صفحة الكاتب : حامد كماش آل حسين

مقالات في مناقب المرتضى 20. لقب «سيد الثقلين»:
حامد كماش آل حسين

المقالات لا تُعبر عن وجهة نظر الموقع، وإنما تعبر عن رأي الكاتب.

مقدمة:

لابد من الإشارة إننا في هذه المقالات ليس الغرض منها أضافة شيء جديد بخصوص المناقب والفضائل الخاصة بالإمام علي «عليه السلام» أو نأتي بقراءة جديدة لها، وإنما الغرض منها هو ذكر وتوضيح وأثبات تلك المناقب والفضائل ورفع بعض الشبهات عنها وكذلك رد من يحاول تفريغ تلك المناقب من خصوصيتها ومضمونها، وذلك بالاستعانة بمختلف المصادر والنقل عنها.

ومن المعلوم ان ألقاب وفضائل أمير المؤمنين علي «عليه السلام» بلغت من الكثرة والشهرة حداً لم يتمكن أعدى أعدائه من إنكارها، رغم كل الجهود التي بذلت في ذلك.

- قال الخليل بن أحمد الفراهيدي وقد سُئل عن الإمام علي «عليه السلام»: ((ماذا أقول في رجل أخفى أعداؤه فضائله حسداً، وأخفاها محبوه خوفاً، وظهر من بين ذين وذين ما ملأ الخافقين)).(1)

- وقال احمد بن حنبل عن الإمام علي «عليه السلام»: ((لم يرد في حق أحد من الصحابة بالأسانيد الحسان ما جاء في علي)).(2)

ونتيجة لعدم إمكانية إخفاء هذه الفضائل حاولوا أن يتقاسموها، وينحلوها الى الآخرين، حتى لا تكون خصوصية للإمام علي «عليه السلام»، وهذا دليل على أن كل فضيلة لوحدها تمثل مقاماً رفيعاً، ورغم كل هذه المحاولات بقي الإمام علي «عليه السلام» صاحب الخصوصيات التي لم يشاركه فيها أحد، وقد تكلمنا في مقالات سابقة عن:

1. لقب «أمير المؤمنين».

2. لقب «قائد الغر المحجلين».

3. لقب «يعسوب الدين».

4. لقب «أبو تراب».

5. لقب «إمام المتقين».

6. منقبة «وليد الكعبة».

7. لقب ومنقبة وصفه بـــ«السيد».

8. منقبة «قسيم الجنة والنار».

9. منقبة «أول من أسلم».

10. لقب «الصديق».

11. لقب «الفاروق».

12. لقب «سيف الله المسلول».

13. لقب «ساقي الحوض».

14. لقب «ذي النورين».

15. لقب «باب مدينة العلم».

16. لقب «صاحب بيعة الغدير».

17. لقب «حامل لواء الحمد».

18. منقبة «علي مع الحق والحق مع علي».

19. منقبة «ان حب الإمام علي إيمان وبغضه نفاق»:

واليوم نتكلم عن لقب «سيد الثقلين»:

تمهيد:

بداية نقول أن الإمام علي «عليه السلام» هو سيد الثقلين بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» كونه نفس رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» بدليل آية المباهلة، وهي قوله تعالى:

((فمن حاجك فيه من بعد ما جاءك من العلم فقل تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنت الله على الكاذبين))(3)

وجاء وصف «سيد الثقلين» اشارة الى حديث الثقلين الخاص بأهل البيت «عليهم السلام»، والمعلوم ان الإمام علي «عليه السلام» هو من أهل البيت «عليهم السلام» وهو سيد أهل البيت «عليهم السلام» بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم»، ونص حديث الثقلين:

قال رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم»: ((إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي، الثقلين، وأحدهما أكبر من الآخر: كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا، حتى يردا عليَّ الحوض)).(4)

وحديث الثقلين من الأحاديث الصحيحة الثابتة، بل هو متواتر، رواه أكثر من ثلاثين صحابياً، وقد تكرر هذا القول من رسول الله «صلى الله عليه وآله» في مواطن متعددة.

قال ابن حجر:

((ثم اعلم أن لحديث التمسك بذلك طرقاً كثيرة وردت عن نيف وعشرين صحابياً، ومر له طرق مبسوطة في حادي عشر الشبه، وفي بعض تلك الطرق أنه قال ذلك بحجة الوداع بعرفة، وفي أخرى أنه قاله بالمدينة في مرضه وقد امتلأت الحجرة بأصحابه، وفي أخرى أنه قال ذلك بغدير خم، وفي أخرى أنه قاله لما قام خطيباً بعد انصرافه من الطائف كما مر، ولا تنافي إذ لا مانع من أنه كرر عليهم ذلك في تلك المواطن وغيرها، اهتماماً بشأن الكتاب العزيز والعترة الطاهرة)).(5)

مفهوم حديث الثقلين:

أولاً: في اللغة:

هذا الحديث مشهور بـــ«حديث الثَقَليْن»، وثَقَلَيْن، تثنية «ثَقَل»، وكلمة «ثَقَل» في اللغة يعني ما يحمله المسافر معه.

ويذكر ان عدة من المحدثين وأهل اللغة منهم الفیروز آبادي، قد قرؤا هذه الكلمة هکذا «ثِقْلَيْن» يعني بكسر الثاء وسكون القاف، فتكون تثنية «ثِقْل»، وكلمة «ثِقْل» في اللغة بمعنى الثقل، كعنب: ضد الخفة، والجمع: ثقال وثُقل، بالضم، و«الثَقل»، محركة متاع المسافر وحشمه، وكل شيء نفيس مصون، ومنه الحديث «إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي».(6)

وملخص القول ان الثقلين تقرأ:

- أما: (إني تارك فيكم الثَقَلين)، بالفتح فيكون الثَقَلين تثنية ثَقَل.

- أو: (إني تارك فيكم الثِّقْلين)، بالكسر فيكون الثِّقْلين تثنية للثِقْل.

ولعل الاظهر كون الكلمة محركة، أي «إني تارك فيكم الثَّقَلين» بالفتح على أن تكون تثنية للثَقَل.

وترجيح ضبط الاول «بالفتح» على ضبط الثاني «بالكسر» لأن ضبط الأول «ثَقَلَيْن» أنسب بالشرائط التي قالها رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم»، لأن المسافر الذي يسافر من ديار الى ديار اخرى - لا سيما اذا لم يقصد الرجوع الى المبدأ- يأخذ اثاثه الذي يحتاجها للمعیشة معه، وحيث أن الحمل والنقل آن ذاك يحصل بصعوبة ومشقة وانتقال تمام الاثاث من بلد الى بلد لا يمكن، فعند الرحيل ينقلون أثمن الاشياء واقيمها التي يملكونها.

فرسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» في مقدمة «حديث الثقلين » يقول هكذا:

كأني قد دعيت فأجبت، وبناء على نقل البعض قال: اني اوشك ان ادعى فأجيب، فرسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» يخبر عن قرب رحلته وسفره الى الآخرة ثم یقول: «وإني تارك»، فسفره هذه يقتضى أن يأخذ معه أعز الأشياء وأثمنها ولكن بمقتضى رأفته ولطفه الدائم بالأمة الاسلامية، وحيث انه يطمع ببقاء الدين الحنيف واستقامة الشريعة، فيورّث للأمة أثمن الأشياء التي يعتنى بها ويتوجه إليها على طيلة حياته المباركة ثم وصى الأمة ان تعرف قدرهما ولا تبتعد عنهما، لأن هداهم الأبدي مرهون بالتمسك بهذين اللؤلؤين الثمينين القيمين التي استخلفهم رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» بين الامة بمقتضى لطفه الخاص.

فعلى ضوء ما مضى من التوضيح، ضبط كلمة «ثَقَلين» بالفتح يكون انسب، ولو أن قرائته الاخرى وافية بالمقصود والمعنى.

ثانياً: في الاصطلاح:

كيفية دلالة الألفاظ مثل «الأخذ» و «التمسّك» و «الاعتصام» على هذا النمط حيث انها تدل على وجوب التبعية المحضة والطاعة المطلقة بلا قيد ولا شرط فمفاد الحديث لا جرم ان يكون الإمامة والخلافة، لأنه لا ريب ولا شك ان بين الطاعة المطلقة والإمامة والخلافة ملازمة وتلاحم لا يقبل الإنكار.

واذا راجعنا كلمات الشارحين لـــ «حديث الثقلين» من الأعلام والمشاهير لأهل السنة والجماعة، مثل: المناوي في «شرح جامع الصغير»، ملاّ علي القاري في «مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح»، وأيضاً ما في باقي الكتب مثل «نسيم الرياض» و«شرح المواهب اللَّدُنية» و«السراج المنير في شرح الجامع الصغير» و«الصواعق المحرقة» و«جواهر العقدين» تتبين هذه الحقيقة بوضوح ، وهو أن مفاد «حديث الثقلين» عبارة عن حث الأمة وحضها بأجمعها على التبعية من سيرة آل بيت رسول الله «عليهم السلام» وحجية سيرتهم ومنهجهم في تمام المسائل الدينية والدنيوية وما هو يؤثر في الانسان لإدارة حياته الفردية والاجتماعية وفي كلام واحد ان يجعلهم قادةً له في جميع أموره.

ذكر المناوي في فيض القدير:

((.. عن عبد الله بن زيد عن أبيه أنه «عليه الصلاة والسلام» قال: من أحب أن ينسأ له في أجله وأن يمتنع بما خلفه الله فليخلفني في أهلي خلافة حسنة فمن لم يخلفني فيهم بتر عمره وورد علي يوم القيامة مسوداً وجهه)).(7)

سبب التسمية:

وسبب تسمية هذا الحديث بالثقلين فيعود إلى وجود كلمة «الثقلين» فيه، والمراد من الثقلين هنا هو:

- القرآن الكريم الذي هو الثقل الأكبر.

- العترة النبوية الطاهرة أهل البيت «عليهم السلام» الذين هم الثقل الأصغر.

من أقوال العلماء:

1. قال ابن منظور:

((قال ثعلب: سميا ثقلين لأن الأخذ بهما ثقيل والعمل بهما ثقيل، قال: وأصل الثَّقَل أن العرب تقول لكل شيء نفيس خطير مصون: ثَقَل، فسماهما ثقلين إعظاماً لقدرهما وتفخيماً لشأنهما)).(8)

2. قال ابن حجر:

((سمى رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» القرآن وعترته «وهي الأهل والنسل والرهط الأدنون» ثقلين، لأن الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن العلوم اللدنية، والأسرار والحكم العلية، والأحكام الشرعية، ولذا حث «صلى الله عليه وآله وسلم» على الاقتداء والتمسك بهم، والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت، وقيل: سميا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما)).(9)

3. قال الزمخشري:

((الثقل المتاع المحمول على الدابة، وإنما قيل للجن والإنس الثقلان، لأنهما ثقال الأرض، فكأنهما أثقلاها، وقد شبَّه بهما الكتاب والعترة في أن الدين يستصلح بهما ويعمر كما عمرت الدنيا بالثقلين)).(10)

معنى العترة:

قال ابن منظور في لسان العرب:

((وعترة الرجل: أقرباؤه من ولد وغيره ..... وقال أبو عبيد وغيره: عترة الرجل وأسرته وفصيلته رهطه الأدنون ، (قال) ابن الأثير: عترة الرجل أخص أقاربه. وقال ابن الأعرابي: العترة ولد الرجل وذريته وعقبه من صلبه، قال: فعترة النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ولد فاطمة البتول، عليها السلام، وروي عن أبي سعيد قال: العترة ساق الشجرة، قال: وعترة النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» عبد المطلب ولده، وقيل: عترته أهل بيته الأقربون وهم أولاده وعلي وأولاده، وقيل: عترته الأقربون والأبعدون منهم...)).(11)

نلاحظ من هذه التعريفات أنهم يحاولون ان يظهروا وكأن مفهوم «العترة» مبهماً مع إن مسألة بيان المقصود بالعترة لا تحتمل الإبهام من قبل النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» وإلا لكان ذكرها كإهمالها، ولا سيما مع علم النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» أن الأمة ستختلف من بعده إلى فرق وطوائف كثيرة.

ولذا فسر النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» المراد بعترته في بعض الأحاديث بأنهم أهل بيته، وأن أهل البيت هم علي وفاطمة وأبناؤهما «عليهم السلام»، ولذا كان النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» في غنى عن بيانهم هنا، لأنه معلوم عندهم، وواضح لديهم لذلك لا تجد في كل طرق حديث الثقلين سائلاً يسأل: مَن هم عترة النبي «صلى الله عليه وآله وسلم»، أو من هم أهل بيته «صلى الله عليه وآله وسلم».

والأحاديث التي دلت على أن المراد بأهل بيته «صلى الله عليه وآله وسلم» هم علي وفاطمة وأبناؤهما «عليهم السلام» كثيرة جداً منها:

1. عن سعد بن أبي وقاص أنه قال في حديث طويل: ((... ولما نزلت هذه الآية «فقل تعالوا ندعُ أبناءنا وأبناءكم»،(12) دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم علياً وفاطمة وحسناً وحسيناً، فقال: اللهم هؤلاء أهلي)).(13)

2. عن عائشة، قالت: ((خرج النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» وعليه مِرْط مُرَحَّل(14) من شعر أسود، فجاء الحسن بن علي فأدخله، ثم جاء الحسين فدخل معه، ثم جاءت فاطمة فأدخلها، ثم جاء علي فأدخله، ثم قال: «إنما يريد الله ليُذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهِّركم تطهيراً»(15))).(16)

دلالات الحديث:

تضمن حديث الثقلين مجموعة من الدلالات لابد من الإشارة لها ولكون الشيخ أحمد محمد الطفيلي قد ذكر في بحثه عن «حديث الثقلين» عدة دلالات ووجوه لحديث الثقلين ولكون ما ذكره كانت دلالات ونقاط جامعة وموسعة تغطي بعض الأقوال التي تشير لدلالات الحديث بشكل مختصر لذلك أرتأينا هنا ان نشير الى تلك الدلالات للحديث من خلال النقاط التالية:

1. عرف رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» في حديث الثقلين الكتاب والعترة بأنهما ثقلان ووجودان نفيسان، وخليفتان للأمة، وأمرها أن تذكر الله فيهما، وأوصاها أن ترعى الكتاب والعترة معا بعده، وأن الأمة مسؤولة غدا عن هذين الثقلين عند الله ورسوله يوم القيامة.

2. دلالته على عصمة أهل البيت، وليس معنى العصمة إلا استحالة صدور الذنب عن صاحبها عادة، ودلالته على عصمة العترة لاقترانهم بالكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وتصريحه بعدم افتراقهم عنه، ومن البديهي أن صدور أية مخالفة للشريعة، سواء أكانت عن عمد أم سهو أم غفلة، تعتبر افتراقا عن القرآن، والحديث صريح في عدم افتراقهما حتى يردا الحوض، على أن تجويز الافتراق عليهم بمخالفة الكتاب وصدور الذنب منهم معناه تجويز للكذب على الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله» الذي لا ينطق عن الهوى، بل عن الله عزوجل قد أخبر بعدم افتراقهما وقد أجمعت الأمة على عدم تجويز الكذب عليه في مقام التبليغ والإخبار، وبما أن القرآن لا يأتيه الباطل مطلقا كذلك عترة النبي «صلى الله عليه وآله» لأنهم عدل للكتاب.

3. بين النبي الأكرم أن اشتراط النجاة من الضلال التمسك بالكتاب والعترة، ولا يكفي التمسك بأحدهما، وأن من يقول حسبنا كتاب الله فقد خالف حديث الثقلين المتواتر القطعي الصدور، وذلك لأن من فارق التمسك بأحدهما فقد فارقهما، فلزوم التمسك بهما معا لا بواحد منهما منعا للضلالة.

4. وبالطبع أن معنى التمسك بهما، هو الاعتصام بهما والأخذ بتعاليمهما، ووجوب الرجوع إليهما، واتباعهما معا يوجب الهداية.

5. التمسك بهما يعني أنهما معاً يشكلان وحدة مترابطة بكامل الأحكام والتعاليم التي جاء بها الإسلام إلى الحياة، ولا يتم الأمن والأمان والسعادة في الدارين إلا بهما قولاً وعملاً وتقريراً.

6. بين النبي الأكرم أن العترة عدل للقرآن، ثم أن مقتضى العدلية هي اتحاد صفاتهما، فإذا كان الكتاب العزيز تبياناً لكل شيء، ولا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وكان الكتاب نوراً وهدى وغير ذلك، كذلك تثبت الصفات للعدل الآخر (العترة) أيضاً، ومن ثم يجوز لنا أن نسم كل منهما باسم الآخر، فهم القرآن الناطق، والكتاب هو القرآن الصامت الذي يعتبر كل منهما إماماً لمن استهدى وعمل به.

7. بين النبي الأكرم أن التمسك بهما يوجب الاعتصام من الهلكة، كما هو مقتضى قوله «صلى الله عليه وآله»: فلا تقدموهما فتهلكوا.

8. أن التمسك بهما يوجب الاعتصام من الزلل والانحراف والعمى، كما هو مقتضى قوله «صلى الله عليه وآله»: إن تمسكتم بهما(17) فلن تضلوا ولن تزلوا أبدا.(18)

9. (ما إن تمسكتم بهما): لم يقيد التمسك بمورد معين أو في مجال ما، بل جعله مطلقاً حتى يشمل كل شيء، ومطلق الأمور وخصوصاً أن القرآن جامع لكل العلوم فالعترة جامعة لكل العلوم.

10. (ما إن تمسكتم بهما): يقيد عدم الرجوع إلى غيرهما، وأن الاحتجاج لا يجوز بغيرهما، وأن الإتباع لهما يثبت المحبة والمودة لله عزوجل، لقوله تعالى: ((قل إن كنتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم والله غفور رحيم)).(19)

11. لا يتم التمسك بالكتاب والعترة «عليهم السلام» من دون الاعتقاد بتنصيبهما من قبل الله تعالى، لا بالشورى، كما هو مقتضى قوله «صلى الله عليه وآله»: (إني مخلف فيكم....)(20) وهو قول الله لأنه لا ينطق عن الهوى.

12. إن التمسك بهما يقيد عدم جواز التقدم والتأخر عنهم لما ثبت بالنص أن المتقدم لهم مارق والمتأخر عنهم زاهق واللازم لهم لاحق(21).

13. مصدر التشريع هو الكتاب فيكون التمسك بحجية أقواله ونصوصه ثابتاً، كذلك ثبت التمسك بحجية أقوال العترة، كما هو مقتضى قوله «صلى الله عليه وآله»: ما إن تمسكتم بهما.

