخوه العباس – عليهما السلام – وأصحابهم إلّا نفراً منهم ، وعلى رأسهم الإمام علي بن الحسين (زين العابدين)(ع) ؛لعدم قدرتِه على القتال ؛ لمرضِه. وكان عمر الإمام الحسين ست وخمسين سنة ، وكانَ هذا الموقفُ بعد صلاةِ الظهرِ من عام واحد وستين للهجرة ،وأمرَ عمر بن سعد أعوانه بحمل رأس الإمام الحسين(ع) ، ورؤوس أهل بيته وأصحابه إلى عبيد الله بن زياد، وبعد يومين خرجَ قومٌ من بني أسد إلى ساحة المعركة، وأخذوا الجثث، فدفنوها، ثُمّ صلّوا عليهم، أمّا الإمام العباس (ع) فدُفِنَ في الموضع نفسه الذي اُستشهد فيه , ومنذ ذلك اليوم أصبحتْ قبورهُم مزاراتٍ للمسلمين في مشارق الأرض ومغاربها، وأصبحَ الإمامُ الحسين (ع) أمةً بعد أنْ جاء فرداً ، وبعدها شاعَ الحزنُ بين المسلمين وغير المسلمين بعد سماعِ الخبر، وحرقوا الخيمَ ، وحاولوا قتل الإمام زين العابدين(ع) إلّا أنَّ السيد زينب بنت علي (ع) دافعتْ عنه ، وسُيّر بالسبايا من مكان إلى آخر، وحُقّ على بني أمية اللعنة كما لُعِن اليهود ،كما جاء في قوله تعالى:{ وَإِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَفِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) }[ البقرة ] ،فهذا حال أصحاب الإمام الحسين(ع) كما ذكر الإمام علي زين العابدين (ع) حينما سؤل عن حالهم ،فأي بلاءٍ ومصيبة وقعت بآل محمد صلى الله عليه وسلم ،وا محمداه عبارةٌ أنطقتْها السبايا بوجه الظالمين والطغاة ،وهي عبارةٌ تصغي إليها الآذانُ، وتدمى عليها القلوبُ، وتقشعرُ لها الأبدانُ، وتبقى هذه العبارةُ صوتاً مدوياً أمامَ الطغاة على مر السنين. فما بالَ الناسُ اللذين يدّعون الإسلام في ذلك الزمان في تمثيلهم بآل بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولِمَ لا تتحرك القبائل العربية في ذلك الزمان ؛لدفاع عن آل بيت رسول صلى الله عليه وسلم ، فالإمام الحسين (ع) لم يخرج لأجل الخلافة ،وإنما خرج لإصلاح أمِر الأمة الإسلامية ؛ ولهذا قال الإمام الحسين (ع):" إنّي لم أخرجْ أشراً ولا بطراً وإنّما خرجتُ لطلبِ الإصلاح في أمّة جدي محمد، أريدُ أنْ آمر بالمعروف وأنهي عن المنكر، فمن قبلني بقبولٍ الحق فاللهُ أولى بالحق"، نعم هذه رسالة الإمام الحسين (ع) للمسلمين خاصة ، والعالم عامة ، فهي مسيرةُ آمال الأجيال ؛ ليصنعوا المستقبل، وليحاربوا الطغاةَ ، وليعمّروا الأرضَ، وليصنعوا الأزهارَ في الطرقات، وهي مسيرةُ أجيال في كلّ زمان ومكان، تزفُّ للعالم البشرى بأنَّ الحقَّ موجودٌ ،والباطلَ زاهقٌ ،والجراحَ تطيبُ ،والأجسادَ تتعافى ،والعملَ يستمرُّ ،والحقوقَ تُرجَع، والحياةَ تسيرُ ، فلا دينَ مع الظلام، ولا أمانَ مع الطغاة ، ولا قيمةَ مع السفهاء، ولا عهدَ مع الخونة، ولا مستقبلَ مع الجهال، ولا حياةَ مع الظلم، فهي ليستْ كلماتٍ ولا سمر، وإنما إيمانٌ، وإرادةٌ ،وقوةٌ ، وعزيمةٌ ، وإصرارٌ، فعلى الناس مستقبلاً النظرُ بصدق، والتفاعلُ بعمق ، والاعتبارُ بيقين لهذه المسيرة العظيمة في أهدافِها ،وطموحاتِها ،ووقائِعها ،ونتائجِها ، وعبرِها ، فهي مدرسةٌ ، وديوانٌ ، نظرَ إليها الأعمى ، وسَمِعَ فيها الأصمُ ، ويقظ عليها الغافل. فهي ثورةٌ إنسانية وتاريخية ،ومنبرٌ للوعاظ، والمعلمين، والأمهات، والآباء ، ودرسٌ في المؤامرات ضد الإسلامِ قديما وحديثاً فمن خلالها نعرفُ السياسةَ ،والتخطيطَ ،والتدبيرَ ،والمعالجةَ، والإباءَ ،والشهادةَ ،والتضحيةَ ،والعبرَ. ففي مسيرةِ آمال الأجيال تتعانقُ القلوبُ ، وتتبادلُ الأفكارُ، ويحلو الكلامُ، وتصفى النفوسُ ، ويُزرَعُ الأملُ ، و تتفاءلُ الحياةُ . وكلُّ إنسان يتمنى أنْ يكون أحدَ أفراد القافلة راسماً في مخيلته الطريق إلى الحريةِ، والشهادةِ ، والجنّةِ، وممهداً الطريقَ لمستقبل زاهر ،وأملٍ مشرق ،ونورٍ ساطع ،وحبٍّ أبدي ،وناشداً للأجيال لحنَ الحياة ، وشوقَ وطربَ القلوب لضيائها. وما تزالُ مسيرةُ آمالِ الأجيال تعيدُ ذاكرتها كلِّ سنة ؛لتذكّرَ المسلمين بما آلَ إليه بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وتطالبُهم بإصلاحِ قلوبهم ،وعقولِهم،ومجتمعاتِهم ،وتعيدُ لنا ذاكرةَ التضحيةِ ،والشهادةِ ، وتوقظ قلوبَنا وعقولَنا ؛ لدفاعِ عن الإسلام ، ووحدةِ المسلمين، وتبيّن لنا مؤامرةَ الأعداء ،فالتأريخ يعيد نفسه بين الحين والآخر .
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat