(سميت إحدى الفوهات على سطح القمر باسم -البيروني- اعترافا بعبقرية هذا الرجل. فمن هو البيروني؟)
هو محمد بن أحمد البيروني المكي الخوارزمي، ولد في خوارزم(أوزبكستان حاليا) في (2 ذو الحجة 362هـ /5 سبتمبر 973م) وتوفي في 29 جمادى الآخرة 440هـ/9 ديسمبر 1048م). وكان ذا مواهب شتى: فهو كاتب وفيلسوف وكيميائي وجغرافي ورحالة وموسوعي ورياضي ورسام خرائط وعالم فلك ومترجم وعالم انسان وفيزيائي ومنجّم ومؤرخ ولغوي ومختص في علم الهنديات وصيدلي وعالم نبات وطبيب وجيولوجي(عالم بطبقات الأرض). وقد عاش في زمن شديد الاضطراب، مما سبب له التنقل من مكان إل آخر، لكنه كان حريصا على بحوثه وما توصل إليه من علوم فكان ينقلها معه حيثما حل أو ارتحل. أما لقب (بطليموس العرب) فقد ينصرف إليه أو إلى البتاني.
وكان متقنا للغات الفارسية والخوارزمية والعبرية والسريانية والسنسكريتية والعربية. وكان معاصرا لأبن سينا (الشيخ الرئيس)، وله معه مراسلات ومسائل.
سافر البيروني من بلاده إلى الهند وبقي فيها أربعين سنة اطلع على أحوال الناس فيها وما كان عندهم من علوم. وقيل إن السلطان محمودا الغزنوي لما استولى على خوارزم، ألقى القبض عليه مع استاذه عبد الأول بن عبد الصمد الحكيم الذي اتهمه الغزنوي بالقرمطة فقتله، وأراد أن يقتل البيروني، ولكن قيل له ان أبا الريحان كان امام زمانه في علم النجوم، وإن الملوك لا يستغنون عنه فأخذه معه إلى بلاد الهند، فأقام بينهم وتعلم لغتهم واقتبس من علومهم. ثم أنه أقام في غزنة حتى مات بها.
من مؤلفاته القيمة التي تمتاز بالإحاطة الشاملة والبحث الدقيق، وقد قيل أنها تربو على 120 كتابا، (وقيل 146 كتابا ((الاثار الباقية عن القرون الخالية) و(تاريخ الهند) و(تحقيق ما للهند من مقولة مقبولة في العقل أو مرذولة) ويذكر فيه عرضا لديانات الهند ومذاهبها وأدبها وفلسفتها وعلومها وقوانينها. وله أيضا (القانون المسعودي) (وقد جاءت التسمية من تأليفه الكتاب للسلطان مسعود بن السلطان محمود الغزنوي) وهو في الهيئة والنجوم وقد سجّل فيه بالبرهان الهندسي قانونا يشبه قانون جريجوري نيوتن الذي ظهر بعده بستة قرون. ووضع فيه معادلة لاستخراج مقدار محيط الأرض، تُسمى لحد الآن (قاعدة البيروني). وقد اعترف العالم نيللينو بقياس البيروني لمحيط الأرض وعدّهُ من الأعمال العلمية المأثورة. والبيروني أول من أثبت حركة أوج الشمس، "وقال بأن الأرض تدور حول محورها، وبأن سرعة الضوء أعظم من سرعة الصوت بكثير"(بعلبكي، 1980).
ومن كتبه أيضا (الاستيعاب في صنعة الاسطرلاب) و(الجماهر في معرفة الجواهر) و(تاريخ الأمم الشرقية) و(الارشاد)في أحكام النجوم و(تحديد نهايات الأماكن لتصحيح مسافات المساكن) و(التفهيم لصناعة التنجيم) في الفلك و(استخراج الأوتار في الدائرة) في الهندسة.
وله في الأدب كتب منها (شرح شعر أبي تمام) و(مختار الأشعار والآثار). وقارن بين الفلسفة الفيثاغورية(نسبة إلى فيثاغورس) والافلاطونية والحكمة الهندية والمذاهب الصوفية. وقد امتدح الفلسفة اليونانية عندما قال في مقارنته بين فلسفة اليونان وفلسفة الهند إن الفلسفة الهندية لم تنجب فيلسوفا مثل سقراط. وهو يرى أن العلم اليقيني ينتج من أحاسيس متنوعة يربط بينها العقل بصورة منطقية.
لكنه صبّ عنايته على الرياضيات والفلك. وله محاولات في تثليث الزاوية، ومسائل لا يمكن حلها بالمسطرة والبركار، وتسمى (مسائل البيروني). ثم أنه قام بتعيين الكثافة النوعية لثمانية عشر معدنا وحجرا ثمينا.