14. بقاء العترة إلى جنب الكتاب إلى يوم القيامة: أي لا يخلو منهما زمان من الأزمنة ماداما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض، وهي كناية عن بقائهما إلى يوم القيامة.

15. دلالة الحديث على تميز العترة بالعلم أي بكل ما يتصل بالشريعة وغيرها، كما يدل على ذلك اقترانهم بالكتاب الذي لا يغادر صغيرة ولا كبيرة ولقوله «صلى الله عليه وآله»: (ولا تعلموهم فإنهم اعلم منكم)، وبعبارة أخرى فالحديث يدل على أن العترة أعلم الناس بكل ما يتصل بالشريعة وغيرها فيجب التعلم منهم.

16. أن الاستفادة المستقلة من الكتاب العزيز في رفع المتشابه من دون توسط العترة وهم الراسخون غير ممكن، إذ يجب الاستهداء بهم في رفع المتشابه.

17. إن المعية بين الكتاب والعترة مطلقة لا تنفصل مؤبدة، كما هو مقتضى قوله «صلى الله عليه وآله»: (حتى يردا علي الحوض) وهو يشمل جميع الأزمنة جميع النشآت الدنيوية والبرزخية والبعث وتطاير الكتب ودخول الجنة وعند الحوض.

18. قوله «صلى الله عليه وآله» (إني مخلف فيكم) يدل دلالة صريحة وظاهرة في إثبات الإمامة والخلافة للكتاب والعترة «عليهم السلام»، فلابد من بسط السلطة لهما لأجل الحفاظ على الأحكام والتعاليم وإقامة العدل والحدود وغيرهما؛ والحديث يثبت الرجوع إليهم في القيادة الفقهية والسياسية.

19. الكتاب فيه تبيان لكل شيء بدليل قوله تعالى: (ونزلنا عليك الكتاب تبيانا لكل شي‏ء)(22)، فلابد أن يكون موجوداً من يصل إلى هذا البيان العظيم وهم العترة الذين أوتوا العلم وهم المحيطون به إحاطة علمية تامة، فهم الراسخون الموجودون طالما وجد القرآن.

20. قوله «صلى الله عليه وآله»: (لن يفترقا) تدل على عصمة العترة، كذلك تدل على كل عصر وزمان له إمام وقائد، يلازم الكتاب، وفي عصرنا لابد من وجود إمام مهدي منتظر يملأ الأرض قسطا وعدلا بعدما ملأت ظلما وجورا، كما هو مقتضى ما تفيده كلمة (لن) التأبيدية لكل زمان.

21. بما أن للقرآن رقياً روحياً ووجوداً تكوينياً غيبياً لا يصل إليه إلا العترة المطهرة، إذن إن المؤهل لنيل هذه الرتبة العلمية العالية بسبب الطهارة والعصمة تختص بالعترة.

22. أن المراد من الحوض هو حوض يوم القيامة وكما يستفاد من الورود على النبي «صلى الله عليه وآله»، كما هو مقتضى قوله «صلى الله عليه وآله»: (وسيردا علي الحوض)، إنه أعلى مكانة ومنزلة ومقاما، إذ أنه المرجع والمنتهى وهو المبدأ، والمتمسك والمعتصم بهما يكون معهما في أعلى مرتبة على الحوض مع النبي «صلى الله عليه وآله» وهو المستفاد من قوله تعالى: (عسى أن يبعثك ربك مقاما محمودا) وهناك غير هذه الأمور يمكن استفادتها من حديث الثقلين،....(23)

الأحاديث:

1. عن زيد بن أرقم في حديث طويل: ((أن النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» قال: أما بعد، ألا أيها الناس، فإنما أنا بشر، يوشك أن يأتي رسول ربّي فأجيب، وأنا تارك فيكم ثقلين: أولهما كتاب الله فيه الهدى والنور، فخذوا بكتاب الله واستمسكوا به، فحث على كتاب الله ورغب فيه، ثم قال: وأهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي، أذكركم الله في أهل بيتي)).(24)

2. عن أبي سعيد الخدري ، قال: ((قال رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم»: إني تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا بعدي الثقلين: أحدهما أكبر من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ألا وإنهما لن يفترقا حتى يردا علي الحوض)).(25)

3. عن زيد بن أرقم، قال: (نزل رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» بين مكة والمدينة عند شجرات خمس دوحات عظام(26)، فكنس الناس ما تحت الشجرات، ثم راح رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» عشية فصلى، ثم قام خطيباً، فحمد الله وأثنى عليه وذكر ووعظ ما شاء الله أن يقول، ثم قال: أيها الناس، إني تارك فيكم أمرين لن تضلوا إن اتبعتموهما، وهما كتاب الله وأهل بيتي عترتي...)).(27)

4. عن جابر بن عبد الله، قال: ((رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» في حجته يوم عرفة، وهو على ناقته القصواء يخطب، فسمعته يقول: يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا: كتاب الله وعترتي أهل بيتي)).(28)

5. عن زيد بن أرقم وأبي سعيد، قالا: ((قال رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم»: إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما)).(29)

6. عن زيد بن أرقم أيضاً، قال: ((قال رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم»: إني تارك فيكم الثقلين: كتاب الله وعترتي أهل بيتي، وإنهما لن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)).(30)

فائدة:

هناك رواية لحديث الثقلين ضعيفة يتمسك بها البعض وهي رواية: ((قال رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم»: إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، كتاب الله وسنتي))

وقد ورد حديث كتاب الله وسنة نبيه أو «سنتي» في بعض المصادر وبعدة طرق نقتصر بذكر المشهور دون الإشارة الى من ذكره بلا إسناد سوى ما رواه مالك في موطئه بلاغاً، وهو أقدم الكتب الحديثية التي ذكرته ولكن من دون سند، حيث أن مالك ذكر بعض الأحاديث في موطئه من دون اسناد وقال فيها مباشرة: بلغنا عن رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» أنه قال، وهذا الطريق غير ثابت ولا يحتج به بالإجماع حيث أنه قد يكون موضوعاً مكذوباً.

وحكم الشيخ المحدث السلفي الألباني على هذا الطريق بأنه معضل، وهو ما سقط من سنده اثنان فأكثر، أما بقية الطرق التي لها إسناد فهي:

1. رواية الحاكم في المستدرك على الصحيحين:

((حدثنا: أبو بكر أحمد بن اسحاق الفقيه، أنبأ: العباس بن الفضل الأسفاطي، ثنا: إسماعيل بن أبي أويس، وأخبرني: إسماعيل محمد بن الفضل الشعراني، ثنا: جدي، عن ثور زيد الديلي، عن عكرمة، عن ابن عباس: «أن رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» خطب الناس في حجة الوداع، فقال: قد يئس الشيطان بأن يعبد بأرضكم، ولكنه رضي أن يطاع فيما سوى ذلك مما تحاقرون من أعمالكم، فاحذروا يا أيها الناس، إني قد تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبدا كتاب الله وسنة نبيه)).(31)

وإسناده تالف:

- ففيه عكرمة المرمي بالكذب والمتهم بكونه من الخوارج.

- وفيه أبو أويس المتهم بالكذب أيضاً,

- وكذلك أبنه إسماعيل أبن أبي أويس متهم بالكذب,

- وإن حاول البعض الدفاع عنهم لكونه من رواة الصحيح.

2. رواية الحاكم في المستدرك على الصحيحين:

((أخبرنا: أبو بكر بن اسحاق الفقيه، أنبأ: محمد بن عيسى بن السكن الواسطي، ثنا: داود بن عمرو الضبي، ثنا: صالح بن موسى الطلحي، عن عبد العزيز بن رفيع، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، قال : «قال رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم»: إني قد تركت فيكم شيئين لن تضلوا بعدهما: كتاب الله، وسنتي، ولن يتفرقا حتى يردا علي الحوض)).(32)

وهذا الإسناد تالف أيضاً:

حيث أن فيه صالح بن موسى الطلحي وهو متفق على ضعفه حيث:

- قال أبن معين: ليس بشيء، وفي رواية: ليس بثقة.

- وقال أبو حاتم عنه: منكر الحديث جداً كثير المناكير عن الثقات.

- وقال البخاري: منكر الحديث.

- وقال النسائي: لا يكتب حديثه، وقال عنه في رواية أخرى: متروك الحديث

- وقال أبو نعيم عنه: متروك يروي المناكير.

ثم إن هذا الطريق للحديث قد يكون محرفاً أو مصحفاً فقد رواه البزار بنفس الإسناد وقال فيه «صلى الله عليه وآله وسلم»: خلفت فيكم كتاب الله ونسبي ... وليس «وسنتي».

3. رواية الخطيب البغدادي:

((أنا أبو طالب محمد بن علي بن إبراهيم البيضاوي، أنا محمد بن العباس الخزاز، نا أبو بكر بن المجدد، نا عبد الله بن عمر، حدثني شعيب هو ابن إبراهيم التميمي، نا سيف «يعني ابن عمر»، عن أبان بن إسحاق الأسدي، عن الصباح بن محمد، عن أبي حازم، عن أبي سعيد الخدري قال: «خرج رسول الله «صلى الله عليه وسلم» علينا في مرضه الذي توفي فيه ونحن في صلاة الغداة فذهب أبو بكر ليتأخر فأشار إليه مكانك وصلى مع الناس فلما انصرف حمد الله وأثنى عليه ثم قال: يا أيها الناس إني قد تركت فيكم الثقلين: كتاب الله وسنتي فاستنطقوا القرآن بسنتي ولا تعسفوه فإنه لن تعمى أبصاركم ولن تزل أقدامكم ولن تقصر أيديكم ما أخذتم بهما)).(33)

وإسناده تالف أيضاً:

حــيث أن فيه سيف بن عمر التميمي الذي كان مشهوراً بالكــذب ووضع الحـديث واختلاق الحكايات والأحداث والأشخاص حيث:

- قال أبو حاتم: متروك الحديث.

- وقال أبو داود: ليس بشيء.

- وقال ابن حبان: يروي الموضوعات عن الأثبات.

- ونقل إبن حبان عن ابن نمير قوله فيه: وكان سيف يضع الحديث وكان قد اتهم بالزندقة.

- وقال الدار القطني عنه: متروك.

- وقال الحاكم فيه: إتهم بالزندقة وهو في الرواية ساقط.

- وقال أبو نعيم: متهم في دينه مرمي بالزندقة ساقط الحديث لا شيء.

بالإضافة إلى وجود شخص ضعيف آخر في السند وهو شعيب بن إبراهيم التميمي.

4. رواية أبو الشيخ الأصفهاني في طبقات المحدثين بأصبهان:

((حدثنا أحمد بن سعيد، قال: ثنا عبد الواحد، قال: ثنا هشام، عن يزيد الرقاشي، عن أنس بن مالك، قال: «قال رسول الله «صلى الله عليه وسلم»: « لقد تركت فيكم ما إن أخذتم به لن تضلوا، كتاب الله وسنة نبيه»)).(34)

وسنده تالف أيضاً، حيث أنه فيه:

‌أ. هشام بن سلمان: وقد ضعفه ابن حبان فقال: منكر الحديث جداً ينفرد عن الثقات بالمناكير الكثيرة وعن الضعفاء بالأشياء المقلوبة على قلة روايته، لا يجوز الاحتجاج به فيما وافق الثقات فكيف إذا انفرد، وروايته هنا عن يزيد الرقاشي فقال ابن عدي فيه: وأحاديثه عن يزيد (الرقاشي) غير محفوظة، وضعفه أيضاً موسى بن إسماعيل.

‌ب. وفي سنده أيضاً يزيد الرقاشي وهو مطعون به جداً حيث:

- قال شعبة عنه: لئن أقطع الطريق أحب إلي من أن أروي عن يزيد الرقاشي، وفي رواية أخرى قال شعبة: لئن أزني أحب إلي من أن أروي عن يزيد الرقاشي.

- وقال عنه الفسوي وأبو أحمد الحاكم: متروك الحديث، وكذا قال النسائي، ولكنه في رواية ثانية قال عنه: ليس بثقة وضعفه أبن مسعود والدارقطني والبرقاني وابن معين أيضاً.

فتبين بأن هذه الرواية ليس لها إسناد يفرح به أو تقوم به حجة وإن تعددت طرقه حيث أن طرقه أحدها أضعف من الآخر وكلها فيها متهمون بالكذب فلا يزيد الحديث والحال هذه إلا ضعفاً.(35)

يقول التيجاني السماوي:

وهذه كلمة قيمة للتيجاني السماوي بخصوص رواية «كتاب الله وسنتي» ذكرها في كتابه «الشيعة هم أهل السنة» ننقلها بطولها لإكمال الفائدة:

((ولابد من الملاحظة بأن حديث «كتاب الله وسنتي» لا يصح حتى عند «أهل السنة والجماعة»: لأنهم رووا في صحاحهم بأن النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» نهاهم عن كتابتها، إذا كان حديث النهي صحيحاً، فكيف يجوز للنبي «صلى الله عليه وآله وسلم» أن يقول: تركت فيكم سنتي وهي غير مكتوبة ولا معلومة:

- ثم لو كان حديث «كتاب الله وسنتي» صحيحاً، فكيف جاز لعمر بن الخطاب أن يرد على رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» ويقول: حسبنا كتاب الله.

- وإذا كان الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» ترك سنة مكتوبة، فكيف جاز لأبي بكر وعمر حرقها ومنعها من الناس.

- وإذا كان حديث «كتاب الله وسنتي» صحيحاً، فلماذا يخطب أبو بكر بعد وفاة النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» ويقول: لا تحدثوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله فاستحلوا حلاله وحرموا حرامه.(36)

- وإذا كان حديث «كتاب الله وسنتي» صحيحاً، فلماذا خالفها أبو بكر في قتال مانعي الزكاة وقد قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: من قال لا إله إلا لله عصم مني دمه وماله وحسابه على الله.

- وإذا كان حديث «كتاب الله سنتي» صحيحاً، فكيف جاز لأبي بكر وعمر ومن وافقهما من الصحابة أن يستبيحوا حرمة الزهراء ويهجموا على بيتها مهددين بحرقها بمن فيها، ألم يسمعوا قول النبي فيها: «فاطمة بضعة مني من أغضبها فقد أغضبني ومن أذاها فقد أذاني» بلى والله لقد سمعوها ووعوها، ألم يسمعوا قول الله تعالى: «قل لا أسألكم عليه أجراً إلا المودة في القربى»،(37) التي نزلت فيها وفي بعلها وولديها، فهل كانت مودة أهل البيت «عليه السلام» هي ترويعهم وتهديدهم بالحرق، وضغط الباب على بطن فاطمة «عليه السلام» حتى أسقطت جنينها بأبي هي وأمي.

- وإذا كان حديث «كتاب الله وسنتي» صحيحاً، فكيف استحل معاوية والصحابة الذين بايعوه وساروا في ركابه أن يلعنوا علياً ويسبوه على المنابر طيلة حكم بني أمية، ألم يسمعوا أمر الله لهم بأن يصلوا عليه كما يصلون على النبي، ألم يسمعوا قول النبي صلى الله عليه وآله وسلم: «من سب عليا فقد سبني، ومن سبني فقد سب الله».(38)

- وإذا كان حديث «كتاب الله وسنتي» صحيحاً، فلماذا غابت هذه السنة على أكثر الصحابة فجهلوها وأفتوا في الأحكام بآرائهم، وكذلك فعل أئمة المذاهب الأربعة الذين التجأوا للقياس والاجتهاد، والإجماع وسد باب الذرائع، والمصالح المرسلة والاستصحاب وصوافي الأمراء وأخف الضررين وغير ذلك.(39)

- فإذا كان الرسول «صلى الله عليه وآله وسلم» قد ترك «كتاب الله وسنة نبيه» ليعصمان الناس من الضلالة، فلا داعي لكل هذه الأمور التي ابتدعها «أهل السنة والجماعة» فكل بدعة ضلالة وكل ضلالة في النار كما جاء في الحديث الشريف ...

ثم إن العقلاء وأهل المعرفة، يلقون باللوم على النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» الذي أهمل سنته ولم يعتن بها ولم يأمر بتدوينها وحفظها ومن ثم صيانتها من التحريف والاختلاف والوضع والاختلاق، ثم يقول للناس: «إني تارك فيكم الثقلين ما إن تمسكتم بهما لن تضلوا بعدي، كتاب الله وسنتي».

أما إذا قيل لهؤلاء العقلاء بأنه نهاهم عن كتابتها فسيكون عند ذلك هزؤاً، لأن ذلك ليس من أفعال الحكماء، إذ كيف ينهى المسلمين عن كتابة سنته، ثم يقول لهم: تركت فيكم سنتي.

أضف إلى كل ما تقدم بأن كتاب الله المجيد، إذا أضفنا إليه السنة النبوية التي كتبها المسلمون عبر القرون، فإن فيها الناسخ والمنسوخ وفيها الخاص والعام وفيها المحكم والمتشابه، فهي شقيقة القرآن، غير أن القرآن كله صحيح لأن الله سبحانه تكفل بحفظه ولأنه مكتوب، أما السنة ففيها المكذوب أكثر من الصحيح، فالسنة النبوية هي قبل كل شيء محتاجة إلى المعصوم الذي يدل على صحيحها ويطرح كل ما وضع فيها، وغير المعصوم لا يقدر على شيء من ذلك ولو كان عالماً علامة.

كما أن «القرآن والسنة» معاً يفترقان إلى عالم متبحر عارف بكل أحكامهما مطلع على أسرارهما، لكي يبين للناس من بعد النبي ما اختلفوا فيه وما جهلوه، ألم تر أن الله سبحانه أشار إلى أن القرآن الكريم يفتقر إلى مبين، فقال جل وعلا: «وأنزلنا إليك الذكر لتبين للناس ما نزل إليهم»(40)، فلو لم يكن النبي يبين للناس ما نزل إليهم، لم يكونوا ليعرفوا أحكام الله ولو نزل القرآن بلغتهم، وهذا أمر بديهي يعرفه كل الناس، ورغم نزول القرآن بفرائض الصلاة، والزكاة، والصوم، والحج، فالمسلمون في حاجة لبيان النبي «صلى الله عليه وآله وسلم» فهو الذي أوضح كيفية أداء الصلاة، ومقدار نصاب الزكاة، وأحكام الصوم، ومناسك الحج، ولولاه لما عرف الناس من ذلك شيئاً، وإذا كان القرآن الذي لا اختلاف فيه، والذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه بحاجة إلى مبين، فإن السنة النبوية أحوج من القرآن إلى من يبينها، وذلك لكثرة الاختلاف الذي حصل فيها ولكثرة الدس والكذب الذي طرأ عليها، وإنه من الطبيعي جداً، بل من الضروريات العقلية أن يعتني كل رسول بالرسالة التي بعث بها، فيقيم عليها وصياً وقيماً بوحي من ربه حتى لا تضيع الرسالة بموته، ولأجل ذلك كان لكل نبي وصي، ولكل ذلك أعد رسول الله «صلى الله عليه وآله وسلم» خليفته ووصيه على أمته علي بن ابي طالب ورباه منذ صغره بأخلاق النبوة، وعلمه في كبره علم الأولين والآخرين، وخصه بأسرار لا يعرفها غيره، ودل الأمة عليه مراراً وأرشدهم إيه تكراراً ...))(41).

شبهات وردود:

نص الشبهة:

حاول ابن تيمية وأتباعه إثارة الشبهات حول حديث الثقلين وواحدة من تلك الشبهات التي حاول ابن تيمية التأكيد عليها هي عدم إخراج البخاري لحديث الثقلين لأنه لو كان صحيحاً لذكره البخاري في صحيحه.

قال ابن تيمية في كتابه منهاج السنة:

((والذي رواه مسلم انه بغدير خم قال إني تارك فيكم الثقلين كتاب الله، فذكر كتاب الله وحض عليه ثم قال وعترتي أهل بيتي أذكركم الله في أهل بيتي ثلاثاً وهذا مما انفرد به مسلم ولم يروه البخاري ...)).(42)

الجواب:

تكاد تجتمع كلمة علماء أهل السنة ومحققيهم على ان الحديث الصحيح لا يشترط وجوده في كتابي مسلم والبخاري، وان عدم ذكر البخاري ومسلم أو احدهما حديثاً ما لا يدل يقيناً على ضعف ذلك الحديث، وذلك للأسباب التالية:

- أن البخاري اقتصر على الأحاديث التي وصفها هو بأنها صحيحة، وترك المائتي ألف حديث الأخرى، ولم يكتف بذلك حتى اقتصر على بعض ذلك الصحيح وترك بقيته، وقد نقل الذهبي في «سير أعلام النبلاء» عن البخاري قوله: (لم أخرج في الكتاب إلا صحيحاً. قال: وما تركت من الصحيح أكثر)(43).

لان البخاري كما ذكر في محله صرح بأنه يحفظ مائة ألف حديث صحيح ولكنه لم يذكر منها إلا أربعة آلاف أو أكثر بقليل مع المكرر أما من دون المكررات فعددها لا يتجاوز الثلاثة آلاف حديث أو اقل، وهذا يعني انه ترك ذكر ما يقارب ثلاثة وتسعين ألف حديث اعترف نفسه بصحتها.

- وقد صرح الحاكم النيسابوري في مستدركه ان الحديث الصحيح لا ينحصر وجوده في صحيح البخاري بل ولا في الصحيحين جميعا فقال في مقدمته:

((… أبو عبد الله محمد بن إسماعيل الجعفي، وأبو الحسين مسلم ابن الحجاج القشيري…صنفا في صحيح الأخبار كتابين مهذبين انتشر ذكرهما في الأقطار، ولم يحكما ولا واحد منهما أنه لم يصح من الحديث غير ما أخرجه)).(44)

- بل صرح النووي نقلا عن الشيخ تقي الدين ان الحديث الذي يرويه أحدهما «البخاري أو مسلم» مقطوع بصحته عند المحققين وعند الأكثر إذا تواتر إذ قال: ((وذكر الشيخ تقي الدين أن ما روياه أو أحدهما فهو مقطوع بصحته والعلم القطعي حاصل فيه، وخالفه المحققون والأكثرون، فقالوا: يفيد الظن ما لم يتواتر، والله أعلم)).(45)

ومسلم قد روى حديث الثقلين، إضافة إلى اعتراف عدة من أعلامهم بتواتره فيكون مقطوعاً بصحته ويكون العلم القطعي حاصلاً فيه.

لذلك فمحاولة تحطيم الحديث من ابن تيمية بحجة عدم إخراج البخاري له في صحيحه هي محاولة فاشلة، فقد ثبت بحمد الله ان الحديث الصحيح يبقى صحيحاً حتى لو لم يخرجه البخاري بل حتى لو لم يخرجه مسلم أيضا في صحيحه.(46)

الشواهد الشعرية:

1. الحماني الأفوه:

تــراث لهم مــــن آدم ومحـــــمد ... إلى الثقلين من وصايا ومصحف

وقال أيضاً:

يا عديل القرآن من بين ذا الخلق ... ويــــا واحــــدا مــــن الثقــــلـــين

2. الحافظ رجب البرسي:

هو سيد الكونين بل هو أشرف ... الثقلين حـقاً والنذير الناصح

3. حسن ابراهيم محسن:

لا الشعر وفي مدحكم أرضاني ... والنفس في شوق وفي أحزان

يا سيد الثقلين جئتك ساعــــــياً ... والروح تسبق خطوتي ومكاني

وقال في نفس القصيدة:

هو سيد الثقلين ماذا ترتجي ... ألا تسارع للجديد تداني

ألا تحاول أن تكـــــــون بسيرة ... محـــــكية بالشعر والأوزان

وقال أيضاً:

يا سيد الثقلين أحمـل لاسمه ... سبطا فهل لي يشفع السبطان

وهما كما أدري حبيبا سيدي ... ابنا لفاطـــــــــمة الحبيب كفاني

وختاماً:

نسأل الله سبحانه وتعالى ان يرزقنا في الدنيا زيارة أمير المؤمنين وفي الآخرة شفاعته، ... والحمد لله رب العالمين

الهوامش:

(1). تنقيح المقال ج1 ص403، سيرة الأئمة الاثني عشر لهاشم الحسني ج1ص145 ، الإمامة في ضوء الكتاب والسنة لمهدي السماوي ص229 ، وفي الكنى والألقاب للقمي ج2 ص349 نسبه للشافعي ، وفي المناقب للخوارزمي ص8 عن بعض الفضلاء ولم يسميه.

(2). فتح الملك العلي بصحة حديث باب مدينة العلم علي للمغربي ص20، الصواعق المحرقة لأبن حجر ص118، إسعاف الراغبين بهامش نور الأبصار ص149، الرياض النضرة لمحب الدين الطبري ج2 ص282.

(3). سورة آل عمران / الآية (61).

(4). مسند أحمد بن حنبل ج18 ص114.

(5). الصواعق المحرقة لأبن حجر ج2 ص440.

(6). القاموس المحيط ج3 ص353.

(7). فيض القدير شرح الجامع الصغير للمناوي ج2 ص175.

(8). لسان العرب لأبن منظور ج11 ص88 مادة (ثقل).

(9). الصواعق المحرقة لأبن حجر ص151.

(10). الفائق في غريب الحديث ج1 ص150.

(11). لسان العرب لأبن منظور ج4 ص538 مادة (عتر).

(12). سورة آل عمران: الآية 61.

(13). صحيح مسلم ج4 ص1871، مسند أحمد بن حنبل ج1 ص185، سنن الترمذي ج5 ص225، المستدرك على الصحيحين ج3 ص150، وقال: هذا حديث صحيح على شرط الشيخين ولم يخرجاه ووافقه الذهبي.

(14). المرط: كساء من صوف، أو من خز أو غيرهما، والمرحل: الذي نقش فيه تصاوير الرحال.

(15). سورة الأحزاب: الآية/ 33.

(16). صحيح مسلم ج4 ص1883.

(17). راجع قواميس اللغة ومنها: مختار الصحاح ص624 مادة «م س ك»: تمسَّك به بمعنى اعتصم به.

(18). المعجم الكبير للبطراني ج 3 ص63، ح2682.

(19). سورة آل عمران: الآية / 31.

(20). الإصابة لابن حجر ج4 ص16.

(21). مفاتيح الجنان للقُمّي، دعاء عند كل زوال من أيام شعبان، المروي بسند معتبر عن الإمام السجاد «عليه السلام».

(22). سورة النحل: الآية / 89.

(23). بحث: حديث الثقلين للشيخ أحمد محمد الطفيلي.

(24). صحيح مسلم ج4 ص1873.

(25). مسند أحمد بن حنبل ج3 ص59 ، كتاب السنة لأبن أبي عاصم ص 629 ، شرح السنة للبغوي ج14ص119.

(26). الدوحات عظام: الأشجار العظيمة.

(27). المستدرك على الصحيحين ج3 ص109.

(28). سنن الترمذي ج5 ص622.

(29). سنن الترمذي ج5 ص663.

(30). المستدرك على الصحيحين للحاكم الحسكاني ج3 ص148.

(31). المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج1 ص 93.

(32). المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج1 ص93.

(33). الفقيه والمتفقه للخطيب البغدادي ج1 ص94.

(34). طبقات المحدثين بأصبهان ابو الشيخ ج2 ص288.

(35). مركز الابحاث العقائدية (الاسئلة والاجوبة).

(36). تذكرة الحفاظ للذهبي ج1 ص3.

(37). سورة الشورى: الآية/ 23.

(38). المستدرك للحاكم ج3 ص121، تاريخ الخلفاء للسيوطي ص73، خصائص النسائي ص24، مناقب الخوارزمي ص82

(39). جامع بيان العلم ج2 ص174.

(40). سورة النحل: الآية/ 44.

(41). الشيعة هم أهل السنة الدكتور محمد التيجاني السماوي ص117.

(42). منهاج السنة النبوية لابن تيمية ج7 ص318.

(43). سير أعلام النبلاء للذهبي ج 12 ص471.

(44). المستدرك على الصحيحين للحاكم النيسابوري ج1 ص2.

(45). التقريب والتيسير لمعرفة سنن البشير النذير في أصول الحديث ج1 ص1.

(46). موقع قسم الشؤون الفكرية والثقافية / مكتبة العتبة الحسينية المقدسة نشر بتاريخ 23 /7 /2015


قناتنا على التلغرام : https://t.me/kitabat


حامد كماش آل حسين
 (للدخول لصفحة الكاتب إضغط هنا)

    طباعة   ||   أخبر صديقك عن الموضوع   ||   إضافة تعليق   ||   التاريخ : 2024/02/13



كتابة تعليق لموضوع : مقالات في مناقب المرتضى 20. لقب «سيد الثقلين»:
الإسم * :
بريدك الالكتروني :
نص التعليق * :
 



حمل تطبيق (كتابات في الميزان) من Google Play



اعلان هام من قبل موقع كتابات في الميزان

البحث :





الكتّاب :

الملفات :

مقالات مهمة :



 إنسانية الإمام السيستاني

 بعد إحراجهم بكشف عصيانها وخيانتهم للشعب: المرجعية الدينية العليا تـُحرج الحكومة بمخالفة كلام المعصومين.. والعاصفة تقترب!!!

 كلام موجه الى العقلاء من ابناء شعبي ( 1 )

 حقيقة الادعياء .. متمرجعون وسفراء

 قراءة في خطبة المرجعية : هل اقترب أَجلُ الحكومةِ الحالية؟!

 خطر البترية على بعض اتباع المرجعية قراءة في تاثيرات الادعياء على اتباع العلماء

 إلى دعاة المرجعية العربية العراقية ..مع كل الاحترام

 مهزلة بيان الصرخي حول سوريا

 قراءة في خطبة الجمعة ( 4 / رمضان/ 1437هـ الموافق 10/6/2016 )

 المؤسسة الدينية بين الواقع والافتراء : سلسلة مقالات للشيخ محمد مهدي الاصفي ردا على حسن الكشميري وكتابيه (جولة في دهاليز مظلمة) و(محنة الهروب من الواقع)

 الى الحميداوي ( لانتوقع منكم غير الفتنة )

 السيستاني .. رسالة مهدوية عاجلة

 من عطاء المرجعية العليا

 قراءة في فتوى الدفاع المقدس وتحصين فكر الأمة

 فتوى السيد السيستاني بالجهاد الكفائي وصداها في الصحافة العالمية

 ما هو رأي أستاذ فقهاء النجف وقم المشرّفتَين السيد الخوئي بمن غصب الخلافة ؟

 مواقف شديدة الحساسية/٢ "بانوراما" الحشد..

أحدث مقالات الكتّاب :





 لنشر مقالاتكم يمكنكم مراسلتنا على info@kitabat.info

تم تأسيس الموقع بتاريخ 1/4/2010 © محمد البغدادي 

 لا تتحمل الإدارة مسؤولية ما ينشر في الموقع من الناحيتين القانونية والأخلاقية.

  Designed , Hosted & Programmed By : King 4 Host . Net