أما بخصوص اطلاع البيروني على الأمم في زمانه، فيذكر أنه كان يقارن بين آراء الهنود وآراء اليونانيين فيما يخص النفس وخلودها والروح وتناسخ الأرواح وكيفية دفن الموتى لدى تلك الشعوب. كما أنه كان يقارن بين عقائد الهند وأساطيرهم وعقائد اليونان وأساطيرهم. هذا ناهيك عن مقارنة اللغات والألفاظ في اللغتين اليونانية والهندية. وثبت لديه أن الحروف انتقلت من الهند إلى اليونان، ثم زاد عليها اليونانيون بعض الحروف.
وقد قارن بين الطب الهندي والطب اليوناني والهندسة والفلك لديهما. كما قارن الشعر عند الأمتين. ثم قارن المدن اليونانية بالمدن الهندية. فعنده أن الهند درة الشرق واليونان درة الغرب.
ومما يذكر أن البيروني كان من ضمن مفكري المسلمين الذين تغلبوا على مشكلة كبيرة في الترجمة الأدبية إذ واجه المترجمون العرب مشكلة نشوء الآداب القديمة ولاسيما الإغريقية في حضن الأساطير. وهو ما كان كثيرون يظنون أنه لا يمكن الفصل بين الأسطورة والأدب. حيث عاد إلى جذور الأدب الاغريقي، أي الأساطير نفسها. وهو ما كان يتحاشاه غيره ظنا منهم أنها تتعارض مع الايمان بالتوحيد.
ونستنتج من ذلك أن البيروني " قد أظهر إلماما لا يستهان به فيما يتصل بالأسطورة الاغريقية والأدب الاغريقي"(عتمان، 2013: 342-3).
حاول البيروني التوفيق بين الأسطورة الاغريقية وعقيدة التوحيد الإسلامية. فكان يعتقد أن من كان يسميهم الوثنيون آلهة هم الملائكة، مستندا لما قاله افلاطون في احدى محاوراته. فقد كان زيوس مثلا عندهم يجمع بين الصفات البشرية وغير البشرية. ثم سادت فكرة التوفيق بين التراث الوافد والثقافة العربية، وبين الدين والفلسفة، وبين الأسطورة الوثنية والدين. فسارع كثيرون إلى إكساب المفاهيم الاغريقية معان إسلامية توحيدية. وقد عمّ ذلك الفلسفة، ثم امتد إلى الأدب. فمثلا وظف العرب المسلمون مصير أوديب في مسرحية سوفوكليس (أوديب ملكا) لخدمة الفكرة الإسلامية التي تقول إنه لا راد لقضاء الله، ولا بد للإنسان من أن يستسلم للقدر.
ومن الجدير بالذكر إن محاولة التوفيق بين عقيدة التوحيد الإسلامية والأسطورة الاغريقية تنطوي على محاذير. ويتجسد ذلك في كون الأخيرة لا تعرف الوحدانية، وإنما هي تعددية وثنية، وفي كون زيوس ليس خالقا لكل شيء، بل هو كبير الآلهة. كما أن آلهة الاغريق يتصفون بالناسوتية anthropomorphism فهم يتصرفون مثل البشر، ويعانون مثلهم، لكنهم خالدون على عكس البشر. وهذا ما جعل العرب المسلمين يحجمون عن ترجمة أشعار الإغريق الملحمية والدرامية على حد سواء، لأن تلك الأشعار تتخذ من هذه الرؤية الأسطورية للآلهة أساسا لها.
ومما يذكر عن دور البيروني في الترجمة أنه لما وصلت إلى عبد الرحمن الناصر نسخة أصلية من كتاب (النبات) لديوسقوريديس هدية من امبراطور الروم قسطنطين السابع سنة 334 هجرية= 948 ميلادية، قام بترجمتها الطبيب حسداي بن شبروط اليهودي، أوكل إلى البيروني التعليق على تلك الترجمة.
وللأسف لم يُكتب لجهود البيروني النجاح على المستوى العالمي إلا بعد قرون حين اطلع علماء الغرب على تلك الجهود واستثمروها في الدراسة والتقصي.
المصادر:
- الأمين، حسن 1987 المستدركات على أعيان االشيعة. بيروت: دار التعارف.
- بعلبكي، منير، 1980 موسوعة المورد المجلد الثاني. بيروت: دار العلم للملايين.
- الزركلي، خير الدين 2007 الأعلام: قاموس تراجم لأشهر الرجال والنساء من العرب والمستعربين والمستشرقين| الجزء الخامس. بيروت: دار العالم للملايين.
- عتمان، أحمد 2013 المنجز العربي الاسلامي في الترجمة وحوار الثقافات من بغداد إلى طليطلة. القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب.
- الموسوعة العربية الميسرة 2001(الطبعة الثانية) المجلد الثاني. بيروت: دار الجيل.
قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat